سكونية الاقتصاد الريعي الخليجي وتجميد التناقضات الطبقية
ليث الجادر
2025 / 8 / 6 - 10:02
لماذا يبدو الاقتصاد الريعي في دول الخليج استاتيكيًا؟
رغم أن دول الخليج تشترك مع العراق في بنية الاقتصاد الريعي، فإنها تبدو على السطح أكثر استقرارًا وأقل عرضة للاهتزازات الاجتماعية أو التوترات الطبقية. يعود ذلك إلى مجموعة من العوامل المتشابكة التي جعلت من الريع آلية لتجميد التناقضات، بدل أن يكون مولّدًا لصراعات اجتماعية أو حافزًا على التحول الإنتاجي:
1. حجم الريع وكثافته مقارنة بعدد السكان
يمتاز الريع الخليجي بضخامته واتساعه، إذ لا يعتمد فقط على عائدات النفط، بل يشمل استثمارات سيادية ضخمة، ومصادر دخل خارجي متجددة. يُقابل هذا الحجم الكبير من الريع عدد سكان منخفض نسبيًا، خاصة في ما يتعلق بالمواطنين، ما يجعل التوزيع الريعي أكثر سهولة وشمولًا. يمكن للدولة أن تؤمّن لكل مواطن وظيفة حكومية أو دعمًا ماليًا مباشرًا دون الحاجة إلى فرض ضرائب أو تطوير إنتاج داخلي. هذا يُنتج نوعًا من "الاستقرار المصطنع" قائم على قدرة الدولة على الشراء الدائم للولاء الاجتماعي.
2. وجود طبقة عاملة أجنبية مؤقتة
الطبقة العاملة الحقيقية التي تنهض بأعباء البناء والخدمات ليست مواطِنة، بل وافدة، وغالبًا محرومة من الحقوق السياسية والاجتماعية. هذا الترتيب يمنع نشوء وعي طبقي داخل النسيج الوطني، ويجعل الصراع الطبقي المؤهل للتفجّر مؤجلًا، معزولًا، ومُدارًا قانونيًا. المواطن الخليجي لا يرى نفسه عاملًا أو مستغَلاً، بل إداريًا في جهاز الدولة، أو مالكًا صغيرًا، أو مستفيدًا من الريع العام.
3. التماهي بين الدولة والبنية القبلية/العشائرية
في السياق الخليجي، لا يُنظر إلى الدولة باعتبارها جهاز قمع طبقي، بل بوصفها امتدادًا للعائلة أو القبيلة أو الطائفة، وهو ما يشرعن سلوكها ويمنحها غطاءً رمزيًا. الدولة ليست غريبة عن المجتمع، بل "الشيخ/الأب/الراعي"، وهذا يُفرّغ النقاشات الطبقية من محتواها، ويستبدلها بمنطق الولاء والتدرج الهرمي المشروع.
4. الاستثمار في آليات السيطرة الناعمة
تلعب النظم الخليجية دورًا بارزًا في هندسة الوعي الاجتماعي من خلال التعليم، الإعلام، الدين الرسمي، والبيروقراطية، بما يعيد إنتاج ثقافة الطاعة، والرضا، والولاء القَبلي والديني. يُعاد تفسير التمايز الطبقي كنتاج للجهد الفردي أو "البركة"، لا كنتيجة لاستغلال طبقي. بهذه الطريقة، تُزال البُنية الفوقية المعارضة، ويُدجّن الوعي العام.
5. الحماية الخارجية المطلقة
واحدة من أعمدة استقرار الاقتصاد الريعي الخليجي هي الحماية الخارجية التي توفرها القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. هذه الحماية لا تقتصر على الجانب العسكري والأمني، بل تمتد إلى ضمان استمرار تدفق الريع وحماية الأنظمة من أي تغيير جذري داخلي. يشكّل هذا الغطاء الدولي عنصرًا حاسمًا في هندسة الاستقرار، إذ يرفع القلق الوجودي عن النخبة الحاكمة، ويمنحها هامشًا واسعًا لتأجيل الإصلاح أو مقاومة الضغوط الداخلية.
إن هذه العوامل الخمسة تُنتج بنية اقتصادية – سياسية يُعاد فيها إنتاج السكون، ويُقمع فيها التناقض. يبدو الريع وكأنه نظام أزلي، لا يخضع لتحولات بنيوية أو اشتراطات تاريخية. لكن هذا السكون الظاهري قد يُخفي توترًا عميقًا، يُحتمل أن ينفجر مع تغير شروط التوزيع، أو صعود أجيال جديدة لا ترى في الريع وحده مستقبلها.
خلاصة الفصل:
الاقتصاد الريعي الخليجي يشبه ماءً راكدًا فوق حجر ساخن: سطحه ساكن بفعل وفرة المال والحماية، لكن تحته حرارة التناقض المؤجل. ما يبدو استاتيكيًا قد لا يكون مستقرًا جوهريًا، بل مجمّدًا بفعل أدوات السيطرة الناعمة والخشنة، المحلية والدولية.
وهنا تبرز إشارة جوهرية: إن كل ما ذكرناه من استاتيكية دائمة للاقتصاد الريعي الخليجي، ومن محو لمعنى الصراع الطبقي، إنما يستند في جوهره إلى حقيقة أن هذه الاقتصاديات لم تمرّ بمسار تاريخي لتطور الإنتاجية. لم تعرف دول الخليج تاريخًا حقيقيًا للعمل أو الإنتاج السلعي بالمعنى الصناعي أو الزراعي المكثف. لقد انتقلت مباشرة من أنماط اقتصادية بدائية – كالصيد البحري، والبداوة، والتجارة البسيطة – إلى الاندماج في تجارة البترول العالمية، دون المرور بالتحولات البنيوية التي تصنع التناقضات الطبقية الكلاسيكية. ولهذا فإن "الاستقرار" في هذه الحالة ليس نتاج حلّ الصراع، بل نتاج غيابه المؤقت بسبب غياب شروطه البنيوية.