هل أفلت النظرية الثورية الماركسية في الاقتصاد الريعي
ليث الجادر
2025 / 8 / 5 - 18:22
قد يقودنا تشوّه وظيفة قوة العمل في الاقتصاد الريعي، كما في العراق، إلى استنتاج متسرّع بأفول النظرية الثورية الماركسية، أو على الأقل تراجع قابليتها التفسيرية والعملية في مثل هذا السياق. وهذا استنتاج صحيح ظاهريًا فقط، إذا افترضنا خلود بنية الاقتصاد الريعي، واستتباب سلطة قادرة على قمع كل إمكانات التغيير، وتجميد مفردات النشاط الاقتصادي والاجتماعي عند حدود إعادة توزيع الريع.
لكن هذا الاستنتاج سرعان ما يتقوّض حين ننظر إلى الحالة الطبقية المتأزمة، وإلى معاناة الطبقات الدنيا المُفقرة والمهمّشة، والتي لا تجد حتى في وظائفها الزبائنية ما يسدّ رمقها أو يحفظ كرامتها. هنا يعاود سؤال الخلاص حضوره، لا كترف نظري بل كحاجة اجتماعية ضاغطة، تفرض علينا مواجهة مفترق طرق:
1. مشروع إصلاحي أخلاقي جذري، يقوم على إعادة توزيع عائدات الريع بنهجٍ عادل، يضمن الارتقاء بظروف الفئات الدنيا والانتقال إلى نمط دولة الرفاه الريعية. لكنه مشروع يتطلب سلطة ملائكية الطبع والنوايا، قادرة على كبح جماح الفساد البنيوي والولاءات الطائفية والعشائرية، وهو ما يبدو شبه مستحيل في السياق العراقي.
2. مشروع تنموي انفجاري، ينقل مركز الثقل من إعادة توزيع الفائض الريعي إلى إعادة تدويره في بناء اقتصاد إنتاجي سلعي، ما يستدعي بالضرورة نشوء علاقات إنتاج جديدة، وتحوّلاً في البنية الطبقية، وتموضعًا ماديًا جديدًا للطبقات العاملة والمهمّشة.
وبينما يبدو الخيار الأول طوباويًا هشًّا، فإن الثاني، بحكم منطقه الداخلي وحتمياته المادية، يضعنا أمام عودة الحل الثوري الماركسي لا كخيار أخلاقي، بل كاستحقاق تاريخي استباقي. ففي لحظة يتحرك فيها الريع من مجال السيطرة السياسية إلى مجال الإنتاج، تستعيد قوة العمل وظيفتها التاريخية، ويعود الصراع الطبقي ليشتغل ضمن شروطه الأصلية: الاستغلال، القيمة، والعمل المأجور.
بهذا، لا تُستبعَد النظرية الماركسية من الواقع الريعي، بل تُؤجَّل فاعليتها، في انتظار اللحظة التي تنفجر فيها التناقضات المتراكمة، وتعود قوة العمل من موضعها كموضوع للضبط إلى موقعها كقوة للتغيير.
تفصيل ختامي:
إن قابلية النظرية الماركسية على الاستمرار لا تتعلق بإيمان مسبق بها، بل بقدرتها على تفسير صيرورات مادية عميقة، لا يمكن تغطيتها بالترقيع السياسي أو الإنفاق الريعي المؤقت. ولعلّ ما يجعل المشروع التنموي الانفجاري احتمالًا واقعيًا هو أنه لا يُهدد فقط البنية الاقتصادية القائمة، بل يُقوّض امتيازات النخبة الريعية، ويُعيد تعريف السلطة من السيطرة على الريع إلى الإنتاج المشترك للثروة.
كما أن هذه التناقضات لا تقتصر على العلاقات الاقتصادية الصلبة، بل تتسرّب أيضًا إلى التكوين الاجتماعي، في ملامحه المناطقية، والهجرات المتصاعدة، والانقسامات الطائفية – أي في تفكك النسيج الاجتماعي نفسه. وإذا كان الاقتصاد الريعي قد جمّد الصراع الطبقي من حيث الشكل، فقد غذّاه من حيث الجوهر، بخلق مزيد من اللاعدالة، والتبعية، والتسليع المجاني للإنسان.
وفي لحظة يتحوّل فيها هذا التناقض من سكون إلى انفجار، لا يعود الاستدعاء النظري للماركسية فعلاً أكاديميًا، بل يصبح جزءًا من وعي الضرورة. حينها، لا يُستأنف التاريخ فقط، بل تُستأنف الثورات المؤجلة، ويعود العمل إلى موقعه كجوهر للوجود الاجتماعي لا كعبء زبائني على الدولة.