26. من هندسة الانقسام إلى بناء التنظيم القاعدي
عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 8 / 3 - 15:14
قانون الاتحادات المهنية لسنة 2004 لم يكن سوى غلاف بيروقراطي لإحكام السيطرة على التنظيمات النقابية، عبر تحويلها إلى كيانات شكلية تُدمج قسرًا في أجهزة الدولة السلطوية. ما قُدِّم كتشريع لتنظيم المهن، كان في جوهره بنية هندسية لشلّ القواعد، عبر تكريس هيمنة "المكتب التنفيذي" وتهميش المشاركة القاعدية. اتحاد المعلمين المهني، كمثال، كان التجسيد الأوضح لهذا التوجّه، حيث لعب دورًا تنسيقيًا وظيفيًا لإعادة إنتاج الخضوع باسم التنظيم، مطوّعًا الجهاز التعليمي لمقاييس الولاء السياسي، لا الكفاءة أو النضال. هذه القوانين لم تُكتب بلغة العدالة، بل بيد الطبقات المتحالفة مع السلطة، لتتحوّل النقابات إلى آليات لإدارة الصمت، بدل أن تكون أدوات للصراع الطبقي.
هذا القانون لم يكن حالة شاذة، بل ترسًا في آلة السيطرة الأوسع للدولة السلطوية، التي تُعَدّ أداة رئيسية في خدمة الطبقة البرجوازية. الاتحاد المهني شُيّد كقناة لإعادة إنتاج بنية الطاعة في التعليم، عبر فرض تمثيل مصنّع، لا ينبع من الإرادة الجماعية، بل يُركَّب من فوق ويُدار وفق منطق التعيين لا الانتخاب. بذلك، تحوّل الإتحاد من سلاح في يد العاملين إلى قيد على حركتهم، من تعبير عن الإرادة الجماعية إلى امتداد إداري للمخزن البيروقراطي، يُدير التذمّر ويمنع التصعيد، ويُجهز على أية بادرة تمرّد داخل المهنة. هذا النمط من "الاتحاد" ليس انحرافًا عرضيًا، بل هو امتداد عضوي لدولة تُعاد هندستها لتنتج خضوعًا مستدامًا، حيث تغدو النقابات مجرّد ملحقات إدارية بغطاء مهني.
القمع لم يُمارس فقط عبر هذا الاتحاد المصنوع، بل وُسّع ليشمل النقابة الرسمية الخاضعة لقانون آخر: قانون النقابات 1992، المُعدّل في 2001، والمُتوّج بقانون 2010، الذي أعاد تعريف النقابة كفرع من أفرع الدولة. الازدواج الذي خلقته السلطة – نقابة رسمية واتحاد مهني – لم يكن تعبيرًا عن تعددية، بل آلية لاحتكار التمثيل، يُستخدم فيها كل طرف لتفريغ الآخر، وتحقيق سيطرة مضاعفة على القواعد. كانت هذه هندسة للانقسام، لا للتنظيم في هيكل مزدوج يُدار من الأعلى ويقفل الأبواب أمام التنظيم الديمقراطي ويمنع تشكّل البديل القاعدي.
هذه البنية المزدوجة لم تكن خللًا، بل مقصودة بدقة سياسية. منذ 2004 وحتى اليوم، ظلت هذه الهندسة تعمل بنفس المنطق: منع تكوّن أي نقابة مستقلة فعلًا، وتجفيف منابع التمثيل الذاتي. تم إقصاء القوى الأكثر هشاشة في القطاع المهني – مثلا العاملات في القطاع غير الرسمي – حيث تم تجاهل مطالبهن بالكامل، في استبعاد طبقي وجندري ممنهج في صورة تكشف كيف يُستخدم القانون كأداة لإعادة إنتاج السيطرة المتقاطعة، وإبقاء الأضعف بلا صوت ولا تمثيل. إن هذه الظاهرة ليست حكراً على السياق المحلي، بل هي استراتيجية عالمية للرأسمالية والدولة البيروقراطية، يمكن ملاحظتها في قوانين العمل القمعية التي سُنّت في دول مثل بريطانيا في عهد تاتشر، أو في محاولات حكومات جنوب أفريقيا بعد الفصل العنصري لإدماج النقابات في هياكل رسمية تُحيد نضالها، وهو ما يتماهى مع توجيهات المؤسسات الرأسمالية العالمية مثل صندوق النقد والبنك الدولي التي تشترط تحييد الحركة العمالية مقابل الدعم المالي، لتصير النقابة أداة دمج بدل أن تبقى أداة صراع.
في ضوء ذلك، فإن أي حديث عن "إصلاح" قانون الاتحادات المهنية هو إعادة تدوير للقمع. فالقانون لم يُخطئ في بعض مواده، بل تأسّس على منطق معادٍ للفعل النقابي من أساسه. المطالبة بالمراجعة دون المطالبة بالإلغاء الكامل، ليست سوى انخراط في وهم الإصلاح تحت سقف القمع. النقابات الحقيقية لا تولد من مراجعة نصوص قمعية، بل من معارك كسر هذه النصوص، وتفكيك البنية السلطوية التي كتبتها. إن النقابة التقليدية التي تُركز على المفاوضات مع الدولة والرأسمالية هي في جوهرها انعكاس للوعي النقابي الزائف الذي لا يرى ما وراء الإصلاحات الجزئية، ولا يلتقط طابع الصراع كجوهر للنقابة، لا كعرض مؤقت.
فكّ الازدواجية يبدأ بإلغاء قانون الاتحادات المهنية وكل ما تأسس عليه، لا بترقيعه؛ فدون هذا الإلغاء، سيظل أي فعل قاعدي محاصرًا ببنية قانونية مصمّمة لإجهاضه من الأصل. التنظيم القاعدي لا يمكن أن يتنفس في ظل بنية قانونية مصمّمة لخنقه، ولا ينمو داخل مؤسسات صيغت لضبطه، لا لتمثيله. الكنس القانوني لا يأتي كخطوة شكلية، بل كبداية لمسار طويل من إعادة بناء العلاقة بين التنظيم المهني والوعي الطبقي، من تحت.
الخطوة الثانية هي الإلغاء الكامل لكل القوانين التي كبّلت النقابات، وعلى رأسها قانون 2010، رمز الاستبداد التشريعي. أما البناء، فمصدره القواعد لا النخب. التنظيم لا يُكتب في لجان مشاورات فوقية، بل يتفجّر في لحظات المواجهة داخل الورشات والمستشفيات والمدارس والمحاكم. نقابة المعلمين الحقيقية تولد حين يُغلق الصف رفضًا، حين يهتف المعلمون ضد الفقر الممنهج، حين تتشكّل لجان الإضراب من قاعات التصحيح، ومن الصفوف المتكدّسة، ومن لحظات الإذلال الإداري اليومي.
كذلك، نقابة الأطباء تتأسس حين يُجبر الطبيب على إنقاذ مريض بلا دواء، في طوارئ بلا أجهزة، في بيئة صحية منهارة تُكثّف الشروط المادية للاستغلال. نقابة المحامين تتجسّد حين يُقاطع المحامون المحاكمات السياسية، ويرفضون تقاطع الأمن مع العدالة، ويعيدون الاعتبار لفعل المحاماة كأداة مواجهة لا مهنة حيادية. ونقابة العمال تبدأ حين يُواجه العامل الفصل، ويُضرب عمّال الورش والمصانع، ويتحوّلون من أدوات للإنتاج إلى فاعلين سياسيين يُطالبون بحقهم في القرار والعمل والكرامة. في كل هذه الحالات، تُستخدم أدوات الرقابة الرقمية والسوشيال ميديا من قِبل الأجهزة الأمنية لتعقب المنظمين وقمعهم، ولكن في المقابل، تُصبح هذه الأدوات ساحات جديدة لتنظيم الإضرابات والتعبئة، ما يعيد تعريف شكل التنظيم النقابي ويمنحه طابعًا لا مركزيًا أكثر ثورية.
النقابة ليست هيكلًا قانونيًا يُصاغ من أجل الاعتراف، بل علاقة صراع تُنتزع بالضغط، وتتكوّن في خضم الكفاح. كل محاولة لتشريع العمل النقابي من فوق هي إعادة ترتيب للقيود. النقابة لا تُمنح كما تُمنح التراخيص، بل تُنتزع كما يُنتزع الخبز. لا تُكتب كمادة دستورية، بل تتشكّل كضرورة جماعية، وتُنتج من تحت، من ميدان التوتر، من مخزون الغضب. لا قانون دون الجماهير، ولا شرعية دون النضال. وأي تنظيم لا ينبع من القواعد، فهو مجرّد شبح يُدار بالريموت.
النضال النقابي هو نضال ضد البيروقراطية والرأسمالية معًا. فلا تحرير لنقابة إلا بتحطيم منظومة القمع التي تطوّقها، ولا قانون ديمقراطي إلا حين يكون تعبيرًا عضويًا عن حركة الجماهير لا امتدادًا للمكتب التنفيذي للدولة. التنظيم النقابي جزء من معركة تحرر أشمل، لأن النقابة ليست هدفًا في ذاتها، بل خطوة في طريق قلب ميزان القوى لصالح من ينتجون الحياة، ويُهمّشون في كل مؤسساتها.
يمثل تحرير النقابات من قبضة البيروقراطية السلطوية خطوة أساسية في طريق تحرير المجتمع بأكمله. فالدولة السلطوية التي تُقيّد العمل النقابي هي نفسها التي تُقمع الحريات السياسية وتُخضع المجتمع لإرادة رأس المال العالمي. لذا، فإن أي نضال نقابي حقيقي هو بالضرورة نضال سياسي ضد ديكتاتورية الدولة وتبعيتها للإمبريالية. لا يمكن فصل معركة العمال من أجل نقابة مستقلة عن معركة الجماهير من أجل نظام سياسي ديمقراطي حقيقي، ينهي الاستغلال الطبقي والسيطرة الأجنبية. إن تحطيم هياكل القمع النقابي هو جسر نحو بناء الجبهة العمالية العريضة القادرة على مواجهة الدولة البيروقراطية والبرجوازية المحلية وشركائها الأجانب.
بهذا الفهم وحده، يمكن أن تنشأ نقابة تعبّر عن أصحابها، لا تُزيّف باسمهم. نقابة تُجسّد الصراع لا تُخمده. نقابة تتنفس من أسفل، وتضرب إلى الأمام. نقابة لا تكتبها الدولة، بل تكتبها الطبقة حين ترفع قبضتها وتنزل إلى الساحات.
"لا يمكن للطبقة العاملة أن تتحرر إلا بكسر سلاسلها. والإضراب الجماهيري هو السلاح الوحيد الذي تستخدمه الطبقة العاملة لتحرير نفسها."
روزا لوكسمبورغ
غدا محور جديد من: النقابات في السودان – من أدوات الترويض إلى جبهات الثورة
النضال مستمر،،