من -الطنين- إلى -الإنكار-: تفنيد ماركسي لمقال تاج السر عثمان


عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 8 / 2 - 07:13     

يحمل مقال تاج السر عثمان المنشور مؤخرًا في "الحوار المتمدن" نبرة دفاعية مكثفة تُخفي وراءها قلقًا مشروعًا من النقد الجذري الذي وُجه إلى وثيقة الحزب الشيوعي حول النقابات. غير أن ما بدا ردًا على نقد نظري، تحوّل سريعًا إلى خطاب إنكاري محض، يُغفل الأسئلة المحورية، ويتجاهل الطابع التاريخي لأزمة الخطاب النقابي داخل الحزب. افتقر المقال لأي معالجة جدلية للموضوع، وركّز عوضًا عن ذلك على تصفية حسابات مع اللغة، وعلى تعويم الموقف الماركسي باسم الواقعية السياسية.

يبدأ المقال بهجوم لفظي على الاقتباسات الماركسية بوصفها “حشوًا لغويًا”، وهي بداية كاشفة عن رؤية اختزالية للدور النظري في العمل السياسي. حين يُختزل الاستناد إلى ماركس ولينين وتروتسكي بأنه "طنين فارغ"، نكون أمام مقاربة تعاني من انقطاع كامل عن الأدبيات الثورية التي طالما ربطت بين التحليل العياني والمرجعية النظرية. هذه ليست مسألة شكلية، بل مسألة تتعلق بمنهجية الفهم. فالاشتغال الماركسي لا يتحقق إلا من خلال الجدل الدائم بين العام والخاص، بين النظرية والممارسة، وهو ما غاب تمامًا عن مقال تاج السر الذي بدا وكأنه يحتكم إلى معيار براغماتي لا يتحرّك إلا ضمن أفق الممكن السياسي كما يراه الحزب، لا كما تفرضه مهام الطبقة العاملة.

في معرض دفاعه عن وثيقة الحزب، يعتمد المقال على حجة شكلية مفادها أن الوثيقة لم تُعِد تقديم تحليل طبقي شامل لأنها “لم تُكتب لذلك الغرض”. هذه الحجة تفتح الباب أمام تساؤل أعمق: هل يصح أن يُنتج حزب ماركسي وثيقة نقابية تفصل بين النقابة كأداة تنظيمية، وبين الدولة كأداة قمع طبقي؟ هل يمكن تقديم تصور نقابي دون موضعة الصراع داخل البنية الطبقية الكاملة للنظام؟ إن تبرير الصمت عن هذا الربط الحاسم بذريعة “تحديد الموضوع” يكشف عن تصور محدود لوظيفة الوثيقة، بل ويشير إلى ابتعاد فعلي عن التحليل الملموس الذي لا يتم بالاجتزاء بل بالربط الجدلي بين المستويات.

يتعمد المقال التغافل عن مضمون النقد الموجه للوثيقة، ويتعامل مع الماركسية كما لو كانت مجرد ستار لغوي، لا أداة تحليلية. هذا المنهج يُعلي من التجربة الحزبية بوصفها معيارًا للصدق السياسي، متجاوزًا ما تتطلبه اللحظة الثورية من تفكيك للسرديات التقليدية التي تتغذى على التراكم التاريخي دون مساءلة. يصبح الموقف الصحيح هو ما صادقت عليه قيادة الحزب، أما ما عداه فهو تغريد خارج السرب، أو كما يقول الكاتب: "طنين".

في أكثر مواضعه حساسية، يستند المقال إلى “سجل نضالي” للحزب للدفاع عن رؤيته الحالية، وكأن الموقف الطبقي الثوري يُقاس بالذاكرة وحدها. التاريخ له وزنه بالطبع، لكنه لا يُعفي من مراجعة السياسات الراهنة، ولا يبرر خطابًا نقابيًا خاليًا من التحريض المباشر ضد السلطة الطبقية الحاكمة. لا نجد في المقال، ولا في الوثيقة، أي توجه نحو بناء أدوات القوة العمالية أو نحو مساءلة الدولة باعتبارها جهازًا طبقيًا، بل نجد حديثًا محايدًا عن “إعادة بناء النقابات”، وكأنها كيانات فوق طبقية يمكن التفاوض حولها خارج موازين القوى الفعلية.

إن الاعتماد على التاريخ كدرع لا يحمي من النقد الماركسي، بل على العكس، يوجب مساءلة هذا التاريخ ذاته. فمسار الحزب الشيوعي السوداني، شأنه شأن أي تنظيم، لم يكن خطًا مستقيمًا من الصراع الثوري. بل شهد محطات من المهادنة والمساومة، كان أبرزها في فترة "الديمقراطية الثالثة" حيث انخرط في مفاوضات مع سلطة الدولة، واستبدل التسييس الجذري للنقابات بخطاب إصلاحي محدود. إن ما يحاول تاج السر تقديمه اليوم ليس سوى إعادة إنتاج لتلك التجربة، حيث يُطلب من النقابة أن تكون "شريكًا" في عملية انتقالية لا تُمسّ فيها علاقات الإنتاج، بدل أن تكون "جبهة" تضرب مباشرة في قلب السلطة الطبقية.

لم يكن غياب الإحالة إلى الملكية الخاصة، إلى نمط الإنتاج، إلى علاقات السيطرة الطبقية، من قبيل المصادفة، بل يعكس توجهًا واقعيًا - بالمفهوم البرجوازي - يريد إبقاء العمل النقابي داخل هامش الإصلاح والضغط المشروع، لا بوصفه جبهة صراع طبقي. إن النقد الذي وُجه للوثيقة لم ينطلق من فراغ ولا من عداء تنظيمي، بل من موقف ماركسي يتساءل: كيف يمكن لحزب شيوعي أن يتحدث عن النقابات دون أن يُحدد موقعها من جهاز الدولة؟ من علاقات الإنتاج؟ من مشروع الثورة نفسه؟

إن غياب الإحالة إلى الملكية الخاصة ونمط الإنتاج ليس مجرد إهمال نظري، بل هو انعكاس لتوجه عملي. ففي السودان، حيث تسيطر رأسمالية طفيلية عسكرية ومدنية على مفاصل الاقتصاد، يصبح تحييد النقابات ضرورة لتسهيل الاستغلال. إن الحديث عن "إعادة بناء النقابات" بمعزل عن تفكيك هذه السيطرة هو خطاب فارغ. فالنقابة التي لا تسائل من يمتلك الذهب والشركات والموارد، ولا تطالب بالرقابة العمالية على الإنتاج، هي في الحقيقة أداة لتثبيت الأوضاع القائمة، لا لتغييرها جذريًا.

هذا النقد إذن ليس مجرد جدال حول وثيقة، بل هو كشف للعلاقة العضوية بين الخطاب الإصلاحي ومصالح الطبقة الحاكمة. في فقرتين متتاليتين، يندفع الكاتب نحو محاججة انفعالية ضد النقد، مكرّسًا منطق “إظهار الإنجازات” كوسيلة لحجب التقصير النظري. لكن ما يغيب هنا هو أن القصور لا يُقاس بعدد البيانات والمواقف، بل بموقع الحزب من العملية الثورية ذاتها. فالنقد لم يُنكر المواقف المعلنة، بل أشار إلى أنها تفتقر إلى الاتساق مع تحليل جذري للدولة والسلطة.

لم يكن القصد “تشويه الحزب”، بل فضح هشاشة الخطاب النقابي كما جاء في الوثيقة، وغياب التوصيف الطبقي للدولة، والميل إلى خطاب مطلبي يمكن تبنّيه حتى من قوى يمينية. وحين يكتب تاج السر أن النقد “لم يحدد فقرات بعينها”، فهو يعيد إنتاج تصور إجرائي للنقد، كأن المطلوب هو التصحيح اللغوي، لا التفكيك النظري للمنهج بأكمله. وهذا انزلاق خطير في فهم الماركسية، التي لا تعالج الخطأ بجمع الهوامش بل بزعزعة البنية الفكرية حين تكون مُعطّلة. غياب الفقرات المحددة ليس نقصًا، بل وعيٌ بأن الأزمة تكمن في طريقة التفكير، لا في صياغة جملة هنا أو هناك.

ما يغيب عن المقال هو أن الماركسية ليست انعكاسًا أمينًا للخط الحزبي، بل أداة لصياغة وتفكيك هذا الخط. حين نمارس النقد من داخل المرجعية الماركسية، فنحن لا نُمارس هدمًا ذاتيًا، بل نفتح أفقًا لتجاوز العجز السياسي الذي تمثله الوثيقة النقابية. تجاهل هذا البعد النقدي لا يعني سوى تكريس جمود تنظيمي لا ينتج إلا مزيدًا من الخطابات المغلقة.

إن النقد الماركسي لا يكتفي بالتفكيك، بل يطرح البديل. ففي مواجهة النقابات البيروقراطية التي تُدار من أعلى وتُكبّل بالقوانين، تكمن قوة الطبقة العاملة الحقيقية في اللجان العمالية القاعدية ولجان الإضراب التي تُبنى من الأسفل، في المصنع والمزرعة وورشة العمل. هذه اللجان هي الأطر التنظيمية الثورية التي تسمح للعمال بالتحرك خارج الأفق القانوني للدولة، وتُحوّل النضال الاقتصادي اليومي إلى وعي سياسي ثوري. إن تجاهل هذه الأشكال التنظيمية لصالح إحياء النقابات الرسمية ليس سوى تخلٍّ عن الأداة الثورية الأكثر فعالية في مواجهة جهاز الدولة القمعي.

تُختتم المقالة دون أن تقدم موقفًا عمليًا بديلًا، أو حتى ملامح حد أدنى من التحليل الملموس للبنية النقابية في السودان. وفي ذلك تأكيد ضمني على ما ورد في النقد الأصلي: نحن أمام خطاب يحتمي بالماضي، يُعيد صياغة التبرير بدل فتح المساءلة، ويغلق الباب على أي مراجعة جذرية بحجة "الحفاظ على الحزب".

قال تروتسكي: "الحقيقة الثورية لا يمكن أن تكون محايدة تجاه الخطأ البيروقراطي."

النضال مستمر،،