23. قانون تنظيم الاتحادات المهنية 2004: أداة السلطة لعزل الطبقة عن أدواتها
عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 7 / 31 - 23:58
لم تكن النقابة هيكلًا إداريًا ولا كيانا مهنيا محايدًا يهدف لتجويد الأداء، بل هي أداة صراع طبقي، نبتت من قلب معركة الإنتاج، ونمت عبر تضحيات العمال والمهنيين في مواجهة الاستغلال. وهي ليست مكافأة على الانضباط المهني، ولا عطية من الدولة لحسن السلوك، بل ثمرة مباشرة للنضال، ولولا الصراع لما وُجدت. هذه الحقيقة التاريخية، التي وثّقتها تضحيات الحركة العمالية في كل مكان، وهي بالضبط ما يسعى قانون تنظيم الاتحادات المهنية لسنة 2004 في السودان إلى محوه ومصادرته وإلغائه، عبر تفكيك النقابة من داخلها، وتحويلها من أداة تحرر إلى أداة ضبط.
هذا القانون يُصادر النشاط النقابي من جذوره. جوهره يتمثل في أن التنظيم النقابي ليس حقًا طبيعيًا للطبقة، بل امتياز يُمنح ويُسحب وفق مشيئة الدولة. هذا يتجلى منذ مادته الثالثة التي تنص على أنه "لا يجوز تكوين أي اتحاد مهني إلا وفقًا لأحكام هذا القانون"، وهو نص لا يحمل أي شبهة حياد تنظيمي، بل يُسجِّل احتكارًا قانونيًا كاملاً لفكرة التنظيم. الدولة وحدها من تملك حق الاعتراف، والطبقة لا تملك إلا أن تنتظر. التنظيم المستقل، الخارج عن شبكة الدولة، لا يُعد غير قانوني فحسب، بل جريمة مهنية.
يعمل هذا القانون على تقنين نفي كل ما هو حيّ وجذري في النقابة. من خلال موقع "المسجل العام"، يُنصّب القانون رقابة فوقية دائمة على الوعي النقابي. فالمسجل ليس مجرد جهة إدارية، بل هو ممثل للسلطة في قلب التنظيم. تمنحه المادة (4) حق تسجيل أو رفض أي اتحاد، دون ضوابط واضحة، وتمنحه المادة (19) سلطة إلغاء أي اتحاد يرى أنه "انحرف عن أهدافه". الانحراف هنا ليس فعلًا قانونيًا دقيقًا، بل حكما سياسيًا مطلقًا. أي تحرك نقابي يتجاوز الوظائف الإدارية إلى الفعل الجماهيري، يُصبح انحرافًا، وتُستخدم هذه السلطة لإجهاضه من داخله.
ولضمان إحكام القبضة، صُممت البنية التنظيمية في المادة (5) على شكل هرمي صارم، تبدأ من القاعدة فقط بالاسم، لكنها تصعد بسرعة نحو المركز، حيث تُركّز كل السلطة في الاتحاد القومي. هذا التصميم لا يعبّر عن تدرج ديمقراطي، بل عن نموذج للدولة نفسها كما تتصورها الطبقات الحاكمة: سلطة من الأعلى تُفرَض، لا قاعدة تقرر. الجماهير لا تختار شكلها التنظيمي، بل تُجبر على القبول بمسار جاهز، مكتوب سلفًا بلغة الدولة.
وفي المادة (13)، يعلن القانون عداءه الصريح لأي بعد نضالي في العمل النقابي. "يُحظر على الاتحاد ممارسة أي نشاط سياسي أو حزبي". بهذه الجملة، يتم شطب كامل للوظيفة السياسية للنقابة. لا يُسمح لها بمناقشة السياسات الاقتصادية، أو معارضة الخصخصة، أو الدفاع عن حق الإضراب، أو حتى اتخاذ موقف من قضايا عامة. النقابة، في تصور القانون، موظف إداري لتحسين الأداء، لا موقع نضالي للصراع ضد الاستغلال. الحظر ليس موجّهًا ضد الأحزاب، بل ضد الوعي الطبقي، ضد تحوّل النقابة إلى أداة لتسييس الواقع المهني، ضد كل ما يجعل العامل أو المهني فاعلًا لا تابعًا.
كل هذا يتم تحت غطاء قانوني دقيق، يستمر في تجريد النقابة من أدواتها واحدة تلو الأخرى. التمويل، مثلًا، يُخضع لرقابة السلطة الكاملة. من المادة (20) حتى (24)، نجد شبكة من القيود: المسجل العام يراجع الحسابات، ويملك سلطة الإيقاف والحجز والتجميد. التمويل، الذي هو شريان التنظيم، يصبح خاضعًا لسلطة تعاديه. أي موقف نقابي لا يرضي الدولة يمكن أن يُواجه بسلاح المال، بتجميد الحسابات، بإيقاف الدعم، بتجويع النقابة حتى تخضع أو تموت.
ثم تأتي المادة (8) لتستكمل عملية الإقصاء القانوني عبر شروط العضوية. يشترط القانون أن يكون العضو حائزًا على مؤهل معترف به ومسجلًا في مجلس مهني. بهذا، يتم استبعاد آلاف العاملين في القطاعات غير الرسمية، أو المهن غير المعترف بها، أو الذين يعملون بعقود هشّة. لا مكان في النقابة لمن هم خارج بنية الدولة. يتم حصر التنظيم داخل أسوار النخبة المعترف بها، ويُمنع من تمثيل أكثر الفئات تهميشًا، تلك التي تحتاجه فعلًا. النقابة لا تُبنى على قاعدة الطبقة، بل على قيد البيروقراطية.
أما عملية الانتخابات، المفترض أن تكون لحظة ديمقراطية، فهي تُدار كما يُدار مسرح الظل. من المادة (14) حتى (18)، تُحاط الانتخابات بلجان حيادية ظاهرًا، لكنها عمليًا لجان تابعة، تُعين وتُراقب وتُشرف على كل تفصيلة. تُصمم شروط الترشح والتصويت بما يضمن صعود العناصر الموالية، ويدفع بالعناصر الجذرية نحو الهامش. العملية الانتخابية لا تُدار كحق ديمقراطي للقاعدة، بل كإجراء شكلي لضمان استمرار السيطرة من الأعلى.
هكذا، يصبح القانون بأكمله جهازًا بيروقراطيًا لإدارة الولاء، لا لبناء التنظيم. الفكرة التي يتبناها لا تمت للنقابة بصلة، بل تُشبه نموذج الشركة الحديثة: تحسين الأداء، رفع الكفاءة، تجويد الخدمات. أما التفاوض، والإضراب، والمطالبة، والصراع، فهذه كلمات محرمة في قاموس القانون. النقابة تُختزل إلى جهاز إداري داخل منظومة الدولة، لا تخرج عنها ولا تعارضها.
الخطير في هذا القانون ليس فقط ما يمنعه، بل ما يصنعه: وعيًا زائفًا بالتنظيم. هو لا يحظر النقابة، بل يُنتج شكلًا زائفًا لها، فارغًا من المعنى، مطواعًا، خاضعًا، يردد شعارات الدولة ويعيش داخل حدودها. التنظيم هنا ليس آلية للمطالبة، بل وسيلة للإخماد. لا يُراد للنقابة أن تقاوم، بل أن تُدير السخط، أن تستهلك الغضب، أن تُعيد إنتاج القبول.
هذا ليس خللًا في التطبيق، بل بنية مرسومة بعناية. القانون لا يفشل في الديمقراطية، لأنه لا يطمح إليها أصلًا. هو جهاز قمع قانوني كامل، يُنظم الوعي ويمنع تشكله المستقل، ويحوّل النقابة إلى أداة للسلطة ضد الطبقة. كل بند فيه تمن صياغته ليحاصر، لا ليحرر، ليُسكت، لا ليُمكّن. هو قانون احتلال بيروقراطي للمجال النقابي.
الطبقة لا تحتاج إلى هذا القانون، بل إلى إسقاطه. لا يمكن إصلاحه، لأنه ليس هيكلًا فاسدًا بل سلاحًا بيد السلطة. النقابة، كما يعرفها التاريخ، وكما تُنتجها المعركة الطبقية، لا يمكن أن تُخلق من هذا النص، بل من نقيضه. من تنظيم ديمقراطي قاعدي، من إرادة تنبت من أسفل، من نضال لا يخضع، من وعي لا يستأذن.
"الدولة الحديثة ليست سوى لجنة لإدارة الشؤون المشتركة للبرجوازية جمعاء"
كارل ماركس – البيان الشيوعي
النضال مستمر،،