21. البيروقراطية الخائنة: نقابة بلا طبقة، ووثيقة بلا ماركسية


عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 7 / 30 - 07:26     

الوثيقة التي أصدرها الحزب الشيوعي السوداني بشأن النقابات ليست تعبيرًا عن خللٍ طارئ أو ارتباك تكتيكي، بل تمثل تمظهرًا ناضجًا لانزلاقٍ بنيوي طويل في خطه السياسي، وصل إلى نهايته المنطقية: تصفية المشروع الطبقي، وإحلال البيروقراطية محل الجماهير، والتسليم الكلي لمنطق الدولة وأدوات السوق. هذا التحوُّل لا يُعبّر عن خيانة فردية بل عن تقاطعٍ عضوي مع الإصلاحية العالمية التي جعلت من النقابة ذراعًا من أذرع النظام الرأسمالي بدل أن تكون سلاحًا في يد الطبقة العاملة.

في هذه الوثيقة، يجري إفراغ العمل النقابي من محتواه التاريخي كأداة نضال طبقي، ليُعاد تشكيله كـ"وظيفة تفاوضية" تنسق بين العمال وأرباب العمل والدولة. لم تعد النقابة نتاجًا للتنظيم الذاتي من الأسفل، بل أصبحت وسيطًا فوقيًا تُديره "كوادر" منفصلة عن القاعدة، ويُوجّهه الحزب من موقع أبوي بيروقراطي. هكذا يُختزل النضال إلى إدارة، ويُستبدل الاشتباك بالتفاهم، ويُمسخ الصراع إلى مناورات داخل غرف الاجتماعات.

هذا التصور البائس لا يمكن تسويغه إلا بالتواطؤ. حين تقول الوثيقة: "في ظروف القمع، لا يمكن للنقابات أن تؤدي دورًا سياسيًا مباشرًا، لكن يمكنها التعبير عن مصالح قواعدها عبر آليات ذكية تتفادى الاصطدام"، فهي لا تُقدّم قراءة واقعية بل تعلن الاستسلام. ما تسميه "ذكاء" هو تهرّب من الصراع. وما تصفه بأنه "تفادي للاصطدام" هو قبول بالهزيمة. القمع، في الماركسية، ليس ذريعة للتراجع بل محرّك للفعل الثوري، وكما بيّنت تجارب السوفييتات ونقابات الأبارتيد، فإن أعظم التنظيمات نشأت في قلب الجحيم لا في ظل التوافقات.

الوثيقة لا تكتفي بتبرير الانسحاب، بل تحتفي بالتدجين. تقول: "استفادت الحركة النقابية من آليات الحوار الثلاثي بين العمال وأصحاب العمل والدولة، مما وفّر مناخًا ملائمًا لتحقيق المطالب بالتفاوض." إن هذه الجملة تُمثل خلاص المأساة: الشيوعيون يحتفلون بالشراكة مع الرأسمالي والدولة، أي يحتفلون بإدماج الطبقة العاملة في منظومة استغلالها. لا وجود هنا لأي أثر للبيان الشيوعي الذي أعلن أن "تاريخ كل المجتمعات هو تاريخ صراع الطبقات"، بل نجد إعادة تدوير لفكر الوفاق الاجتماعي الذي صاغته المؤسسات النيوليبرالية لتقويض أي مقاومة طبقية.

إن احتفاء الوثيقة بما تسميه "تقدّمًا نوعيًا" يتمثل في "اعتراف الدولة بالنقابات، وتضمينها في عملية صنع القرار"، يفضح تمامًا منطقها. الاعتراف هنا ليس نتيجة صراع بل منحة سلطوية تُكافَأ عليها النقابة بتحويلها إلى أداة ضبط. هذه ليست ماركسية، بل بيروقراطية مرتاحة داخل حضن النظام. لقد تحوّلت النقابة من أداة تحرر إلى جهاز سيطرة، من تنظيم طبقي إلى مؤسسة شبه حكومية. وكما قال غرامشي: "حين تتحول النقابة إلى وسيط بين الدولة والعمال، تكون قد فقدت روحها الطبقية وصارت جزءًا من جهاز السيطرة."

والأخطر أن الوثيقة تروّج لهذا التحول بوصفه "درسًا من التاريخ"، بينما تغيب تمامًا عن أي تحليل طبقي ملموس، أو استدعاء لتجارب التنظيم القاعدي، أو تصور عن بناء بديل من الأسفل. لا لجان إضراب، لا جمعيات قاعدية، لا تمرّد على البيروقراطية، لا إضرابات سياسية، لا استراتيجية اشتباك. كل ما تقدّمه الوثيقة هو وهم "تحسين القانون" و"تعديل اللوائح"، وكأننا في دولة ديمقراطية اجتماعية، لا تحت قبضة دولة أمنية طبقية.

ليس هذا سقوطًا لغويًا أو خللًا في الصياغة، بل نكوص سياسي كامل. إن الوثيقة تعبّر عن اندماجٍ نهائي في الأفق الإصلاحي، وتؤكد أن الحزب لم يعد يرى في الطبقة العاملة قوة للتغيير، بل كائنًا إداريًا تُدبَّر مصالحه من فوق. الحزب الذي تماهى مع مؤسسات الدولة فقد صلته بالماركسية التي تأسست على الصراع، لا على التفاهم. التي ترى في الدولة أداة قمع طبقي، لا شريكًا تفاوضيًا. التي ترى في النقابة خلية للصدام، لا مرفقًا للتنسيق.

إن هذه الوثيقة لا تُعاني من فقر نظري بل من انعدام الاتجاه. لا تخطئ في التفاصيل، بل في البنية. ولا يمكن ردها بالتعليق أو التصويب، بل بالنسف الكامل. إنها تُجسّد اللحظة التي يغادر فيها حزبٌ ماركسي موقعه الطبقي ليتموضع داخل بنية السلطة. ومن هنا، فإن المطلوب ليس نقد الوثيقة، بل تجاوزها. ليس الرد عليها من داخل منطقها، بل الخروج عليها بمنطق ثوري.

النقابة التي نريدها لا تُبنى بلغة القانون، بل بلغة الصراع. لا تنشأ في المؤتمرات، بل في الإضرابات. لا تعترف بها الدولة، بل تنتزع شرعيتها من معركة العمال. النقابي الثوري لا يُقاس بعدد اللقاءات، بل بقدرته على تنظيم الغضب. وهذا ما يجب أن نُعيد بناءه: الوعي الطبقي، والتنظيم القاعدي، والاستقلال الكامل عن منطق الدولة.

لهذا، فإن الرد على هذه الوثيقة لا يكون عبر التجميل اللغوي أو التصحيحات الشكلية، بل بإعادة بناء الحركة النقابية على أسس طبقية واضحة، تقطع مع كل أشكال التواطؤ المؤسسي، وتستعيد روح الصراع بوصفه جوهر النضال العمالي. لا بد من تحطيم هيبة البيروقراطية، وتمزيق الأوهام حول حياد الدولة، وإعادة الاعتبار لفكرة أن التنظيم الحقيقي لا ينبثق من لجان الاعتراف القانوني، بل من التمرد العمّالي، من لجان الإضراب، من التنظيم الذاتي، من المواجهة المفتوحة مع منطق الاستغلال. لقد آن أوان استعادة النقابة كأداة للثورة، لا كآلية ضبط اجتماعي. وكل مشروع لا يبدأ من هذا الجذر، سيبقى مجرد رقعة على ثوب ممزق، لا تستر عورة الهزيمة بل تكرّسها.

ولذلك، فإن المعركة التي تفرضها هذه الوثيقة ليست حول تأويل بند أو تعديل فقرة، بل معركة على معنى النضال ذاته. فإما أن نُعيد النقابة إلى جذورها الطبقية كجبهة صدام مباشر، أو نتركها فريسة لبيروقراطية لا تمثل سوى خيانة مُقنّعة باسم الواقعية. لا حياد في هذه اللحظة: إما صف الجماهير وإرادتهم التنظيمية المستقلة، أو صف الشراكة والامتثال والتواطؤ مع منطق الدولة وأرباب العمل. والخيار ليس تنظيريًا، بل مصيري، يحدّد إن كنا نخطو نحو ثورة اجتماعية حقيقية، أم نعيد تدوير العجز باسم "النضج السياسي".

"لا تحرر للطبقة العاملة إلا بيد الطبقة العاملة نفسها." كارل ماركس

"حيثما يوجد استغلال، يجب أن توجد مقاومة. وحيثما يتم تأميم الصراع، هناك يتم خصي الثورة."
فلاديمير إليتش لينين

"حين تتحول النقابة إلى وسيط بين الدولة والعمال، تكون قد فقدت روحها الطبقية، وصارت جزءًا من جهاز السيطرة."
أنطونيو غرامشي

النضال مستمر،،