19. النقابة كجهاز في المنظومة الإمبريالية: وثيقة الحزب الشيوعي نموذجًا للاندماج الإصلاحي


عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 7 / 28 - 09:32     

تعيد الوثيقة النقابية للحزب الشيوعي السوداني إنتاج النقابة بوصفها ملحقًا إداريًا ضمن منظومة الحوكمة النيوليبرالية، لا بوصفها أداة صدام طبقي. لا يظهر التحليل الطبقي فيها إلا بوصفه غائبًا مكسورًا، تستبدله الوثيقة بلغة ناعمة تعيد تدوير مفاهيم البنك الدولي ومنظمة العمل الدولية كأنها منجزات نضالية، لا أدوات إخضاع. لا تنطلق الوثيقة من موقع الصراع بين رأس المال والعمل، بل من موقع "الشراكة الاجتماعية"، في إعادة تعريف تامة لهوية العامل وتحويله من مستغَل إلى متعاون.

لا يُمكن وصف الالتزام باتفاقيات منظمة العمل الدولية، والركون إلى "المعايير الدولية"، على أنه محض تقنية قانونية. إنه انتماءٌ سياسي. فمن يصوغ تلك المعايير؟ ومن يمولها ويمنحها سلطة التنفيذ؟ إن اتفاقيات منظمة العمل الدولية ليست إلا الصيغة التوافقية التي ارتضتها البرجوازية العالمية لضبط الحركة العمالية ضمن أطر "السلم الاجتماعي"، حيث التفاوض الثلاثي ليس سوى آلية لإعادة إنتاج الهيمنة من خلال آليات مؤسساتية تبدو محايدة. يقول روزانوف: "حين تُجرد النقابة من الصراع، تصبح قناعًا جديدًا لسلطة الدولة".

الوثيقة تُفرغ النقابة من دورها بوصفها آلية لتنظيم وتفجير التناقض، وتعيد تسكينها ضمن منطق بيروقراطي تفاوضي، بلا أي جدل ماركسي حقيقي. تتحدث عن "بناء الثقة بين أطراف الإنتاج"، كأن العلاقة بين العامل ورب العمل ليست علاقة استغلال، بل شراكة مشوشة تحتاج إلى جلسات مصالحة. هذه ليست لغوًا بل تهدئة أيديولوجية متعمدة، تهدف إلى تعقيم النقابة من بعدها الثوري، وتحويلها إلى "وسيط ناعم" لإدارة التوتر الطبقي.

حين يتباهى الحزب في الوثيقة بـ"دعم انضمام السودان لاتفاقيات العمل الدولية"، فهو يحتفي فعليًا بدمج العمل في مؤسسات الرأسمالية العالمية، بدل أن يعبر عن لحظة تمرد ضدها. هذه ليست خطيئة لسان، بل استراتيجية إخضاع. لقد جرى فرض قانون نقابات المنشأ عام 2010 تحت وصاية دولية واضحة، بهدف ضرب البنية القطاعية للنقابات، وتفتيتها إلى كيانات معزولة تُدار إداريًا داخل المصانع، وتُمنع من التنسيق على أساس طبقي واسع. الدفاع عن هذا القانون تحت مسمى "النضال السلمي" هو خيانة مباشرة لتراث الحركة النقابية في السودان.

تاريخنا النقابي لا يعرف هذه السلمية السطحية. إضرابات عمال السكك الحديدية في الأربعينيات لم تكن مفاوضات هادئة بل تمردًا على الاستعمار والرأسمال معًا. إضراب معلمي 2015 لم يُحل عبر التفاوض الثلاثي بل جرى الالتفاف عليه بتدخلات بيروقراطية عطلت الزخم من الأساس. تجربة عمال السكك الحديدية بالهند عام 1974، حين قُمع أكبر إضراب عمالي بالتواطؤ بين الدولة والنقابات الرسمية تحت شعار "التفاوض الثلاثي"، تفضح هذه الصيغة الزائفة عالميًا، لا فقط محليًا.

تُقصي الوثيقة كل مبادرة صدامية من الأسفل لأنها تُربك منطق الحزب من الأعلى. لا تجد فيها أي ذكر لإضرابات معلمي الأبيض وسنار، ولا لنقابة الأطباء الشرعيين، ولا حراك أساتذة الجامعات، ولا العاملين في الضمان الاجتماعي، لأنها نماذج خرجت عن السيطرة البيروقراطية للحزب، وأسست لممارسة نقابية قاعدية لا تفاوضية. هذا المحو ليس خللاً بل مقصود: فذكر هذه النماذج سيُعرّي الخطاب الإصلاحي ويُظهر هشاشته أمام الواقع الحي.

كما كتب تروتسكي: "من لا يُجابه قوانين الدولة البرجوازية، لا يستطيع أن يقود الجماهير". الحزب في وثيقته يتبنى خطابًا يتماهى مع هذه القوانين، ويتجنب الصدام معها، بل ويعيد إنتاجها بمفردات يسارية مغشوشة. استخدامه المتكرر لعبارات كـ"المواءمة القانونية"، "التفاوض الجماعي"، "الاعتراف الدولي"، لا يدل على رصانة تنظيمية، بل على انخراط فعلي في مشروع إدارة الغضب لا تفجيره.

ليس هذا مشروعًا ماركسيًا. إنه تكيف كامل مع شروط النظام. النقابة لا تُوجد لتدير علاقة العمل، بل لتقوّضها. كل خطاب يروج لتوازن داخل علاقات الإنتاج هو خطاب مهادنة برجوازية. إن مفهوم "الشريك الاجتماعي" الذي تتبناه الوثيقة يعيد تعريف العامل كموظف عقلاني داخل دائرة التفاوض، لا كقوة اجتماعية ثورية.

وكما أشار فريدريك إنجلز: "إن نزع الصراع من صميم التنظيم هو دعوة للانتحار السياسي"، فإن الوثيقة بمضمونها الحالي تُنتج تنظيمًا منتحرًا منذ لحظة تأسيسه، يُربي عضويته على الانضباط القانوني والتموضع المؤسسي، ويكبح أي اندفاعة خارج حدود المعايير الدولية التي وُضعت أصلاً لضبط الحراك وليس لتحريره.

إذا لم تُطرح النقابة كجهاز ثوري لتفكيك علاقات الإنتاج القائمة، وإذا لم تكن أداة لتجاوز الدولة لا للاندماج فيها، فإنها ستظل كما تُقدمها الوثيقة: ظلًا بيروقراطيًا للرأسمال، وواجهة مزيفة لتنظيم بلا روح ولا خطر.

"لن يكون هناك تحرر للعمال، طالما ظل تنظيمهم خاضعًا لقوانين من هم فوقهم."

النضال مستمر،،