13. من يكتب تاريخنا؟ دراسات بلا قاعدة وتنظير بلا جذور
عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 7 / 22 - 04:47
ما يُكتب باسم الطبقة العاملة في السودان كثيرًا ما لا يصدر عنها، بل يُصاغ عنها من خارجها. تتحوّل التجربة الحية للعامل والفلاح إلى مادة تحليلية مجرّدة يتناولها مثقفون غير منغرسين في الموقع الطبقي للصراع، فيفصلون بين النص والواقع، ويعيدون إنتاج ما هو عضوي وتلقائي ضمن قوالب نظرية محنطة. لا تخرج هذه الأدبيات من ورش الوعي الجمعي، بل من مكاتب مغلقة، لا تعرف لغة الإضراب، ولا صوت الورشة، ولا قلق العطالة، ولا رعب التشريد.
هكذا تتجلى الأزمة في وثيقة الحزب الشيوعي السوداني عن "تجربته في الحركة النقابية"، الصادرة في 18 يوليو 2025. لا تسأل الوثيقة: من يكتب؟ ولمن يكتب؟ بل تكتفي باستعادة الماضي كحشد للوقائع، لا كمنصة للنقد أو الدروس أو المراجعة. لا صوت لعامل يروي، لا شهادة لقيادة ميدانية تصوغ، لا تأريخ من تحت، ولا مساهمة من القاعدة. كل ما فيها يُكتب من أعلى، بلغة تنظيرية توحي باليقين، لكنها عاجزة عن مساءلة الذات، أو الخوض في صراعات الحركة الحقيقية.
الخطر لا يكمن في نقص المعلومات بل في غياب المنهج، وفي مصادرة سلطة السرد. حين تُسحب الكلمة من أيدي النقابيين الحقيقيين لصالح "الخبراء"، يتحوّل العمل النقابي إلى وثيقة أرشيفية بلا لحم أو دم. يُفصل الصراع الطبقي عن الواقع، وتُختزل النقابة إلى جهاز فني يُدار بمنطق مؤسسي، لا سياسي، ويُقدَّم النضال في هيئة نشاط تنظيمي، لا كفاح اجتماعي. تتحول الوثيقة إلى خطاب حول الطبقة، لا من داخلها؛ خطاب يستنطقها ولا ينطق بها.
إن التاريخ الذي لا يُكتب من داخل التجربة، لا يملك شرعية النطق باسمها. فكتابة تاريخ النقابة ليست مهمة تأريخية، بل ممارسة سياسية، لا بد أن تنبع من القاعدة. لا بد أن يُكتب التاريخ من قبل العمال أنفسهم، أو على الأقل، من قبل مثقفين عضويين، تربطهم وشائج ملموسة مع واقع الكادحين، يعيشون تناقضاتهم، ويخوضون معاركهم. لا كتابة ماركسية ممكنة دون انغراس كامل في الواقع الطبقي، ودون خضوع الكتابة ذاتها لمنطق الاشتباك.
مهمة إعادة كتابة هذا التاريخ تبدأ من الميدان: من لجان الإضراب، من ورش الإنتاج، من رصيف الميناء ومن محطات السكة الحديد، من عنابر الخدمة، من مدارس المعلمين، من خطوط النقل، من مصانع النسيج، ومن الحقول حيث يعرق الفلاح ويقاوم. على النقابيين الحقيقيين – لا المندوبين – أن يجتمعوا لصياغة سردية جمعية، لا تتبع خطًا واحدًا، بل تعكس التعدد والاختلاف والاشتباك. يُكتب التاريخ بالنقاش، لا بالقرارات، ويُنشر للحوار، لا للتلقين.
إن ما نحتاجه ليس مؤلفًا آخر يُضاف إلى رفوف المكتبات الحزبية، بل تجربة معرفية جماعية تستند إلى الفعل، وتتغذى على الحوار، وتنتصر للقاعدة. دراسة تُنتَج في حلقات النقاش، وورش العمل النقابية، وبين جدران الأجسام المطلبية المستقلة، ومن داخل المظاهرات، لا في العزلة التنظيمية. ليس المطلوب خبيرًا خارجيًا ولا مثقفًا مهنيا، بل نقابيًا مفكرًا، وفلاحًا محللاً، وعاملاً يعرف كيف يروي قصته كما عاشها، لا كما شُرحت له.
ولذلك، فإن إعادة كتابة تاريخ الحركة النقابية يجب أن تكون مشروعًا جماعيًا لمثقفين عضويين، ونقابيين ميدانيين، ولجان تنظيم قاعدية، تنطلق من أسئلة الجماهير لا من مفردات القيادة. تُكتب لتشكيل وعي جديد، لا لتخليد مجد قديم. تُكتب بوصفها فعلًا من أفعال الصراع، لا تكرارًا لشعارات ماضية. لا تُكتب لتبرئة الماضي، بل لمساءلته، وتصويبه، وتفكيكه إن لزم الأمر.
كما كتب أنطونيو غرامشي: "المثقف العضوي ليس من يفسر العالم من الخارج، بل من يولد في قلب الطبقة، ويعبر عن نضالها وتناقضاتها وآمالها". لذلك، فإن من لا يعيش معاناة القاعدة، لا يمكنه أن ينوب عنها في التعبير. فالصراع لا يُفسَّر بل يُعاش، ولا يُحكى بل يُنظَّم.
النضال مستمر،،