10. نقابات الظل: التنظيم في اقتصاد اللا-نظام
عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 7 / 19 - 08:24
نمت في السودان قطاعات واسعة من الطبقة العاملة خارج أنظار القانون وخارج حماية النقابات الرسمية، في سياق انهيار الدولة وتآكل مؤسساتها تحت ضغط الحرب والنهب الرأسمالي، وتحول الاقتصاد الرسمي إلى مجرد واجهة لنشاط طفيلي متوحش. هؤلاء هم عمال الظل: الباعة الجائلون، الحرفيون غير النظاميين، العاملات في الخدمة المنزلية، سائقي الركشات، عمال الورش، صغار المزارعين، النساء العاملات في أسواق الكسر (1). هذه الجموع، التي تُنتج وتُستهلك وتُقهر دون اعتراف قانوني أو حماية تنظيمية، ليست على هامش الاقتصاد، بل في قلبه النابض. ومع ذلك، تُعامل وكأنها فائض بشري، لا تستحق حتى النضال باسمها.
اقتصاد الظل، في المنظور الماركسي، ليس "قطاعًا غير رسمي" فحسب، بل هو بنية رأسمالية هجينة، تُنتج علاقات استغلال في أكثر صورها توحشًا: بدون عقود، ولا أجور مضمونة، ولا حماية قانونية، ولا اعتراف نقابي. إنه اقتصاد يُعيد إنتاج فائض القيمة بأدوات ما قبل الدولة الحديثة، لكنه يُغذي النخبة الطفيلية بكل الوسائل الممكنة: من الجباية العشوائية، إلى الابتزاز الأمني، إلى الاستغلال الجنسي والجندري للنساء العاملات. وهكذا يصبح عمال الظل هم الأكثر إنتاجًا والأقل حقوقًا، ويُمنعون من التنظيم بحجة أنهم "خارج النظام".
لكن الحقيقة أن من هم خارج النظام، هم في الواقع داخل الصراع، بل في صلبه. فغياب التنظيم النقابي عن هذه القطاعات ليس قدرًا، بل نتيجة مباشرة لتحالف بين الدولة الرأسمالية والبنية النقابية البيروقراطية التي ترفض الاعتراف بهذه الشرائح كجزء من الطبقة العاملة. بل إن النقابات القائمة كثيرًا ما تعامل هذه الفئات بتعالٍ طبقي، وتتمسك بالمفهوم الكلاسيكي للعامل بوصفه موظفًا نظاميًا في القطاع العام أو الخاص. أما الفقراء الذين يكدحون في الأسواق وعلى الأرصفة، فهم "غير مؤهلين" للتنظيم، أو "يفتقرون للوعي"، أو "لا يملكون بنية قابلة للنقابة". وهذه الذرائع ليست إلا قناعًا لجوهر برجوازي يرى في التنظيم حقًا للصفوة، لا سلاحًا لكل مضطهَد.
رغم ذلك، ظهرت محاولات جنينية لبناء تنظيمات بديلة: من تنسيقيات الباعة المتجولين، إلى لجان صغار المنتجين، إلى المبادرات النسائية في أسواق الأحياء، إلى إضرابات سائقي الركشات في بعض المدن. هذه المحاولات، التي غالبًا ما تُحاصر بالقمع أو التجاهل، تمثل إرهاصات لنقابات ظل، تنبت من تحت أنقاض النقابات الرسمية، وتحمل سمات عمالية نضالية بحتة، حتى وإن لم تُسمَّ بالنقابة. فهي تُنظم نفسها أفقيًا، تُصوغ مطالبها جماعيًا، وتواجه السلطة في شكلها الأكثر خشونة: من شرطة السوق إلى المحليات، ومن الأجهزة الأمنية إلى التنظيمات الدينية.
هذه التجارب، رغم ضعفها التنظيمي، تطرح علينا سؤالًا مفصليًا: ما معنى النقابة في بلد بلا دولة؟ وهل التنظيم يجب أن يبدأ من التشريع أم من الحاجة؟ إن البروليتاريا المهمشة في السودان لا تملك رفاهية انتظار القانون، ولا ترف الالتزام بشكل التنظيم الرسمي. إنها تُنظم ذاتها تحت الرصاص، وتُضرب عن العمل في وجه الجوع، وتطالب بحقها في الوجود بينما الدولة تتعامل معها كـ"عبء أمني". ومن هنا، فإن أي مشروع نقابي ثوري لا يعترف بهذه الكتلة الهائلة من العمال غير النظاميين، هو مشروع مشلول، يُعيد إنتاج نخبوية الطبقة الوسطى، ولو رفع شعارات الاشتراكية.
الاعتراف بنقابات الظل لا يعني فقط الدفاع عن مظلوميتها، بل يعني إعادة تعريف الطبقة العاملة ذاتها، في ضوء واقع اقتصاد السوق المتفكك. فنحن لا نعيش في اقتصاد صناعي متماسك كما كان في أوروبا القرن التاسع عشر، بل في سياق رأسمالية مفترسة تستثمر في اللا يقين، وتزدهر على حساب العمالة الهشة. ولذلك، فإن التنظيم النقابي في السودان لا يمكن أن ينجح إذا لم يُعيد بناء نفسه على أرض الواقع الفعلي، حيث تنتج النساء والرجال في ظروف غير إنسانية، ويُمنعون من أدنى درجات الحماية.
إن نقابات الظل ليست بديلًا عن النقابات الثورية المنظمة، لكنها مكمل عضوي لها. بل إنها تمثل اليوم الحاضنة الطبيعية لإعادة بناء الطبقة العاملة من القاع، حيث الحاجة والوعي يتجاوران. وعلى القوى اليسارية التي تطمح في قيادة التغيير الجذري، أن تنبذ أوهام التنظيم "من فوق"، وتغوص في لحم الواقع، لتصوغ أدواتها الجديدة، وأسئلتها الجديدة، وتحالفاتها الجديدة. فالثورة لن تأتي من صالونات المركز، بل من أسواق الكسر، ومن الركشات، ومن نساء الأحياء الشعبية اللواتي يعلّمن أبناءهن، ويكافحن لجلب الرغيف، وينظمن أنفسهن دون تمويل ولا تصفيق.
"في الهامش وُلدت الثورة، ومن الظل سيتفجّر النور."
النضال مستمر،،
1. أسواق الكسر هي شكل من أشكال الأسواق الشعبية العشوائية التي تنشأ في أطراف المدن أو داخل الأحياء الفقيرة، وهي سِمة شائعة في الاقتصادات المتأزمة والهشة مثل السودان. الكلمة "كسر" تشير إلى أن البضائع تُباع بأسعار أقل من السوق الرسمي، أسواق الكسر هي أماكن للبيع الرخيص، ومختبر يومي للنجاة الطبقية، حيث يُدبّر الفقراء حياتهم من خارج النظام، ويبتكرون وسائلهم للبقاء في وجه الجوع والسلطة.