عبد الحسين شعبان.. المُتفرّد فكراً وسلوكاً
عبد الحسين شعبان
2025 / 7 / 17 - 12:03
حسن عبد الحميد
كاتب وشاعر وإعلامي - العراق.
مثلما لا يمكن فصل اللهب عن النار، لا يمكن فصل نقاء وصفاء روح الإنسانية المحضة التي تسكن وتتغلغل في تلافيف عقل المفكر الكبير د.عبد الحسين شعبان عن ملكات وممكنات عبقريات منجزه الثرّ المحض في عموم مُتّسعات ومُخرجات ما نسج وصاغ ونَظّر، أغدق وأجاد، أفلح وحلق في مختلف فضاءات المعرفة ومناهل الفكر وتجلّيات الثقافة في قُدراتها على تحرير الإنسان من براثن الجهل ودهاليز الدجل وألاعيب التجهيل، فضلاً عن تسامياته البارزة والحائزة على أعلى تقديريات الإثابة ورُقيّ التكريمات في مهام ومجال الدفاع عن حقوق الإنسان وأرى أبهاها وأوقعها أثراً وحضوراً في الذاكرة الجمعية استحقاق نيله وسام وجائزة أبرز مناضل لحقوق الإنسان في العالم العربي - القاهرة عام 2003 وغيرها من الراسخ والمتواصل والأكيد من مُوصلات إسهاماته والتماعاته في مشاغل قضايا القانون الدوّلي والدين والإرهاب ومشكلات جدل الهويات والمجموعات الثقافية كما يقترح د.شعبان تسميتها بدلاً من «الأقليات».
ستطول قائمة التذكير بمآثره وشواهق مواقفه في قضايا كبرى وكثيرة، ربما سيتناولها باحثون ومتخصّصون ممّن سيسهمون معنا في بهاءات هذا التكريم وهُم يحتفلون بكرم وشرف الإشادة ودواعي التكريم الذي ارتأت أن تطلق عليه دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع بـ»يوم الوفاء».
الصوت ونبرة الوضوح
ربّما.. سيبدو واضحاً وشاخصاً، راسخاً وأكيداً لمن يبغي ويتوق الدخول بطوع النفاذ لدراسة وتحليل جوانب من شخصية د.عبد الحسين شعبان، أنه -ومنذ وقت مبكر من نبوغ مراحل عمره- قد تمكّن وانتبه واستفاد من تأطير وتسوير أعماق ومناسيب تجربته ونهج سلوكياته المتصالحة مع ذاته والمتّسمة بالتسامح والاتّزان وأُطر المحبّة الصافية النابعة من نصاعة ضمير حيّ ويقِظ، وإنك لتلمس صدق صوت الهدوء ونبرة الوضوح والثقة عبر تتابع لغة فهم عميق هائم بشعور صادق ونبيل في حتميات وحيثيات احترامه للرأي والرأي الآخر بجنب فاعلية تقديس العدالة وأحقيّة الامتثال لهيبة القانون متخذاً من مقولة مونتسكيو: «القانون مثل الموت، لا ينبغي أن يستثني أحداً» نسقاً وسعياً، سلوكاً وادّعاء وفعلاً متواصلاً، لا حياد عنه ولا غمط فيه تحت طائل أي ظرف وأي مدعى من تبرير أو تسويف وتخويف.
يقول عالم النفس التحليلي كارل غوستاف يونغ حول مفهوم الحياة: «لا توجد شجرة يمكن أن تنمو إلى الجنّة ما لم تصل جذورها إلى الجحيم». كم في ظنّي وتوقّعي أن يلّخص هذا القول أو يجتزئ بعض أنساق لأبعاد تتراءى في مسيرة شخصيّة د.شعبان، وقد تتّضح خيوط ملامحها لتنسج وعياً متقدّماً في نواحي فهْمه وخلقه لحياة هو مَنْ شارك فيها وسعى إلى صناعتها وتحفيزها على أن تبقى ثابتة ركائزه، حتى في أقصى وأقسى الظروف المعقّدة التي عاشها من اعتقالاتٍ وتعذيبٍ، فضلاً عن اضطراره مُكرهاً لمغادرة بلده العراق ومدينته النجف.
أذكرُ أنني سألت د.عبد الحسين -بشكل مباغت- في واحدة من لقاءات جمعتني به، أن كيف كانت العائلة ترى في طُرق معارضتك للنظام الديكتاتوري، الشمولي وإدراك حجم المخاطر التي وضعت نفسك أمامها كما هو حال العائلة برمّتها؟ ثم استدركت لأضيف للسؤال قائلاً: بالأخص الأب عبدالعزيز شعبان الرجل الميسور الحال والساطع السمعة والمعروف بكونه من سليل عائلة لها حق السدانة في الروضة الحيدريّة (للإمام علي) منذ أكثر من خمسة قرون من الزمن وبـ»فرامين» سلطانيّة عثمانيّة.
اكتفى بأن أجاب: «كان يشجّعني، عبر كل ما كان يصلني منه، ولا يترددّ أن يقول: إيّاك أن تتراجع، نحن فخورون بك، كُن مرفوع الرأس، ولكن بتعقّل ودون اندفاع، ولا تنسى أن يكون الوطن والوطنية فوق كلّ الاعتبارات».
نموذجية الصورة.. نقاوة الذاكرة
في إتمام تقييم عام لمراحل معطيات ومنجزات هذا المفكر الكبير والمثقف العضوي - الحيوي الناصح والناشط المدني ذي العقل الراجح والمنفتح على مسارب ونوافذ الحياة التي عاش كل تقلّباتها وعلى مختلف مراحلها بما يخصّ أوضاع العراق والأمة العربية، بل وعموم ما يحدث في العالم، سنصل -حتماً- لضفاف حياة وملامس شغاف قلب شخصية عامرة بالنورانيّة، مغمورة بالتواضع والمثول منجذباً للحق وكل مكامن الجمال.
ومن تسنّى له تتبّع مسارات سيرة د.شعبان بواسع وتعدّد فضاءاتها الأكاديمية والبحثية ومجالات القانون الدوّلي وحقوق الإنسان والمجاميع الثقافية، بل عموم مشارب وشؤون الثقافة بواضح عناوينها الإبداعيّة، ستتّضح أمامه صورة نموذجيّة، خالصة الروح، صافية النوايا، نقيّة المقاصد تتواءم فيها وتتناغم استجابات سلوكياته وطبيعة براعات وامتدادات ما أنجز وأوجز طوال حياته في السياسة وخارجها فيما بقيت المعرفة ومشاغل الفكر والثقافة في مقام المرتبة الأولى والمتقدمة والأثيرة على نفسه وريح هواه وجُلّ تفكيره ومساعيه، حتى كانت «أي الثقافة، بحاصل جمع المعرفة» بمثابة القدح المُعلى في أنخاب جميع الفضاءات والمناخات التي عمل وانشغل فيها وخاض غمارها بولعٍ محسوب وتوادّ مُتقن وسعة ثقة انتماء وانتقاء، أسفر عن ذلك جلال وجمال وكمال ما جنى وأحتاز من حصاد ثمار يانعات ونواتج مسعى وجاذبية حضور آسر ومؤثر.
وإني لأرى حين أتفحّص بالتدقيق وأتفرّس في شمائل شخصيّة د.شعبان ونبل ونصاعة مواقفها الوطنيّة والإنسانيّة وأُراهن على فعل -بل أفعال- عطاءاته، أجد فيه تطابقاً فريداً ما بين ذاته وخواص سلوكه الذهني ونهجه الفكري ومسارات تعامله اليومي والشخصي مع أي كان من معارفه ورفاقه والناس عموماً، حتى لتتّضح صيغ تعاملاته في المحيط الذي يوجد فيه وآثار ومآثر منجزاته مسكونة في قفص واحد، فيما تزدحم الأخْيلة وتكتظّ الذاكرة بصور لقامات وشخصيات فاعلة ومؤثرة في عموم المشهد الثقافي العربي التي كان قد مرّ عليها وتناولها بما يليق بها وحجم ما تستحق، وكان قد أصدر موسوعة لسردياته الفكرية ومحاوراته الثقافية وقراءاته النقدية لـ48 شخصية عربية ضمّها عنوان موحّد «الزمن والنُخب - في أنطولوجيا الثقافة العربية» وأجد بذكر قائمة طويلة من أسماء الشخصيات الفكرية والثقافية والسياسية العراقية التي تزهو بها ذاكرة شعبان لمعانيها وومض بريقها بدواخل وكوامن نبيلة، هدفها إعادة القراءة بروحٍ نقدية منفتحة لتقديم جزءٍ من تاريخنا برؤية استشرافية جديدة عابرة للأيديولوجيات والانغلاقات الحزبويّة.
نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر القيادي البعثي السابق والمعارض المعروف صلاح عمر العلي والفقيه الإسلامي الشاعر محمد بحر العلوم والمفكّر القيادي الشيوعي عامر عبدالله والباحث التراثي الكبير هادي العلوي والصحافي الريادي روفائيل بطّي والروائي غائب طعمة فرمان والروائي الساخر والصحافي شمران الياسري «أبو گاطع» والممثّلة المسرحيّة الرائدة ناهدة الرمّاح والشاعر مصطفى جمال الدين والشاعر شيركو بيكه س والمعماريّة المتميّزة وجدان نعمان ماهر الكنعاني والوزير والأديب سعد صالح والفقيه القانوني حسين جميل والسياسي والأديب الكردي إبراهيم أحمد والسياسي الليبرالي المعروف كامل الجادرجي والزعيم الكردي الملّا مصطفى البارزاني وشاعر الحداثة الشعريّة الجديدة سعدي يوسف وصولاً إلى مظفّر النوّاب في «رحلة البنفسج»، ثمَّ شاعر العرب الأكبر محمّد مهدي الجواهري الذي أصدر عنه مؤخراً كتاباً بعنوان «جواهر الجواهري» عن دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع وصمّم غلافه الفنان مكي حسين، وهو بالحقيقة مجلّد أنيق ضخم حوى ما اختار د.عبد الحسين شعبان من أشعار ضمن ذائقته الشعريّة.
وما يلفت ويُضيء بهذا المطبوع الباذخ الروعة والجمال بكامل أبعاده ونُبل مراميه الكلمة العميقة والشائقة التي خطّها يراع الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح حيث اجترحتها كمقدّمة للمجلّد انضوت بثريّا عنوان «ضوءٌ غيرُ قابلٍ للخفوت»، فيما زها غلافه الأخير بصورة تجمع الجواهري بشعبان مزيّنةً بما قاله شاعر العرب الأكبر (أبو فرات) بحق شعبان (أبي ياسر) وهو يرّتل قائلاً: أخي العزيز عبد الحسين شعبان..
أبا “ياسر” أنت نِعْمَ الصحيب
وقلّ الصّحابُ ونعم الخدين
لقد كنت في محضرٍ والمغيب
ذاك الوفي وذاك الأمين
وفي ذكرياتي كنت الصميم
سمير المعنّى وسلوى الحزين
في نقد التجربة
يتساير الحديث ويتّسق في تقدير وتقييم كل ما يتصادف من أحداث وظروف وملابسات مع معطيات ونواتج ما يمليه علينا التاريخ وما تشفق به الجغرافية، وتجور، لا فرق، فثمّة وعي مُدّخر ومخزون، عادة ما يقع ما بين حيّز الخبرة ومتّسعات الذاكرة، فالشعوب أو الأمم التي تحيا بلا ذاكرة لا تغدو بأن تكون غير جسد بارد بلا روح ولا قيمة أو معنى، ولعل هذا ما يضادّ وينافي العقل وحجّة وصرامة المنطق، في إهدائه لي لأحد كتبه الصادرة حديثاً خصّني به د.شعبان يقول فيه: «بعد تساكب قطرات إشادة وتوقير لاسمي، هذا جزء من تاريخنا بما له وما عليه وعلينا أن نقرأه بروح نقدية، فلا قيمة للتجربة إلا بنقدها».
فما علاقة ذلك بما أنوي وأبغي الوصول إليه؟ أسال وأجيب وأنا أُشمّر عن ذراع القول لأقول: ما دواعي الفهْم الراسخ والعميق لما يجب البتّ فيه عبر مديات وآفاق ما هو ناصع ونافع وإنساني يزن الوعي بميزان النظر ويقارن الأحداث والمواقف ومجريات الأمور عبر مرقاب التحليل والمراجعة والفحص والتصويب، وصولاً لما هو عليه اليوم -وأريد به مفكرنا المُبّجل د.عبد الحسين شعبان ونحن نحتفي به في هيبة ومحراب يوم تكريمه- من رفعة دماثة خلق ونبل تواضع وجمال روح واتّقاد ذكاء أدنى للطُّهر والنصاعة من مسافة رفّة رمش لجفن عين، وأنقى من ماء نبع رقراق.
أتراني أزفّ كل هذه الصفات وأدفع بعربة هذه التقييمات مُحمّلاً إيّاه على هوادج من تطييب خواطر، أو شرارة همس لمجاملة بائسة لا تُغني ولا تُسمن، ولا تنذر بشيء، أو منحى لمجرد نثر كلام من زجاج ما برح يتكسّر في جوف فراغ بلا طائل ولا نفع من أدنى حوار بين اثنين، أم ماذا؟! وماذا؟!
العنف وفريضة اللّاعنف
الإجابة لا تخون صاحبها، إذا ما أدرك الناطق بها والمؤمن بنفسه وقدراتها فهم وهضم جوهر معنى قيمة السؤال، أوليست الأسئلة مفاتيح بحسب ريلكَه؟ إذن لنبُح بما احتاجت إليه تلك الأسئلة من شرف إجابة تليق لتحلّق بما أباح به د.شعبان من «بوح متأخر» بحسب ما أسماه وأفاد به مدخلاً لعنوان فرعي من دراسته المهمة والكبيرة بكل ثراءات ما حملت وكشفت أضواء ثرياتها عن مكامن ما هو غاطس في عمق أعماق شخصيته المُشعّة والساطعة في نبذ العنف، وكيف اختار اللّاعنف كفلسفة وطريق للوصول إلى الحقيقة والعدالة، وهو لم يزل فتىً في مقتبل العمر، وكيف واجه العنف بشكل مباشر لأوّل مرة حين حدث خصام، تطوّر إلى عراك، فعنف بين صديقين له، وإن لم يكونا من الأصدقاء المقرّبين، لكنه على علاقة طيبة بكليهما، أودى في الحال إلى قاتل ومقتول، القاتل كان أقرب إلى معسكر اليسار والحركة الشيوعيّة والمقتول كان أقرب إلى المعسكر القومي.
وهكذا نشب الصراع وانتهى بفاجعة، ظلت تسكن وتتراءى أمام ذهن وتفكير الفتى شعبان، وبحسب ما يروي ويكمّل في متن تلك الدراسة التي كنت قد طلبت منه مادة، هو من يُحدّد موضوعها عن «ثقافة نبذ العنف»، حينها كان د.شعبان يشغل منصب نائب رئيس الكلية الجامعة للّاعنف وحقوق الإنسان المعروفة باسم «أونور» في العاصمة اللبنانية بيروت، والتي سبق لي وثلاثة من زملائي هم الشاعر منذر عبد الحُرّ والناقد السينمائي مهدي عباس والإعلامي الأكاديمي د.نزار عبد الغفار السامرائي دخول دورة تمهيديّة مكثفة في دراسة فلسفة وثقافة اللّاعنف، كان طلبي ذاك قد جاء بعد حصولي على الموافقة لإعداد ملف لمجلة «آفاق أدبية»، وهي مجلة فصلية تعنى بالإبداع الجديد تصدر عن دار الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية.
حمل الملف -وهو محور العدد- عنوان «ثقافة نبذ العنف»، أسهم فيه إلى جنب د.عبد الحسين عدد من الأساتذة والمتخصصين في علم النفس والإعلام والسينما والفنون، وقد تكلّل طبع المجلة وتوزيعها على نطاق واسع في شهري آذار ونيسان من العام 2017، وكانت دراسة د.شعبان بمثابة عين القلادة -كما يُقال- لجميع محتويات الملف، حيث حملت تلك الدراسة المستفيضة عنواناً كبيراً وذا دلالة عميقة وتأثير لمتن أعمق وأكثر تأثيراً هو «العنف وفريضة اللّاعنف / شذرات من تجرية شخصية - بوحٌ متأخّر»، يتناول فيه جذور مكوّنات فهمه وهضمه وقيمة إخلاصه للّاعنف ونفوره الشديد من العنف مذْ كان فتىً يافعاً، حيث تشكلّت في نفسه وسريرته بوادر هذه النزعات والميول التسامحيّة واجتناب أي مقترب من عنف وبجميع أشكاله ومبرّرات استخدامه، من جرّاء تلك الحادثة التي رواها وأثّرت فيه، وليعمل منذ ذلك الحين على تنميّة خواصه وتناميات وعيه ودراساته العليا للسياسة والاقتصاد والقانون في أرقى الجامعات في كلٍّ من بغداد وبراغ، اللتين حاضر فيهما وأشرف على الكثير من الأطاريح والدراسات لطلبة الماجستير والدكتوراه بما تجاوز الأربعين عاماً متواصلة وجديّة.
الإنسانية بجوهرها
لعلّ أنساغ وجذور جوهر الإنسانية الحقّة، كانت قد غارت وتغلغلت عميقاً في خواص ونوازع تنوّع ونبوغ ثقافة د.شعبان عبر أسانيد معارفه وخزين منجزاته على نحو ما تعددّت به آفاق تطلعاته ومديات وعيه الناصع، الفريد في العديد من المجالات التي خاض غمارها بعوامل سمو الشغف الواعي والمُدرك لطبيعة وجديّة دفاعه الواثق عن حقوق الإنسان والسعي إلى ترسيم وتعميق مسارات ما برع وجاء ينشد وينادي لمعنى قيمة الحريّة الحُرّة وفضل قضايا الثقافة عبر دور المثقف العضوي في توسيع مدارك الحياة وتعزيزها بدواعي الوعي وأصول المعرفة، إلى جنب نبذ العنف ومقت الإرهاب وجوانب فهم وتعليل لمناقشة متعلقات الدين مشفوعة بتفويض رجاحة العقل وتسيّد المنطق عبر توريد مفاهيم فقه الواقع وأهمية الحاجة إلى التسامح وقبول الآخر وغيرها من نواهل اهتمامات وتطلعات دأب هذا المفكر الكبير على تقصّي سُبل الوصول إليها، ولو بعد حين، تحت طائل أي ظرف واضطرار انتظار، فيما انبرى وشاء د.شعبان على نحو ما تجلّى وتزّهد وهو ينأى بنفسه، بعيداً، بعيداً جداً جداً، عن أي مسٍّ من إغواء أو إغراء لعقوق حلم قد يراود الكثير ممن يبرّرون للطموح بمقارنة الطمع بالمناصب والظفر بالامتيازات بغضِّ النظر عن الوسيلة حتى لو كانت خسيسة أو غير شريفة.
لقد توافق د.عبد الحسين شعبان وأعطى من عندياته وتساميات مواقفه وأحكام مدركاته وتعزيزات سلوكياته المتّسقة مع ذاته وقناعاته، بكل ما يعزّز ويقوّم مع مقوّمات شخصيته الجذّابة بحضورها الآسر والمُسرّ لكلّ مَنْ جسّ وتحسّس وخمّ أصول وجوهر معدنه وعرف كنهه عبر تعارف أو قرب وتعامل، سواء أكان ذلك في مجال التدريس والتأليف لمن يقرأ له، أم في حيّز ملكاته الساحرة في الكتابة والحوار والمحاضرة والحديث.
وما هذا التكريم الذي تقيمه الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح ودارها العامرة للثقافة والإبداع ضمن نهجها الحضاري والإنساني بما أطلقت «يوم الوفاء» عبر مهابة تقليد دوري ينوء بجمال الاحتفاء تعظيماً، تقديراً وإثابة لشخصيّة أدبيّة عربيّة مرموقة مثل الشاعر نزار قبّاني والأديب ثروت عكاشة والمفكّر عبد الكريم غلاب والصحافي والدبلوماسي غسان تويني والروائي إبراهيم الكوني وغيرهم، إلا واحد من تلك الامتنانات التي تهبها الحياة لمن يستحق ويسمو بها، كما يحدث الآن مع الباسق الكبير المعرّش المثمر د.عبد الحسين شعبان.
أجدني.. وبعد كلّ هذا وذاك، وإن جاء بالنزر اليسر ممّا أحمل من تصورات وتفهمات وتقييمات لهذا المفكر الفذ والعقل المتفرد بسلوكه الحضاري ونهجه الإنساني المتقدّم والرفيع على كافة الصُّعد والمستويات.. وقد وجدتُ مخرجاً لضالّتي عسى أن يليق ببعض ما يداني أو يوازي ما أكنّ لهذا الرجل، الأخ، المعلم الأفلاطوني وعرّابي في الحياة والثقافة وكل محافل الجمال عبر نشري -هنا- بهذا المقام والمقال - هذا المقطع، وهو الأخير من نصٍّ شعري طويل نسبياً مُهدى إليه، كما هو واضح من عنوانه المنشور مع ذلك المقطع، أوليس هو ابن رُشد من كان يرى في الشِّعر أنه أكثر حظّاً من الفلسفة، وأسمى مكاناً من التاريخ؟ إذن نصّ المقطع الأخير من قصيدة «ما أورثته النساء إلى عبد الحسين شعبان»:
كذبَ منجِّموهُ
وما صدقوا
فما كان في القلبِ
مِنْ نبضْ..
سوى فيضْ
تمنّاهُ.. طيراً
يحطُّ بجَناحِ الليلِ
ما جاءَ.. يبغيهِ
على إرثٍ توارثَهُ..
تاقَ نزفاً.. يوزِّعُهُ
عزفاً
على أوتارِ ريحٍ
ما فتئتْ.. تئنْ
ما برحتْ تحنْ..
على ما فاتَ..
مِنْ غنجِ النِّساءِ
وما تمرجحَ مِنْ شجونِ بقايا العمرِ
ما تناسلَ من أحلامٍ
ما سالَ...
مِنْ زمنٍ لزجٍ سيأتي
لا محالْ...
على هيئةِ حيفٍ
أو..
أشلاءِ سؤالْ
*****
وحدَهُ..
يرى الدُّنيا..
عطرَ مرايا
زخات مطرٍ..
مساءاتِ نبيذٍ
تشعُّ على أجسادِ قواريرِهِ..
فجراً عسلاً.. منقوعاً
بما لا يُحصى
مِنْ أمواجِ كتبِ
كُنَّ شواهدَ أحزانٍ
حقائبَ مِنْ قصائدِ شكوى
لا تقوى على..
أنْ تُباغتَ ثلثَ مراثيهِ
البلادَ...
بما يبقى.. مِنْ ثلثِهِ
الذي أدمنَ حزنَهُ
ورمَتْ بهِ خلف الحدودِ..
مِنْ براءةِ دمِ طينٍ
«جلجامش»
مِنْ أوهامِ الخلودِ
مِنْ سرٍّ ما أهداهْ
«ماركس»
ذاتَ شقاءِ ذكرى..
لم تزلْ تسري
هشيماً في مواقدِهْ
نارُ «الجواهري»
شعراً... يُرديه برقاً
يرثيهِ... شرقاً
ويهديهِ... شوقاً
ما بينَ... شكٍّ
وشكٍّ..
سرابَ يقينْ
أربيل- عنكاوا
نيسان- مايس 2021
- مساهمة الأستاذ حسن عبد الحميد في كتاب جمر الحروف الصادر عن دار سعاد الصباح / الكويت، بمناسبة يوم الوفاء تكريمًا للدكتور عبد الحسين شعبان.