8. من النقابة إلى الجبهة الطبقية: وحدة القطاعات في وجه الرأسمالية العسكرية


عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 7 / 17 - 07:46     

إذا كانت النقابة الثورية تمثّل خلية الوعي والتنظيم في موقع العمل، فإن الجبهة الطبقية هي التعبير الأعلى عن تراكم هذا الوعي في شكل سياسي واجتماعي قادر على مواجهة منظومة الاستغلال بكامل عنفها الرمزي والمادي. وفي السودان، حيث تتداخل الرأسمالية الطفيلية بالعسكرية، وحيث يختلط السوق بالفساد، والدولة بالنهب، تصبح وحدة الحركة النقابية عبر القطاعات شرطًا وجوديًا لتحوّل النضال من مطالب جزئية إلى مشروع تحرر طبقي شامل.

لقد أثبتت تجربة الثورة السودانية – بما لا يدع مجالًا للشك – أن قوة الجماهير لا تُقاس بعدد النقابات، بل بمدى قدرتها على تجاوز التقسيمات البيروقراطية والقطاعية، نحو بناء شبكات تضامن طبقي فعلي. فحين أضرب المعلمون، وساندهم عمال النقل، واعتصم الأطباء، وهدّد عمال الموانئ بإغلاق البحر، ارتعدت الدولة وارتبك النظام، لا لأن كل قطاع طالب بحقه، بل لأن القطاعات بدأت تتنفس كجسد طبقي واحد. هذه اللحظات العابرة من التوحد، وإن لم تُترجم إلى بنية دائمة، تكشف إمكانية تكوين جبهة نقابية مقاتلة، تتجاوز الإطار "المهني" إلى التنظيم السياسي للطبقة العاملة.

لكنّ البرجوازية العسكرية، التي تقوم على تقسيم العمل والاستغلال المعمّق، تدرك تمامًا خطر هذا التوحّد. ولذلك تعمل الدولة على ترسيخ الانقسام الأفقي داخل النقابات، عبر القوانين التي تفرض استقلالية شكلية لكل قطاع، وعبر اللجان التمهيدية التي تُعيّن من قِبل السلطة لا من قواعد القطاعات. ومن خلال النقابات الموروثة من عهد الإنقاذ، يجري تطبيع الانعزال بين المهن، بحيث يُصبح كل قطاع مشغولًا بأزمته، دون أن يرى النظام الذي أنتجها. وهكذا تتحول المعاناة الجماعية إلى معاناة فردية، والمقاومة إلى شكاوى بيروقراطية.

إن التشتت النقابي ليس مصادفة، بل هو أحد أعمدة استراتيجية الهيمنة في الأنظمة التابعة، حيث تُفرّغ الحركة العمالية من طابعها السياسي، وتُختزل إلى مطالب متفرقة تُدار بالمناورة أو القمع أو الرشوة الرمزية. في مواجهة ذلك، لا بد من بناء جبهة نقابية طبقية موحّدة، تستند إلى القواعد لا إلى القيادات، وتُعبّر عن وحدة المصالح الموضوعية بين الميناء والمدرسة والمستشفى والمصنع. فالعامل في الميناء الذي يُخصخص لصالح الإمارات، والمعلم الذي يُجبر على العمل في ظل الحرب دون مرتب، والممرضة التي تُفصل لأنها رفضت نقلًا تعسفيًا، كلهم لا يجمعهم الظلم فقط، بل عدُوٌ طبقي واحد: دولة الرأسمالية العسكرية الكمبرادورية.

لقد ظهر في السودان، ولو على استحياء، نماذج جنينية لهذه الجبهة: في الإضرابات المتزامنة التي اجتاحت عدة قطاعات خلال ديسمبر، وفي التصريحات الموحدة لبعض الكيانات النقابية، وفي دعم لجان المقاومة لبعض الإضرابات. غير أن غياب التنسيق المستدام، وغياب الرؤية الطبقية الجامعة، جعل هذه المبادرات محكومة بالتراجع. والسبب الرئيس لذلك هو استمرار التعامل مع النقابة ككيان منفصل عن الصراع الطبقي الكلي، لا كجزء عضوي منه. وما لم يُكسر هذا الفهم المجتزأ، فإن كل نقابة مهما كانت شجاعة ستجد نفسها معزولة في وجه الدولة.

الجبهة الطبقية النقابية لا تُبنى بالبيانات، بل بالممارسة: بربط النضالات اليومية بمشروع سياسي واضح، وبناء أدوات قاعدية للتنسيق العابر للقطاعات، وإعادة الاعتبار لأشكال المقاومة الجماعية كالإضراب السياسي، والعصيان، والتحالف مع لجان المقاومة. فلا يمكن بناء ميزان قوة دون توحيد الجبهات. ولا يمكن هزيمة الرأسمالية في الميناء بينما تحكم المدارس أو المستشفيات بقانون الطوارئ.

إن وحدة الطبقة العاملة ليست شعارًا، بل سيرورة تنظيمية وثورية، تبدأ من اقتناع كل عامل بأن معركته هي معركة الكل، وأن نجاته لا تكون إلا بالكتلة. فالرأسمالية تفككنا لنصبح قابلين للنهب، والثورة تُعيد بناءنا كقوة قادرة على التغيير. ولكي تكون النقابة جزءًا من هذه القوة، عليها أن تتحرر من حدود القطاع، وتتجه نحو بناء الجبهة.

"لن يتحرر العامل في المصنع إذا سقط المزارع في الحقل، ولا تُهزم الدولة إذا قاتلتها المهن منفردة."

النضال مستمر،،