7. مستقبل النقابات: لا إصلاح بلا ثورة ولا ثورة بلا تنظيم طبقي
عماد حسب الرسول الطيب
2025 / 7 / 16 - 07:10
في كل لحظة توازن هش، يُطرح سؤال الإصلاح بوصفه المخرج "الواقعي"، وكأن التاريخ يمكنه أن يتقدم بالمساومة، أو أن السلطة الطبقية قد تتنازل عن أدواتها طواعية. وهكذا، تصبح النقابة موضوعًا "إداريًا"، ومجالًا للخبرة التقنية والقانونية، تُدار على يد مختصين لا مناضلين، ويُختزل النضال في تحسينات شكلية على جثة التنظيم. لكنّ التجربة السودانية، المترعة بالخيانات والانقلابات والانكسارات، لم تترك مجالًا للوهم: النقابة إما أن تُبنى كنقطة ارتكاز للثورة، أو أن تتحول إلى ذراع من أذرع النظام، مهما حسُنت نوايا "الإصلاحيين".
ما يُسمى بـ"الإصلاح النقابي" في السودان هو تعبير رمزي عن حدود المشروع الليبرالي في لحظة ما بعد الثورة. فبعد انكسار المد الجماهيري، وإخماد صوت الشارع بفعل الحرب والانقسام والخذلان، برز خطاب جديد يدعو إلى "ترتيب النقابات"، و"ضبط اللوائح"، و"تهيئة البيئة القانونية". لكن هذا الخطاب، رغم مظهره التقدمي، يتجاهل الحقيقة الجوهرية: لا يمكن تنظيم الطبقة العاملة داخل بنية قانونية صاغتها الطبقة الحاكمة لإخضاعها. فالقانون ذاته، حين يُدار من داخل الدولة البرجوازية، هو أداة قمع لا وسيلة تحرر.
إن الإصلاح الذي لا يستند إلى قاعدة طبقية منظمة وواعية، ينتهي دومًا إلى إعادة إنتاج الترويض في ثوب أكثر نعومة. إذ يمكن تحديث القانون، وتجميل الخطاب، وتدوير القيادات، دون أن يتغير شيء جوهري في طبيعة النقابة: تبقى خاضعة للدولة، ومعزولة عن الحركة الجماهيرية، ومشغولة بإدارة الملفات اليومية بدل تفجير الأسئلة السياسية. وهذا ما حدث حين جرى طرح قانون 2020 – التقدمي نسبيًا – لكن دون أن تُرفق به إرادة سياسية، أو تحشيد شعبي، أو رؤية طبقية. فرفضته الدولة، وتجاهلته الأحزاب، وتم عزله عن سياقه الطبيعي: الصراع من أجل الاستقلالية والتنظيم.
إن مستقبل النقابات في السودان لا يمكن أن يُبنى إلا على قاعدة التنظيم الذاتي القاعدي، الذي ينهض من تحت، لا بإذن الدولة ولا بمباركة الأحزاب. وهذا التنظيم، لكي يكون ثوريًا، لا يكفي أن يطالب بالحقوق، بل لا بد أن يربط مطالبه بجذرها: نمط الإنتاج، وعلاقات الملكية، وتركيبة السلطة. فلا معنى للمطالبة بالأجر العادل في ظل خصخصة الخدمات، ولا جدوى من الدفاع عن الوظائف في اقتصاد يُدار بمنطق السوق الحر، ولا يمكن خوض معركة ضد تسريح العمال دون ربطها بالنضال ضد الرأسمالية الطفيلية والكمبرادور الذين يتحكمون في مفاصل الدولة.
وبالتالي، فإن أي مشروع نقابي حقيقي لا بد أن يضع نصب عينيه مهمة مزدوجة: إعادة بناء النقابات من القاعدة، ودمج النضال الاقتصادي بالنضال السياسي. وهذا يقتضي استعادة أدوات العمل الجماهيري: الجمعيات العمومية، الإضرابات المنظمة، الشبكات القطاعية، والربط بين القطاعات الحيوية (كالموانئ، النقل، التعليم، الصحة) في جبهة طبقية واحدة. فالحرب التي تُشن على الطبقة العاملة ليست اقتصادية فقط، بل هي سياسية وأمنية ورمزية، ولا تُواجه إلا بجبهة ثورية شاملة.
ومن هنا، لا معنى للحديث عن مستقبل النقابات دون ربطها بمشروع اشتراكي شامل، يُعيد تعريف الدولة، ويُخضع الثروة القومية لرقابة العمال، ويطرح بديلًا جذريًا لما هو قائم. فلا إصلاح دون ثورة، ولا ثورة دون تنظيم طبقي، ولا تنظيم طبقي دون نقابات مقاتلة. وهذا يقتضي كسر طوق الواقعية المزيّفة التي تروّج لها الطبقة الوسطى الليبرالية، والانطلاق نحو أفق أكثر راديكالية، يعيد للنقابة معناها الأصلي: التنظيم بوصفه أداة للقطيعة، لا للتكيف.
فالطبقة العاملة السودانية، المنهكة بالحرب والجوع والتشريد، لا تحتاج إلى شعارات ناعمة، بل إلى منابر تُعبّر عن غضبها، وتنظّم قدرتها على التمرد، وتبني معها – لا نيابة عنها – مستقبلًا جديدًا. النقابة بهذا المعنى ليست هدفًا في ذاتها، بل وسيلة لبناء سلطة مضادة، تُراكم القوة من القاعدة، وتُعيد تشكيل ميزان القوى لمصلحة من لا يملكون إلا أجسادهم ووعيهم.
"النقابة التي لا تُحرض على الثورة، تنحاز حتمًا إلى النظام."
النضال مستمر،،