نقد مقولة «لا يمكن التخلي عن اقتصاد السوق والمنافسة»..ج2
ليث الجادر
2025 / 7 / 12 - 17:13
السوق والمنافسة: بين نجاح التجربة وحدودها
يطرح البعض اليوم دفاعًا صارمًا عن مقولة «السوق» بوصفها النموذج العقلي الأنجح في تنظيم الإنتاج وتوسيع نطاق الوفرة. في هذا السياق، كتب الأستاذ لبيب هذه المداخلة النقدية ردًّا على مقال يشكّك في فكرة التراكم الربحي والتنافس بوصفهما «قدرًا أبديًا» لا بديل له:
«أية مقولة عقلية أو فلسفية يأتي بها العقل البشري لا تكتسب صفة العلمية إلا بنجاح تطبيقها في الواقع، ومقولات السوق والمنافسة ليست إلهية منزّلة بل عقلية اكتسبت علميتها من نجاحها في الواقع بعد الثورة الصناعية. ولا علاقة لهما بنمط الإنتاج الزراعي كي تستشهد بالمشاعية الزراعية كما في مقالتكم؛ فالهكتار من الأرض لا يعطي غير قدر محدود من القمح سواء اليوم أو قبل عشرة آلاف سنة. هذا غير الاقتصاد الصناعي حيث نفس المؤسسة عليها الابتكار والتوسع في السوق والإنتاج لتكون ناجحة وتحقق ربحًا، والابتكار والتوسع يتطلب إعادة ضخ الأرباح في الإنتاج لتحسينه كما ونوعًا وخفض سعره. وهذا هو الفرق عن الزراعة التي سادت عبر التاريخ، حيث الأرباح تتحول لقصور الملوك والإقطاعيين أو إلى الخزائن والسراديب. هذا هو الفرق الهائل للاقتصاد الرأسمالي الصناعي المبني على السوق والمنافسة. ولو أخذنا بقوانين هيغل أو ماركس للتطور الجدلي سنجد الصراع (أي المنافسة) في قلبها، وعليه لا أحد يفهم لمَ يتطوع بعض الماركسيين لدحضها في الاقتصاد كما في السياسة (نفي الديمقراطية الغربية)، إذ يدعون بالديالكتيك ولا يأخذون به.»
#تشخيص غير موفق
من النقاط التي تحتاج إلى مراجعة في نقد الأستاذ لبيب قوله: «فالهكتار من الأرض لا يعطي غير قدر محدود من القمح سواء اليوم أو قبل عشرة آلاف سنة.»
هذه العبارة تبدو بديهية لأنها تحيل إلى حدود الطبيعة، لكنها في الحقيقة لا تعكس التحول الهائل الذي عرفه الإنتاج الزراعي بفعل الابتكار العلمي. الحقيقة أن غلة الهكتار لم تكن ثابتة عبر التاريخ: الأصناف البرية للقمح قبل آلاف السنين كانت منخفضة الإنتاجية جدًا وغير مقاومة للأمراض. أما اليوم، بفضل تهجين البذور، والأسمدة، وتقنيات الري، وحتى الزراعة الرأسية والبيوت البلاستيكية، أصبحت وحدة المساحة الزراعية قادرة على إنتاج أضعاف ما كانت تنتجه سابقًا.
صحيح أن هناك حدودًا بيئية، لكن قدرة الإنسان على مضاعفة إنتاجية الهكتار بطرق مستدامة تثبت أن الزراعة خاضعة لمنطق الابتكار التقني مثلها مثل الصناعة. الأهم من ذلك أن السؤال لا يتعلق فقط بزيادة الغلة، بل بكيفية توزيع هذه القدرة الإنتاجية ولصالح من، وبأي تكلفة اجتماعية وبيئية.
الرد: بين النجاح وحدوده
وبقدر ما يُقدّر كاتب المقال هذا الطرح، فإنه يرى أن نجاح السوق والمنافسة تاريخيًا لا يجعلهما قانونًا أزليًا منزّلًا، لأن معيار العلمية نفسه يشترط رؤية حدود هذه الآليات أيضًا، لا نصفها المضيء فقط. وفي هذا السياق كتب الرد الآتي:
«أشكر الأستاذ لبيب على دفاعه العميق عن السوق والمنافسة بوصفهما إنجازًا عقليًا أثبت قدرته على إنتاج وفرة صناعية هائلة. لكن هذا النجاح لم يكن بلا أثمان: الأزمات الدورية، الاحتكارات، التركز المالي، واستنزاف الموارد كلها نتائج واقعية أيضًا. التناقض الجدلي الذي استشهد به مع هيغل وماركس لا يعني تثبيت الصراع في شكل المنافسة فقط، بل تجاوزه حين يصبح معيقًا أو يفرز أزمات أعمق. أما مقارنة الزراعة بالصناعة، فصحيحة من زاوية تاريخية لكنها تتجاهل أن الرأسمالية فرضت منطق الربح حتى على الزراعة، وحوّلت الأرض نفسها إلى سلعة مضاربة. وبالنسبة للديمقراطية الغربية، فصحيح أنها توسعت في الحقوق، لكنها لم تفكّك تحكّم رأس المال بالقرار السياسي؛ لذا ليس من التناقض أن يُنتقد شكلها البرجوازي لصالح بحثٍ عن تجاوز أوسع يمثل مصالح الأغلبية لا النخب. المطلوب اليوم ليس إنكار السوق، بل تحريره من التقديس الأعمى، وتطوير بدائل عادلة ومستدامة تضع الإنسان والطبيعة فوق الربح وحده.»
إن هذه المساحة المفتوحة بين «نجاح التجربة» و«وعي حدودها» هي ما يمكن أن يشكّل لحظة تفكير جماعي صادق في تجاوز الأزمات المستمرة التي أنتجها منطق السوق حين حُرّر من أي ضوابط اجتماعية وأخلاقية.