نقد مقولة «لا يمكن التخلي عن اقتصاد السوق والمنافسة»


ليث الجادر
2025 / 7 / 11 - 16:34     

إن الزعم بأن اقتصاد السوق والمنافسة هما نمطان لا يمكن الاستغناء عنهما، هو حكم تعميمي يتعامل مع واقع المجتمعات والاقتصاديات بنظرة نمطية واحدة، وكأنه قانون طبيعي لا يقبل التعديل. لكن التاريخ والواقع معًا يُظهران بوضوح أن النظم الاقتصادية لم تكن في يوم من الأيام شكلاً ثابتًا أزليًا، بل هي بناء اجتماعي خاضع للظروف والمتغيرات والحاجات.

فمن الناحية التاريخية، عاش البشر قرونًا طويلة في أنماط اقتصادية بعيدة عن السوق التنافسي بمعناه الليبرالي الحديث. فقد عرفت المجتمعات الزراعية التقليدية اقتصاديات الاكتفاء الذاتي، ونشأت في بعض المراحل أنظمة شيوعية بدائية أو تعاونيات موسعة، بينما سيطرت في فترات أخرى احتكارات سلطوية أو نظم إقطاعية مغلقة. كذلك قدّمت تجارب التخطيط المركزي – كما في الاتحاد السوفيتي والصين الماوية – نماذج صارمة لإدارة الإنتاج والتوزيع خارج آلية السوق الحر، وإن شابتها إخفاقات واضحة لا تُلغي الفكرة الأساسية: يمكن تسيير الاقتصاد خارج منطق المنافسة المطلقة.

أما في الوقت الراهن، فإن الدول الرأسمالية نفسها لا تطبق اقتصاد السوق الحر بمعناه الأيديولوجي المحض، بل تمارسه كصيغة مرنة تخضع للتدخلات والتنظيم. فهناك دعم مباشر لبعض القطاعات (كالزراعة والطاقة)، وهناك ضوابط صارمة للمنافسة عبر قوانين مكافحة الاحتكار، بل وقد تحتكر الدولة قطاعات حيوية بالكامل حين ترى في ذلك مصلحة قومية أو اجتماعية.

ومن الناحية النظرية، صحيح أن المنافسة قد تحفّز الابتكار وتزيد الكفاءة في بعض المجالات، لكنها ليست وصفة سحرية لكل الحالات. فبعض القطاعات تزدهر بالاحتكار المؤقت أو الدعم المستمر (مثل الصناعات العسكرية والتقنية الكبرى)، بينما تُثبت نماذج الاقتصاد التعاوني والمجتمعي قدرة المجتمعات على تنظيم الإنتاج والتوزيع بما يخدم العدالة والاكتفاء بعيدًا عن منطق الربح وحده.

البدائل الممكنة: تنوّع لا ينضب

1) التخطيط المركزي أو الموجَّه: لا سيما في القطاعات الإستراتيجية مثل الطاقة والصحة والدفاع، حيث يمكن للدولة أو المجتمع أن يحتكر التنظيم لضمان الأمن والاكتفاء.

2) الاقتصاد التعاوني: مثل التعاونيات الإنتاجية والاستهلاكية والإسكانية، التي تعيد توزيع الفائض داخل المجتمع المحلي وتمنح الأفراد سيطرة مباشرة على العملية الإنتاجية.

3) اقتصاد الكفاف المحلي: الذي يهدف إلى تقوية الاكتفاء الذاتي وخفض الاعتماد على الأسواق الخارجية، ما يقلل الهدر ويعزز التضامن.

4) النماذج الهجينة: مثل «اقتصاد السوق الاجتماعي» في ألمانيا أو الدول الاسكندنافية، حيث يُدمج السوق مع سياسات حماية اجتماعية صارمة، وضرائب تصاعدية، ورقابة على الأسعار والاحتكارات.

5) المشاريع الاجتماعية والاقتصاد التضامني: وهي مبادرات معاصرة تتجاوز منطق الربح، فتُعيد توجيه العائدات لخدمة التعليم والصحة والإسكان الميسور.

6) الملكية العامة للموارد الإستراتيجية: حتى الاقتصاديات الليبرالية الكبرى تحتفظ بسيطرة الدولة على قطاعات المياه والكهرباء والنقل والرعاية الصحية جزئيًا أو كليًا، لأنها تمس الأمن القومي والعدالة الاجتماعية.


❖ الخلاصة: حرية ابتكار البدائل

ليس اقتصاد السوق والمنافسة قانونًا كونيًا لا فكاك منه، بل هما خيارٌ من ضمن خيارات. إن تكرار القول بعدم إمكانية التخلي عنهما لا يُعبّر سوى عن خضوع الفكر الاقتصادي الحديث لوصفة نمطية واحدة، بينما تكشف التجربة أن المجتمعات تستطيع – متى توفرت الإرادة والسيادة – أن تُعيد تنظيم مواردها وإنتاجها بما يحقق الاكتفاء والعدالة ويقلل من سطوة رأس المال المنفلت.

شعار بديل:
«تنظيم الاقتصاد شأن اجتماعيٌ حر، لا قيد أزليٌ بسوقٍ ولا بمنافسة، بل خيالٌ مسؤول يبتكر من رحم الحاجة