مكونات العقل العربي
فهد المضحكي
2025 / 7 / 5 - 16:15
في حديثه عن مكونات العقل العربي، يقول الكاتب والأكاديمي الكويتي د. عبدالله الجسمي، من يدقق في الفترة الزمنية التي شهدت النهضة العربية الحديثة سيجد مع الأسف أنها تمت في أثناء خضوع العالم العربي للاستعمار الأوروبي، في مقابل ذلك جاء التراجع الكبير بعد التحرر من الاستعمار وقيام الدولة الوطنية. إذ شهدت فترة الاستعمار الأوروبي تغيرات عدة في واقع المجتمعات العربية، فقد شيدت بنى تحتية مختلفة وصيغت الدساتير القائمة على التعددية السياسية وتأسست الجامعات والمعاهد العليا علاوة على محاولة الربط الفكري والثقافي بين أوروبا والعالم العربي، تخللتها فترات معينة من حرية التعبير ساهمت في تشكيل أرضية خصبة للحوار والجدل والنقاش والنقد في عدد من المجتمعات. في ظل هذه الفترة تجاوز العقل العربي مرحلة جموده التي فرضتها عليه الخلافة العثمانية وسعت الرموز الثقافية والفكرية لتحديث المجتمع العربي في شتى المجالات للحاق بركب الحضارة المدنية الحديثة.
فلو نظرنا لمكونات العقل العربي قبل النهضة العربية سنجد أن المكون الثقافي والفكري مستمد من القيم والعادات الاجتماعية، وطرق التفكير التقليدية بما تحتويه من تصورات لليقين والقطيعة والمسلمات غير قابلة للنقد، وقيم وتصورات طريقة الحياة السائدة المرتبطة بالبعد الاقتصادي التقليدي المعتمد على الطبيعة في تحصيل لقمة العيش.
ومع بدايات النهضة دخل العلم والمعرفة الناتجة عنه وطرق التفكير التي جاء بها العقل العربي فأزاحت جانبًا كبيرًا من مكونات العقلية التقليدية، ومثل التقدم الأوروبي تحديًا كبيرًا حيث ظهرت المطالبات بالانفتاح على أوروبا وجلب المعرفة العلمية منها وتبني البعض ما يجري فيها من تطورات في نظام الدولة والمجتمع كنماذج يمكن محاكاتها أو تطويع جوانب منها بما يتماشى مع الواقع العربي.
ويشير د. الجسمي في رؤيته هذه المنشورة في أحد أعداد مجلة «العربي» الكويتية، إلى أن عدة اتجاهات فكرية ظهرت خلال النهضة العربية، مثل حركة الإصلاح الديني، والحركة القومية العربية بمختلف اتجاهاتها، وحركة التنوير العربية، والتيارات اليسارية والليبرالية وغيرها، وقد ساهم رموزها، كل حسب توجهه، في السجال الفكري والثقافي الدائر بين مختلف المشارب الفكرية عبر الصحافة والمنتديات والمجلات والكتب.
ففي ظل هذا المناخ حدث تحول في العقل العربي بعد فترة طويلة من الجمود، وكان المحرك الأساسي هو خلق واقع ومجتمع جديدين يختلفان عما هو سائد عبر مجتمعات مدنية جديدة تواكب تطورات العصر العلمية والحضارية وباجتهادات ومشاريع فكرية وثقافية متنوعة.
وبعبارة أخرى، لقد تم تحرير العقل العربي من جموده الفكري، ومحاولة ربط تفكيره ورؤيته للواقع مع العصر، وأستخدام المناهج والأساليب العلمية والفكرية، في تحليل الواقع وصياغة المستقبل وبناء المجتمع والدولة الحديثة، وتحديث الثقافة العربية والرؤية النقدية للتراث وغيرها.
كان تأثير التنوير الأوروبي طاغيًا خلال هذه المرحلة، ومثلت أفكاره وطرق تفكيره مصدرًا خصبًا للمفكرين والمثقفين والأكاديميين العرب، خصوصًا من درس منهم في أوروبا، حيث عمل الكثير منهم وبشكل جاد على تطوير الواقع العربي وتحديثه وإعادة صياغة العقل العربي من روح التنوير الأوربي. ولكن، ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين، تم الاجهاز التدريجي على قرن كامل من محاولات التحديث والتطوير الفكري والثقافي، وعاد العقل العربي للجمود مرة أخرى وبعوامل بعضها لم يكن موجودًا سابقًا مثل ظهور الحركات الأوصولية والإسلام السياسي، وتسيس كل شيء في المجتمعات العربية، وإحياء ثقافة التشكيلات الاجتماعية التقليدية وغياب الحريات والاجهاز على القوى المدنية والتنويرية في معظم أنحاء العالم العربي.
ثمة عوامل ساهمت في جمود العقل العربي أدت إلى التراجع الكبير الذي تعيشه معظم الدول العربية. وأول هذه العوامل، وفق تصوره، التحول من مجتمعات منتجة إلى مستهلكة.
ولإيضاح ذلك، فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين تدفق الثروة النفطية في العديد من الدول العربية وتحرر الشعوب العربية واستقلال دولها عن الاستعمار، وبرأيه، نتج عن ذلك أمران، تصميم معظم الدول العربية على أساس العمل الأداري بالدرجة الأولى وعدم الاهتمام ببناء اقتصاد منتج، فأصبحت البيروقراطية الإدارية وما نتج عنها من مشكلات وظواهر سلبية، والأمر الثاني يتعلق بالتصفية التدريجية لمظاهر الإنتاج الصناعي التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في عدد من الدول العربية والانفتاح على الاستيراد والتحول إلى الاستهلاك، مما ساهم في بروز الثقافة الاستهلاكية وانتشار قيمها.
ولتوضيح المسألة حول علاقة الإنتاج بالتفكير، يستشهد بتطور الإنتاج الاقتصادي الصناعي الذي اقترن بالعلم ومن ثم التكنولوجيا منذ العصر الحديث، إذ تم توظيف الابتكارات العلمية خصوصًا تلك التي تأتي لحاجات ماسة في حياة الإنسان إلى جزء لا يتجزأ من الاستثمار الاقتصادي والمصادر المدرة لرأس المال والوظائف وتطوير حياة الإنسان وواقعه. وتشكل تقريبًا تحالف بين الشركات والمؤسسات الإنتاجية التجارية مع المؤسسات التعليمية العاليا ومراكز الأبحاث الفكرية والثقافية لدعم الإنتاج الاقتصادي الصناعي، وتشجيع الابتكار، والتعامل مع نتائجه الاجتماعية والسياسية والثقافية. وقد تراكمت عن هذه العملية معارف إنسانية عدة أحدثت في فترات زمنية متلاحقة تطورات نوعية نقلت المجتمعات الإنسانية من واقع إلى آخر أحداث منه يأتي في الأغلب نتيجة لأنماط اقتصادية جديدة يكون لها أبعادها الاجتماعية والثقافية والفكرية، فتعمل القوى الحية في المجتمع على إيجاد وسائل التكيف مع هذه التحولات ومعالجة المشكلات الناتجة عنها بحلول علمية وصياغة قيم وأفكار وطرق تفكير تتماشى معها. وهذا لا يتم إلا من خلال العقل المتجدد والمتسائل والمتفاعل والباحث والناقد والمحلل الذي لا يعرف الانكفاء أو الجمود، فإنجازت الحضارات القديمة والحضارات المدنية الحديثة وواقعنا المعاصر جاءت نتيجة لعقل الإنسان المبدع الذي راكم المعرفة والإبداعات الفنية والعلمية والاقتصادية والسياسية والفكرية والثقافية وأوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن.
ومن بين تلك العوامل أيضًا، التعصب الأيديولوجي، إذ يرى أن الأمر لم يقتصر على الدولة، بل حتى القوى السياسية التي سادت في الشارع العربي حتى نهاية الثمانينيات مثل القوى القومية واليسارية المتطرفة، وتلك التي ازدهرت منذ نهاية السبعينيات وحتى اليوم كالقوى الأصولية الدينية (القوى المتأسلمة)، وقد تميزت بأنها شمولية وترتكز على منظور معين لكيفية بناء المجتمع والدولة من خلال فكر أحادي لايقبل الأطراف الأخرى، بل يقصيها.
وبعد انهيار المعسكر الاشتراكي في بداية العقد الأخير من القرن الماضى تهاوت الأيديولوجيات على مستوى العالم وازداد التضييق على القوى المدنية، وازدهار العصبيات بشتى أنماطها، فبرزت مظاهر التعصب والتطرف والممارسات التي تقود إلى العنف، وتزايد الإقصاء على أسس اجتماعية وعرقية ومذهبية ودينية. وأجهزت هذه العصبيات على بقايا الإرث التنويري والفكر العقلاني الذي بدأ من حركة الإصلاح الديني والحركة القومية العربية والمفكرون والمثقفون والتنويريون العرب، وأجهزت أيضًا على الإرث المدني وتعمل على العودة إلى ما قبل الدولة المدنية الحديثة. ومن يجهز على الإرث التنويري المدني فهو لا بجمد العقل فقط، بل ويغيبه، فالعقل العربي أصبح مغيبًا بأوهام العصبيات التي لا صلة لها في الواقع الحضاري المدني وغارقًا في مسلمات غير قابلة للنقاش أو التغيير ويعيش خارج إطار الزمان والمكان.
ومع انتشار العصبيات في المجتمع العربي في العقود الأخيرة انعكس ذلك على التعليم ومؤسساته العلمية والأكاديمية وأدت إلى تراجع كبير في الوظيفة النقدية للعلم للواقع الفكري والثقافي والاجتماعي وقيمه السلبية. وترك ذلك أثرًا سلبيًا على أهم ما في العقل وهو التفكير وتم تحييده وما يحتوي من أدوات ومناهج ومعارف علمية.
ووفقًا لوجهة نظره، يُعد غياب الفلسفة العربية أحد أبرز الإشكاليات التي أدت إلى جمود القعل العربي وركونه إلى ثقافات تقليدية وأفكار مسلم بها دون نقد وتمحيص وتتداول بين الأجيال عن طريق الوراثة.
وفي مقابل ذلك،يقول: «أنني أختلف مع الرأي القائل بوجود فلسفة عربية خاصة بنا يمكن أن تدرس وتبحث نقديُا من قبل الأخرين، لكن ذلك لا ينفي وجود فلاسفة عرب طور البعض منهم أفكارًا فلسفية غربية أو قاموا بتطبيقها، ونتج عن غياب الفلسفة العربية تلاشي وجود تقاليد فلسفية عربية في النقد والتحليل والتركيب وترك ذلك أثرًا بالغًا على العقل العربي الذي لا يقبل النقد ويقوم على التسليم واليقين الذاتي الصرفي بصحة الأفكار،ولا يؤمن بالاختلاف إلى حد كبير جدًا ويبني عقل الفرد منذ الصغر على قيم التميّز عن الآخرين وإقصائهم. وعلى الرغم مما سبق لم تخل الفترة التي جمد فيها العقل العربي من الأفراد الذين قاوموا تيار الجمود الجارف وواجهوا بشجاعة مظاهر التعصب والتطرف، فكانوا نبراسًا لعديد من أبناء الجيل الجديد الذي بدأ يعيش واقعًا جديدًا تصنعه التكنولوجيا».