العداله الاجتماعيه..حتم التناقض الثنائي


ليث الجادر
2025 / 7 / 4 - 23:12     

تثير العلاقة بين العدالة الاجتماعية في مستواها المادي — أي التوزيع العادل للثروة وتقليص الفوارق الطبقية — وبين العدالة الاجتماعية في مستواها السياسي — أي الحريات المدنية والتعددية والمشاركة الديمقراطية — جدلًا فلسفيًا وسياسيًا عميقًا. فرغم ما يبدو من تكاملٍ ظاهري بين هذين البعدين، فإن قراءة نقدية جدلية تكشف أنهما لا يسيران بالضرورة في خطٍ واحد؛ بل قد تقوم بينهما علاقة عكسية موضوعية، خاصة إذا نظرنا إلى التجربة من منظور الصراع الطبقي في إطاره الماركسي.

العدالة المادية بوصفها نفيًا لشروط النزاع السياسي

إن تحقق العدالة الاجتماعية المادية — عبر مكافحة التمايز الطبقي والإيمان الكامل بمفهوم الصراع الطبقي بوصفه أداةً جذرية لإعادة التوزيع — لا يترك للنزاع السياسي التقليدي وظيفته التصحيحية. ففي ظل ديمقراطية مركزية عادلة وفاعلة، يُعاد إنتاج المساواة ماديًا من خلال التخطيط الجماعي وضبط الفائض وإعادة توزيعه على نحوٍ يحقق الاكتفاء للجميع. هنا تنتفي الحاجة إلى الآليات الليبرالية التي نشأت تاريخيًا لضبط التفاوتات أو موازنتها بوسائل شكلية كالاقتراع والتمثيل الحزبي.
إن السياسة في معناها الليبرالي ليست إلا نتيجة مباشرة لاستمرار الفوارق البنيوية. ومع انحسار تلك الفوارق تتحرر السياسة من بعدها الصراعي. فالعدالة المادية المستقرة تفرغ المطالبة بالعدالة السياسية من مضمونها كأداةٍ للتصحيح الطبقي، وتحوّل فائض الطاقات الاجتماعية إلى فضاءات أكثر إنسانية وإبداعًا: الفنون والثقافة والرياضة والعمل التطوعي. هكذا تتحول العدالة من وظيفة نضالية إلى قيمة تمكينية تحررية، وتُعاد صياغة مفهوم الحرية ذاته ليصبح حريةً من الضرورات المادية، لا مجرد حريةٍ شكلية مقيدة بجوهرٍ غير عادل.

الديمقراطية البرجوازية: اتساع الحرية وانكماش المساواة

هذه الرؤية تطرح تساؤلًا مركزيًا حول الديمقراطيات الليبرالية الحديثة: هل إن توسيع نطاق «العدالة السياسية» — التعددية، الحريات، التداول السلمي للسلطة — نجح فعلًا في إنجاز عدالة اجتماعية مادية؟ التجربة التاريخية والإحصاءات المعاصرة تكشف هشاشة هذا الادعاء.
لقد كبرت تطبيقات العدالة السياسية وتوسعت في الديمقراطيات البرجوازية، لكنها لم تُلغِ آليات إعادة إنتاج التفاوت. فالسوق الحرّ، رغم الحريات السياسية الواسعة، بقي أداةً لتراكم رأس المال بيد الأقلية. أصبح حق التنظيم والتعبير في كثير من الأحيان غطاءً أيديولوجيًا لإعادة إنتاج الامتيازات: تُمنح الجماهير حق التصويت والمشاركة، لكنها لا تمس جوهر البنية الاقتصادية التي تصنع التمايز. ومع الوقت، تتحول هذه «الحرية السياسية» إلى مسرح رمزي لإدارة تفاوتٍ أصبح أكثر رسوخًا.

شواهد التاريخ: بين الاشتراكية والليبرالية

تكفي المقارنة التاريخية لفهم هذه العلاقة العكسية: فقد أظهر الاتحاد السوفياتي — رغم ما شاب تجربته من انحرافات بيروقراطية وقمع سياسي — كيف يمكن لنموذج التخطيط المركزي ومكافحة التمايز الطبقي أن يلغي جذور النزاع السياسي الطبقي التقليدي، على الأقل في مراحله الأولى. ومع استقرار العدالة المادية نسبيًا، توجهت طاقات المجتمع إلى مجالات أخرى: الرياضة، الفنون، البحث العلمي، والتعليم المجاني واسع النطاق.
في المقابل، تكشف الديمقراطيات الغربية أن الانفتاح السياسي — إن لم يقترن بسياسات مادية عادلة — يبقى عاجزًا عن تفكيك الهياكل الطبقية؛ بل قد يسهم في تكريسها بأشكال أكثر مقبولية اجتماعيًا. وهكذا يصبح السؤال: هل تُحرّرنا الديمقراطية الليبرالية فعلًا من التفاوت الطبقي أم تعيد إنتاجه تحت راية الحريات الفردية؟

نحو عدالة متكاملة

إننا بهذا نؤكد أن العلاقة بين العدالة الاجتماعية المادية والسياسية ليست علاقة تكاملٍ حتمي بل هي — في كثير من تجارب التاريخ — علاقة عكسية في جوهرها. فتحقيق المساواة المادية الحقيقية يُحيّد الحاجة إلى الصراع السياسي بوصفه وسيلةً لإعادة التوازن، ويحرر المجتمع كي يُعيد توجيه طاقاته نحو الإبداع الثقافي والمعرفي والجمالي. أما حيث تظل العدالة المادية غائبة، فإن اتساع «العدالة السياسية» يصبح مجرد وهم ديمقراطي، يُخدّر النزاعات بدلًا من أن يحلها من جذورها.
وهكذا، لا يكتمل مشروع العدالة إلا حين يُدمج بين قاعدةٍ ماديةٍ عادلةٍ تضمن الكرامة والاكتفاء للجميع، وبين إدارةٍ ديمقراطيةٍ مركزيةٍ واعيةٍ تعيد تعريف السياسة، لا بوصفها ساحة نزاعٍ دائم، بل بوصفها أفقًا تحرريًا يطلق المجتمع نحو فضاءاتٍ أرقى من الضرورات: فضاءات الفن، والثقافة، والرياضة، والعمل العام الذي لا تحكمه الضرورة بل تحرّكه إرادة الحياة المشتركه