هل لا يزال لليسار معنى في ظل العولمة النيوليبرالية؟ .


رياض الشرايطي
2025 / 6 / 30 - 22:47     

✦حين تفرغ الكلمات من ثورتها.
ليس سؤال اليسار مجرّد تأمّل فكري في مصير إيديولوجي، بل هو سؤال الجهة التي يمكن أن يأتي منها المستقبل، واللّغة التي لا تزال قادرة على نحت العالم من جديد. فعندما تتحوّل الرّأسمالية إلى دين عالمي، ويتماهى السّوق مع الدّولة، ويتحوّل الإعلام إلى دعاية للهيمنة، تصبح معاني مثل "العدالة"، و"التحرّر"، و"الصّراع الطّبقي" بقايا لغويّة يعاد تدويرها في قواميس المنظّمات، بينما تطحن الجماهير في طاحونة الغلاء والبطالة والتهميش.
في هذا المناخ، يبدو "اليسار" وكأنّه شبح، يطفو على هامش الأحداث، يستعيد لغة قديمة فقدت بريقها، أو يتنازل تدريجا عن جوهره ليحجز مقعدا على طاولة النّظام، طمعا في "إصلاح ممكن" لا يغيّر شيئا من البنية. بعض فصائل اليسار اندمجت في البيروقراطيات الدّولية والمنظّمات المموّلة، وبعضها الآخر تقوقع في النّقاء النّظري، فاقدا للصلة بالواقع. وبين الاثنين، تآكلت القدرة على الفعل الجذري، وضاعت البوصلة.
لكن، هل هذه نهاية التّاريخ اليساري؟ أم أن هذه الهزائم ذاتها هي نداء العودة إلى الأساس: إلى الممارسة، إلى التّنظيم، إلى حلم التّغيير الشّامل؟
لقد شهد العالم موجات يساريّة مدوّية: من كومونة باريس إلى الثّورة البلشفية، ومن كوبا إلى الجزائر، ومن فلسطين إلى تشيلي. موجات خطّت للإنسانيّة طريقا خارج الرّأسمالية. غير أنّ النيوليبرالية كآلة سحق لا تترك شيئا إلّا وتفرغه من مضمونه: من الدّيمقراطية، إلى المواطنة، إلى حتّى فكرة التحرّر ذاتها.
في هذا السّياق، لا يكون السّؤال: "هل مات اليسار؟" بل: "كيف نحافظ على اليسار حيّا دون أن يصبح مجرّد شعار فارغ أو وظيفة ناعمة؟ كيف نعيد إلى الكلمة معناها، وإلى المعنى جهته، وإلى الجهة هدفها؟"
اليسار الذي لا يعود إلى الجماهير هو يسار محنّط. واليسار الذي لا يشكّل تهديدا حقيقيّا للمنظومة ليس سوى جزء منها. لذلك، فإنّ السؤال الذي يُطرح هنا لا يطلب مجرّد تأمّل نظري، بل يستدعي حفرا في الحاضر، وإعادة بناء للأفق، وتركيبا جديدا لصيغة المقاومة.
هذا النصّ ليس تأبينيا، بل جدل مع الرّاهن. محاولة لإعادة تعريف اليسار لا عبر اقتباسات ماركس ولينين فقط، بل عبر سؤال: من نخدم؟ ومن نعادي؟ وما موقعنا من الإنتاج، ومن الشّارع، ومن الدّولة، ومن رأس المال؟ إنه نداء لبناء يسار جديد، لا يبدأ من التّبرير، بل من النّقد. لا يهادن، بل يواجه. لا يبحث عن موطئ قدم في النّظام، بل يسعى إلى خلخلته بالكامل.

𘝽. انزلاق المفهوم أم انسحاب المعنى؟ .

منذ لحظة سقوط جدار برلين، بدا أن اليسار يعيش أزمة لغة قبل أن تكون أزمة برنامج. إذ لم تعد المفردات التي صاغت تاريخه قابلة للتّداول كما كانت، لا لأنّها خاطئة، بل لأن النّظام النيوليبرالي عمل بذكاء على تعويمها، وإفراغها من راديكاليتها، ثم إعادة تدويرها ضمن قوالب ليبرالية جديدة.
لقد قال المفكّر الماركسي البريطاني تيري إيغلتون:
"اليسار لا يموت حين تهزم مشاريعه، بل حين يتوقّف عن تسمية الأشياء بأسمائها."
وها نحن في زمن يسمّى فيه الاستغلال "فرصا"، والتقشّف "إصلاحا"، والخصخصة "تحديثا". ويختزل فيه التحرّر في حرّية الاستهلاك، والتقدّم في حجم السّوق، والمساواة في فرص التّنافس الفردي. أمّا "اليسار"، فصار يعرّف أحيانا كحالة وجدانية: تضامن، أو تعاطف، أو رفض رمزي للظلم، دون أيّ مشروع سياسي جذري لمواجهة جذور الهيمنة.
ولعلّ ما يزيد الصّورة التباسا هو أنّ بعض فصائل اليسار نفسه ساهمت ، عن وعي أو لا وعي ، في هذه التعمية. حيث انتقلت من نقد المنظومة إلى التكيّف معها، ومن حلم الثّورة إلى إدارة الأزمة، ومن الخطاب الطبقي إلى خطابات الهويّة، ومن التّنظيم الشعبي إلى مشاريع التمويل. كما قال المفكّر الفرنسي ألان باديو:
"ما يسمّى يسارا اليوم، هو غالبا يمين بلغة أخرى."
لقد شهدنا هذا التحوّل في زمن صار فيه حتّى مفهوم "العدوّ الطّبقي" يبدو غريبا على الآذان. بل صار ينظر إليه كمصطلح قديم، غير متحضّر، يزعج الخطاب اللّيبرالي المهيمن. فأين اختفى ذلك اليسار الذي كان يرى في الرّأسمالية بنية قهر، لا مجرّد خلل أخلاقي؟
إنّ انسحاب المعنى من كلمة "يسار" لا يرتبط بزوال الصّراع الطّبقي، بل بزوال جرأة تسميته. فالطّبقات لا تزال قائمة، بل تتوحّش يوما بعد يوم، لكن اليسار في كثير من تمظهراته أصبح يتهرّب من هذا التسمية. لم يعد يقول: "نريد إسقاط سيطرة رأس المال"، بل يطلب "عدالة أكثر". لم يعد يقول: "نريد مصادرة الملكيات الكبرى"، بل يدعو إلى "تمكين اقتصادي". وهنا تحديدا يبدأ انزلاق المفهوم: من معركة بنيوية ضد النّظام، إلى تعديل أخلاقي داخله.
قال المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي:
"أعظم الانتصارات التي تحقّقها السّلطة هي أن تجبر خصومها على التّفكير بلغتها."
وهذا ما حصل فعلا. لقد سحب اليسار نحو ميدان مفاهيمي صنعه الخصم: لغة الحقوق المجزّأة، المواطنة المجرّدة، الإصلاحات التدريجيّة، التنوّع، الإدماج... وهي مفردات رغم وجاهتها الظّاهرة، فإنّها في بنيتها تخدم استدامة النّظام، لا تقويضه.
اليوم، السؤال الذي يجب أن يطرح بوضوح هو: هل يمكن لليسار أن يستعيد معناه دون استعادة لغته الطّبقية؟ دون أن يقول بجرأة إنّ خصمه هو رأس المال؟ دون أن يعلن، كما أعلن ماركس:
"إن تاريخ كل المجتمعات حتى الآن، هو تاريخ صراعات طبقيّة."
أيّ يسار لا يملك الشّجاعة لتسمية العدوّ، هو يسار بلا خريطة. وأيّ خريطة لا تظهر التناقضات البنيويّة، لا تقود إلى شيء سوى الدّوران داخل متاهة النّظام.

✦ 2. النيوليبرالية كمحرقة للمعاني .

النيوليبرالية ليست مجرّد خيار اقتصادي، بل هي منظومة كاملة تعيد تشكيل الإنسان والعالم واللّغة. فهي لا تكتفي بتحرير السّوق من رقابة الدّولة، بل تسعى إلى اختزال كلّ القيم في معيار الرّبح. وبهذا المعنى، فإنّ النيوليبرالية تمارس ما يمكن تسميته بـ"المحرقة الرّمزية"، حيث تفرغ المفردات من شحنتها الثّورية وتحشوها بدلالات نفعيّة وظيفيّة.
لقد أصبح "الحقّ في العمل" يعني القبول بالتشغيل الهشّ. وصارت "الدّيمقراطية" توازي الذّهاب إلى صناديق اقتراع تدار من رأس المال. وغدت "الحرّية" تختزل في حرّية الاستهلاك، بينما يقمع كلّ صوت يدعو إلى توزيع الثّروة أو مساءلة الملكيّة.
كما يقول الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك:
"النيوليبرالية هي القدرة على قول كلّ شيء، بشرط ألّا تقول شيئا يزعج السّوق."
وهو ما يفسّر لماذا لم تعد الكلمات مثل "العدالة الاجتماعية"، "التّمكين"، "الإصلاح"، و"المشاركة" تحمل معناها الأصلي، بل أصبحت ملحقات خطابيّة في مشاريع مموّلة، أو شعارات انتخابيّة بلا مضمون. لم تعد المفردات أدوات للمواجهة، بل أدوات لإدارة التناقضات، ولتهذيب الغضب.
ويشير بيير بورديو إلى هذا التّلاعب المفاهيمي حين يقول:
"يتمّ أحيانا قتل المعنى عبر الإفراط في استخدام المفردة."
فالدّولة النيوليبرالية لا تمنع الحديث عن الحقوق، بل تفرط في الحديث عنها بشكل يفرغها من فعاليتها. يصبح النّقاش حول "حقوق الإنسان" بديلا عن النّقاش حول توزيع الثّروة. ويستبدل الحديث عن "الاستغلال" بالحديث عن "التّمكين". ويسحب مفهوم "الطّبقة" من التّداول ليستبدل بـ"الفئات الهشّة".
وهنا تكمن خطورة النيوليبرالية: أنّها لا تواجه اليسار بالقمع المباشر فقط، بل تحاصره رمزيّا عبر تجريد خطابه من معناه. تتيح له الكلام، بشرط ألّا يكون لهذا الكلام أيّ أثر فعلي. كما قال سلامة كيلة:
"النيوليبرالية لا تخاف من النّقد، بل من التّنظيم."
ولذلك، فكلّ يسار لا يدرك آلية اشتغال النيوليبرالية كآلة لغوية أيضا، سيجد نفسه يردّد شعارات فقدت معناها، أو يشتغل داخل منظومات صُمّمت لمنع الثّورة لا لتحقيقها.
اليسار الحقيقي إذن، هو الذي لا يكتفي باستعادة المفردات، بل بإعادة تسليحها بالمعنى. هو من يعيد للصّراع الطّبقي اسمه، وللاستغلال توصيفه، وللثّورة مشروعها. لأنّ النيوليبرالية لا تحارب بالسّرديات الجميلة، بل بمشروع بديل كامل: فكري، اقتصادي، سياسي، لغوي.

✦ 3. اليسار الرّمزي و"الموقف الوجداني" .

إذا أردنا أن نقرأ التحوّل الجذري في معنى اليسار داخل العصر النيوليبرالي، فعلينا أن نتوقّف عند ظاهرة اليسار الرّمزي، أو كما يسميه بعض المفكّرين بـ"اليسار الوجداني". هذا اليسار، الذي يحاكي القيم الكبرى دون مشروع مادي لتحقيقها، صار الوجه النّاعم لنظام خشن، يتكلّم لغة الأخلاق بدل لغة الاقتصاد السياسي، ويستبدل الصّراع الطّبقي بالتعاطف الفردي، والتّنظيم بالنّشاط الرّمزي.
يقول الفيلسوف الإيطالي دومينيكو لوسوردو:
"أسوأ ما يمكن أن يفعله اليسار، هو أن يتحوّل إلى ضمير مرتاح للنّظام، لا إلى تهديد له."
هذا ما حدث تحديدا مع جزء كبير من اليسار المعاصر: أصبح يشتغل ضمن فضاءات إعلاميّة وثقافيّة تتيح له الكلام – بشرط ألّا يكون فعله ماديّا. فلا هو يخاطب الطّبقات المنتجة، ولا يحاكم من يملكون وسائل الإنتاج، بل يركّز على قضايا "الهويّة"، و"الخطاب"، و"التعدّدية"، متجاهلا أن تلك القضايا تستثمر من قبل رأس المال لإعادة إنتاج نفسه.
اليسار الرمزي يتبنّى شعارات التّضامن، لكنّه يرفض التّنظيم الجماهيري. يتحدّث عن المساواة، لكنّه لا يمسّ بنية الملكية. يدافع عن حقوق الإنسان، لكنّه لا يجرؤ على قول: من يملك السّلطة؟ من يملك الأرض؟ من يسيطر على وسائل العيش؟
هذا التحوّل ليس بريئا. إنّه جزء من عملية احتواء كبرى. فالمنظومة النيوليبرالية، كما يشير المفكر ديفيد هارفي، لا تكتفي بتفكيك الهويات الجماعية، بل تستثمر في إعادة تشكيلها ضمن أنماط استهلاكية واحتجاجية مفرغة من المحتوى الثوري:
"الرّأسمالية النيوليبرالية تعيد هندسة حتّى أشكال المقاومة كي تناسب بنيتها."
وهكذا، صار اليسار الوجداني بديلا مريحا لليسار الثّوري. يسار يتحدث عن الإدماج، لا عن الثّورة. عن الحقوق، لا عن النّضال. عن الضحايا، لا عن المقاومين. يسار يوزّع شهادات التّعاطف بدل أن ينظّم صفوف المعركة.
وقد حذّر هربرت ماركوز من هذا المأزق حين كتب:
"في المجتمعات الصّناعية المتقدّمة، يصبح النّقد ذاته منتجا داخل النّظام، لا خارجه."
اليسار الرّمزي إذن، ليس فقط غير فعّال، بل قد يكون أحيانا عنصر تهدئة وتفريغ. إنّه يسار يدور في حلقة مفرغة من المؤتمرات، والورشات، وبيانات التضامن، دون أي اتصال فعلي بالحقل، بالمصنع، بالشارع، بالسجون، بالمخيمات، بالأسواق، بالحارات الشعبية.
ما الفرق بين هذا اليسار وبين آلة العلاقات العامة؟ سؤال موجع لكنه ضروري.
إنّ ما يصنع الفرق ليس كثافة الخطاب، بل وجهته الطبقية. وكل يسار لا يعبّر عن جرح الأغلبية المسحوقة، ولا يعمل على تنظيم قوتها، هو يسار أدبي، لغوي، لكنه لا يُقلق رأس المال في شيء. قد يُنتج خطابًا جذابًا، لكنه غير مؤذٍ. بلغة غرامشي: خطاب دون هيمنة مضادة.
إنّ مواجهة هذا اليسار الرمزي لا تعني التنكر للقيم النبيلة التي يرفعها، بل تعني استعادتها ضمن مشروع تغييري فعلي، ينقلها من مقام النوايا إلى مقام الفعل. من عتبة الأخلاق إلى أفق السياسة الثورية.

✦ 4. من يخدم كل يسار؟ تحليل طبقي موجز .

في صلب كلّ انتماء يساري حقيقي، ينبغي أن يُطرح السؤال الأساسي: أي طبقة اجتماعية يخدمها هذا التيار؟
فليس كلّ من يرفع شعارا أحمر أو يقتبس من ماركس أو ينادي بـ"العدالة" يعدّ بالضرورة حليفا للمهمّشين أو صوتا للفقراء. ذلك أن الكثير من "اليسار" في الزمن النيوليبرالي قد صار وسيطا ناعما بين السّلطة والجماهير، أو مجرّد صوت معارض في شكل خطاب، لكنّه متواطئ في بنيته ومصالحه.
إنّ ما يسمّى باليسار التقليدي، المنتمي إلى جذوره الاشتراكية أو الماركسية، هو الذي حافظ ، ولو بصعوبة ، على علاقته العضوية بـالطبقات العاملة والفئات الفلاحية والشرائح الكادحة. هو يسار يتكلّم لغة الصراع الطبقي، لا لغة التفاوض، ويقف إلى جانب من ينتجون الثروة ولا يملكونها، ضد من يملكونها ولا ينتجونها. إنه يسار يرى العالم من موقع الحقل والمصنع، لا من وراء المكاتب المكيّفة. ومتى تاه عن هؤلاء، فإنه يفقد بوصلته حتى وإن احتفظ بمفرداته الثورية.
أمّا اليسار "الحديث"، الذي انشغل بقضايا الجندر، والهوية، وحقوق الأقليات، فقد وجّه خطابه بدرجة أولى إلى الطبقات الوسطى المدينية، تلك التي تبحث عن تمثيل سياسي وثقافي دون المساس بالبنية الاقتصادية نفسها. هذا اليسار يتحدّث بلغة الحقوق، لا بلغة الثّورة؛ بلغة الاعتراف، لا بلغة الاستيلاء. وهو، في كثير من الأحيان، يرفض الصراع الطبقي بوصفه "تقليديّا"، ويقدّم نفسه كتيار إصلاحي تقدّمي، لكنه لا يهدّد جوهر السّلطة، بل يطلب التعايش معها.
ثم يأتي ما يطلق عليه في الخطاب النقدي اسم "اليسار الوظيفي"، وهو تيار لا يخفي تبعيته لدوائر التمويل الأجنبي، ولا يخرج عن سياق المنظمات غير الحكومية (ONG) التي تنتج خطابا مموّلا يفرغ السياسة من معناها الراديكالي. هذا اليسار، رغم شعاراته "المدنية"، يخدم في الواقع مصالح النخبة العالمية والمؤسسات الإمبريالية التي تبحث عن تفكيك البنى المحلية وإعادة تشكيلها على نمط رأسمالي ناعم. إنه يسار يروّج لـ"التمكين الاقتصادي" لا للعدالة الطبقية، ويسعى إلى إصلاح النظام لا إلى تقويضه. خطابه مفرغ من العداء البنيوي للرأسمالية، لأنّه ببساطة يعيش منها.
أمّا وسط اليسار، فيشكّل ما يمكن تسميته بـ"اليسار المتردّد" ، تيار يخشى الثّورة ويخاف من اليمين في آن واحد، فيتّخذ موقع البرجوازية الصغيرة: تلك الفئة التي تخشى السقوط وتطمع في الصعود، فتحاول دائما "إصلاح ما يمكن إصلاحه". هذا اليسار يحاول أن يكون صوتا عقلانيّا بين الضّجيجين: ضجيج الشّارع وضجيج السّوق. لكن في لحظات الحقيقة، غالبا ما ينحاز إلى الاستقرار لا التغيير، وإلى "الوضع القائم" بدل إعادة توزيعه.
وفي أقصى درجات التناقض، يقف "يمين اليسار"، وهو تيار لم يعد يسارا في أيّ شيء سوى الاسم، فقد تبنّى سياسات نيوليبرالية واضحة، ودافع عن الخصخصة، وخضع لشروط صندوق النقد، واعتبر الثورة "مطلبا فوضويّا". هذا التيار يتبنّى أحيانا رمزية ماركس أو لينين في الخطب، لكنه يوقّع على تسريح العمّال في الاجتماعات الوزارية.
وحده ما يعرف بـ"يسار اليسار" أو اليسار الجذري، هو من لا يزال ينحاز — بوضوح وبلا تردّد — إلى المهمّشين والفقراء والعمّال والفلاحات والعاطلين عن العمل، أولئك الذين لا يمتلكون لا تمويلا أجنبيّا ولا ترف الانتظار. هذا اليسار لا يبحث عن "توازنات سياسية"، بل عن كسر الهيمنة. لا يسعى إلى تهذيب الرأسمالية، بل إلى نفيها. لا يخاف من عبارة "الاستيلاء على السلطة"، بل يعتبرها جزء من المشروع الطبقي الواجب تصعيده من الأسفل، لا تداوله بين نخب ملوّنة.
هكذا، يقاس اليسار لا بالخطاب بل بمن يخدمه هذا الخطاب: هل يصبّ في مصلحة الكادحين؟ أم يجمّل وجه الدولة؟ أم يرضي الممولين؟ أم يخدّر الجماهير بنشاطات رمزية؟
كلّ يسار لا ينتمي فعليّا إلى مشروع تحرّر الفئات المسحوقة، هو إمّا يسار مدجّن، أو يسار خائن.

✦ 5. عندما ينخرط اليسار في إدارة الأزمة بدل تفجيرها .

في أغلب بلدان الجنوب، ومنها تونس، يمكن ملاحظة ميل واضح لفصائل واسعة من اليسار نحو المشاركة في إدارة الأزمات بدل العمل على تفجيرها أو تعميق تناقضاتها بهدف فتح أفق التغيير الجذري. لقد صار جزء كبير من اليسار، لا سيما الإصلاحي والوظيفي، جزء لا يتجزأ من مشهد النظام، يتنقل بين لجان التشاور وموائد الحوار ومؤتمرات الشراكة، باحثًا عن "حلول ممكنة" لا تزعج النظام، بل تريحه.
إن هذا التحول من يسار يسعى إلى إسقاط البنية، إلى يسار يسهم في صيانتها التقنية، لم يكن مجرد اختيار تكتيكي، بل انعكاسٌ لانفصال خطير عن المهمة التاريخية لليسار بوصفه قوة تفكيك وبناء. وكما يقول سلامة كيلة:
"اليسار الذي لا يريد الثورة، لم يبق منه سوى اسمه."
إن يسار إدارة الأزمة هو يسار تقني، يعيد تدوير خطاب الدولة بأدوات نقد ناعمة، ويتحوّل إلى مستشار خبير لا إلى محرض تعبوي. يقدّم المقترحات، لا الاحتجاجات؛ ينظّم حلقات التكوين، لا حلقات التنظيم الجماهيري؛ يخاطب الدولة، لا الجماهير. وهذا ما يجعل دوره أقرب إلى دور منظمات التنمية الدولية، منه إلى دور الطلائع الثورية.
في لحظة تاريخية ينهار فيها النموذج الاقتصادي النيوليبرالي، وتتفكك فيها بنى الدولة الريعية، وتتصاعد فيها أشكال الاستغلال المزدوج والبطالة المزمنة، يصبح الاكتفاء بإدارة الأزمة نوعا من الخيانة الطبقية المقنعة. لأن الأزمة نفسها ، في منطق رأس المال ، ليست استثناء، بل هي جزء من آلية الاشتغال: لحظة يعاد فيها تركيز السلطة والثروة عبر التبرير بالخطر، والتقشف، والانكماش.
وكما لاحظ تروتسكي، فإن "الثّورة لا تولد من البرامج، بل من التناقضات المتفجرة". وإذا كان اليسار يهرب من هذه التناقضات، أو يعمل على احتوائها تقنيا، فهو يسهم في منع ولادة البديل، ويحوّل نفسه إلى جزء من منظومة إدارة الخسائر.
في تونس، مثلا، نرى جزء من هذا اليسار يشارك في الحكومات، أو يتحالف مع قوى نيوليبرالية، بدعوى الواقعية أو الضرورة. لكنه حين يفعل ذلك، يتنازل عن أهم ما يميّزه: الجرأة على قول "لا"، حين يصبح كل شيء قابلا للتفاوض.
إنّ ما ينتظر من اليسار، ليس أن يكون طرفا تقنيا في معادلة الدولة، بل أن يكون طرفا صداميا مع الأسس التي تقوم عليها الدولة حين تكون دولة الطبقة المسيطرة. يسار بلا عدو طبقي معلن، هو يسار بلا هوية. ويسار لا يستثمر الأزمة لتفجير البديل، هو يسار بلا مشروع.
اليسار الذي لا يصنع الأزمة، ولا يراكم وعيا حولها، ولا يقدّم إجابات جذرية على أسئلتها، يكتفي بأن يكون ظِلّا باهتا لإدارات مهزومة. تماما كما قال أمين معلوف في حديثه عن المثقف المتواطئ: "الحياد في زمن القتل، جريمة."

✦ 6. من هم "الرفاق" اليوم؟ إعادة تعريف الانتماء.

ليس من قبيل التهويل أن نقول إنّ الكثير من اليسار المعاصر يقف اليوم أمام مفترق خطير: إما أن يعيد تعريف نفسه على نحو راديكالي، أو يتحوّل إلى ديكور سياسي بلا قدرة ولا وظيفة، يزيّن المشهد الديمقراطي دون أن يخلخل شيئا من أساساته. إنّ خيار القطيعة هنا لا يعود ترفا فكريّا أو قرارا تنظيميّا، بل هو ضرورة وجودية، لأنه وحده ما يحدد: هل نحن أمام يسار يريد أن يغيّر شروط اللعبة، أم أمام يسار يقبل باللعب ضمن قواعد خطّت لخسارته سلفا؟
في هذا السياق، تظهر القطيعة كفعل تحرّر مزدوج: من جهة، تحرّر من التموقع الوظيفي داخل مؤسسات الدولة النيوليبرالية التي تسعى لتدجين أي صوت نقدي؛ ومن جهة أخرى، تحرّر من الخطاب المعقّم الذي يستبدل الجذر الطبقي بالنوايا الإصلاحية، والعدالة الاجتماعية بالتمكين التنموي، والممارسة الثورية بالمقاربات التقنية.
إنّ القطيعة المطلوبة لا تعني الاستقالة من الحقل السياسي، بل على العكس، تعني الانغراس الجذري فيه ولكن من جهة مضادة: جهة الهامش، جهة الجماهير، جهة من لا يملكون شيئا. قطيعة مع الدولة كأداة طبقية، مع التمويل الخارجي كآلية استعمار ناعم، مع المنظمات غير الحكومية كفضاء تفريغ نضالي، ومع كل خطاب يجَمِّل الرأسمالية أو يعيد إنتاجها بقفازات مدنية.
وقد أشار جان زيغلر إلى هذه المسألة بقوله:
"حين تصبح المقاومة شكلا من أشكال التعاون، يتحوّل اليسار إلى كاريكاتور."
ومن هنا تأتي الحاجة إلى استعادة المعنى لا عبر إعادة تعريف اليسار، بل عبر إعادة تعريف العدو: من هو العدوّ؟ إنّ عدم وضوح هذا السؤال هو ما يجعل كثيرا من القوى اليسارية تتأرجح بين الاحتجاج والتبرير، بين المعارضة والتطبيع، بين الثورة والاندماج. أما حين يطرح العدوّ بوضوح ، الرأسمال، الدولة البوليسية، السوق المعولم، الاستعمار الجديد، الذكورية البنيوية، الإمبريالية ، فإن المعنى يعود واضحا، وتستعاد البوصلة.
اليسار لا يعيد المعنى لنفسه إلا إذا تجرأ على خيانة كل ما تمّت مأسسته باسمه. وهذا يعني في سياقنا العربي:
-أن يقطع مع وهم الديمقراطية التمثيلية الزائفة.
-أن يرفض مأسسة الحركات الاحتجاجية داخل شبكات التمويل.
-أن يعيد بناء ذاته من القاعدة، لا من فوق.
-أن يخوض معارك الأرض، والخبز، والعمل، والحرية، لا معارك الرمزية الثقافية فقط.
كتب ماركس في خطابه إلى رابطة الشيوعيين:
"ليس على الثوري أن يُقدّم الأعذار للسلطة، بل أن يقتلع شرعيتها."
القطيعة إذن هي واجب سياسي وأخلاقي، وليست مغامرة تنظيرية. هي الشرط اللازم لتجنّب الانتحار السياسي الذي وقع فيه جزء من اليسار العربي حين اعتقد أن بإمكانه أن يُوازن بين الشارع والدولة، بين رأس المال والفقراء، بين الثورة والإصلاح.
لا يسار دون قطيعة. لا يسار دون صدام. لا يسار دون إعلان الانحياز الصريح، لا لأجل الجماليات، بل لأجل المعركة.

✦ 7. إعادة المعنى: بين الضرورة والانتحار السياسي.

إنّ مأزق اليسار اليوم لا يتمثل في عجزه عن الفعل فقط، بل في ارتباكه العميق بين الحلم والرعب: حلم التغيير الجذري، ورعب الوقوع في العزلة أو الهامش أو الفشل. لقد صار هذا التذبذب ينتج خطابا مشلولا، يخشى المجازفة، ويفضل الممكن على المرغوب، والتكتيك على المشروع، والإصلاح على الثورة.
لكن السؤال الذي يجب أن يطرح بوضوح هو: ما هو الممكن التاريخي في زمن النيوليبرالية الكاسحة؟ وهل هو ممكن أصلا دون أن يكون مشروطا بالقبول بقواعد اللعبة؟ وهل بالإمكان صناعة يسار مؤثر من داخل لعبة صممت لنفيه؟
لقد حذر أنطونيو غرامشي من هذه اللحظة المأزقية حين كتب:
"الأزمة تكمن في أنّ القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد... وفي هذا الفراغ تظهر الوحوش."
ففي ظل غياب مشروع يساري متكامل، تعيد القوى النيوليبرالية إنتاج ذاتها تحت أقنعة جديدة: تنموية، حقوقية، رقمية، وبيئية. وتتحول الدولة من حارس طبقي مباشر إلى ميسر لتراكم رأس المال، بمشاركة "مكونات المجتمع المدني" التي غالبا ما تتضمن يسارا مروّضا.
لكن الحلم لا يموت، والممكن ليس ثابتا. إنّ الممكن التاريخي يتغيّر حين تتغيّر موازين القوى، وموازين القوى لا تتغيّر إلا بالفعل الجذري. وهذا ما فهمه الثوار الحقيقيون، من روزا لوكسمبورغ إلى هوشي منه، ومن باتريس لومومبا إلى تشي غيفارا. لقد آمنوا جميعا أن ما يبدو مستحيلا في لحظة ما، قد يصبح ضرورة في لحظة أخرى.
"كن واقعيا، اطلب المستحيل!" .
تشي غيفارا
لكن الواقعية هنا لا تعني قبول القفص، بل تعني فهم شروطه لكسره. وتعني أن اليسار ليس مدعوا لمجاراة الواقع كما هو، بل لتفجيره من الداخل. أن يصنع مساحته لا أن يمنحها، أن يخلق لغته لا أن يستعيرها، أن يعيد تشكيل الممكن لا أن يخضع له.
الممكن التاريخي ليس هدية، بل نتيجة صراع. وكل يسار لا يخوض هذا الصراع باسم من لا يملكون ، لا الأرض، ولا العمل، ولا الصوت ، هو يسار يائس أو مستسلم. أما اليسار الحيّ، فهو الذي يوسّع الممكن بدلا من الانكماش داخله، ويستدعي الحلم الراديكالي لا ليؤجله، بل ليبدأ به.

✦اليسار أو لا يسار على الإطلاق.
في زمن التوحّش النيوليبرالي، لم يعد هناك حيّز للغموض أو التسويات. اليسار الذي لا يحمل مشروعا ثوريا واضحا، ليس فقط عاجزا، بل متواطئ. إن لم يكن يسارا يهدم، يبني، يواجه، ينظّم، ويؤسس لسلطة بديلة، فهو مجرّد ظلّ باهت لعدوه.
لقد قال إرنستو تشي غيفارا:
"علينا أن نكون قساة دون أن نفقد الطراوة أبدا. أن نكون واقعيين، ونحلم بالمستحيل."
والحلم بالمستحيل ليس ترفا، بل ضرورة. لأن الواقع المفروض هو الجحيم بعينه. ولأن الممكن لا يولد إلا من رحم المستحيل.
اليسار الحقيقي لا يعتذر عن جذريّته، ولا يخاف من الصدام، ولا يتواطأ مع القهر باسم العقلانية. هو يسار الحلم، ويسار النّار، ويسار الخبز. يسار الحقول والمصانع، لا يسار الورشات والصالونات. يسار الجماهير، لا يسار المنصات.
إما أن يكون اليسار هكذا، أو لا يكون.
والسؤال الحقيقي الذي يطرحه هذا العصر ليس: "هل بقي لليسار معنى؟"، بل: "هل بقي للعالم فرصة دون اليسار؟"...