الحرب التي تعيد ترتيب الجحيم: حين لا يكون الاصطفاف كافيا.
رياض الشرايطي
2025 / 6 / 19 - 14:50
في زحمة الأحداث، حين تسقط القنابل على الخرائط لا على الشّاشات، يطلب من النّاس أن يختاروا معسكرا. لكن بعض الحروب لا تصلح لها الخنادق الجاهزة. هناك حروب تخاض بأدوات الاستعمار وتزيّن بشعارات التّحرير، وهناك مقاومات تسكنها أنظمة استبدادية لا تختلف في جوهرها عن خصومها سوى بالعداء المعلن. وما يجري الآن من اشتباك عنيف بين الدّولة الإيرانية والكيان الصهيوني لا يمكن حصره في إطار الأبيض والأسود.
الكيان الصهيوني مشروع قائم على الإبادة. ليس فقط للفلسطينيين، بل للمعنى الإنساني برمّته. لا هويّة له إلّا التوسّع السرطاني ، ولا غاية له سوى السّيطرة. وهو اليوم، كما كان دائما، أداة للقوى الاستعماريّة لتفكيك المنطقة، وتسخير شعوبها، ودفن كلّ إمكانيّة لنشوء بدائل عادلة. هذه حرب تقودها آلة مدعومة من رأسمال عالمي مأزوم، مستعدّة لإشعال الكوكب في مواجهة أيّ قوى تهدّد هيمنتها – سواء كانت إيران، أو الصّين، أو أي طرف خارج الطّاعة.
لكن لا يمكن للموقف من هذا الكيان أن يعفينا من مساءلة الطّرف الآخر. فإيران، وإن كانت في موقع دفاعي مشروع، تبقى دولة تدار من فوق، تقصي معارضيها، وتخنق أصوات جماهيرها. الخطأ هو الاعتقاد أنّ من يطلق الصّواريخ لا يمكن نقده، أو أن من يقف ضدّ العدو لا يمكن أن يكون مستبدّا في الدّاخل.
بعض النّاس يقولون: "المعركة الآن مصيريّة، لا وقت للحديث عن الدّيمقراطية والتّنظيم الشعبي."
لكن لو كانت هذه المعركة حقا مصيريّة، فهذا يدعو الى أن نعيد التّفكير في من يخوضها، ولصالح من.
هل الجماهير جزء فعلي من القرار؟
هل تمتلك أدواتها الخاصّة؟
هل هذه الحرب تدار لحمايتها، أم لتثبيت سلطة فوقها؟
الحروب الحقيقيّة لا تقاس بعدد الصّواريخ، بل بمدى ما تحدثه من وعي. والوعي، لكي يكون حيا، يجب أن يكون حرا.
لهذا، لا يمكن لأيّ انتصار عسكري أن يعوّض عن غياب التّنظيم الشعبي المستقلّ. النّصر الذي يتحقّق دون أن تمتلك الشّعوب أدواته، هو مجرد تحويل الخندق، لا تغيير المسار.
قال المفكر الأمريكي هاوارد زن:
"لا يمكنك أن تكون محايدا على قطار يتحرك."
لكنّ الأهم أن تعرف إلى أين يسير القطار. لا تكفي النوايا، ولا الشّعارات، ولا حتّى العداء المشترك. فالتّاريخ مملوء بديكتاتوريات قاتلت الاستعمار ثم ورثته. من لا يحاسب رفاقه، سيخون نفسه في النّهاية.
اليوم، واجب الجماهير في إيران أن تناضل ضدّ العدو الخارجي، دون أن تتنازل عن حقّها في حريّة التّنظيم والتّفكير. وواجب الجماهير في الوطن العربي ألّا تصفّق لحروب تدار باسمها بينما تقمع داخل حدودها. الحرب لا تعني أن نُسكت النّقد، بل أن نصعّد المساءلة. واللّحظة التي يطلب فيها من النّاس أن يختاروا بين الاحتلال والطّغيان، يجب أن تكون لحظة ولادة الخيار الثّالث: شعب لا يقبل لا بالغازي ولا بالحاكم القامع.
المطلوب اليوم ليس فقط رفض المشروع الصّهيوني، بل رفض النّظام العالمي الذي يسمح بوجوده. ومواجهة هذا النّظام تمرّ عبر بناء قوّة مستقلّة، من تحت، لا تنتمي لا للأنظمة ولا لأحلافها.
ليست هذه دعوة للحياد، بل دعوة للفهم.
وليس الهدف تخفيف الحدّة، بل إعادة توجيهها نحو الجذر.
الثّورة لا تبدأ من الجبهة، بل من الوعي.
وحين تنضج الجماهير، قد تعيد الحرب إلى معناها الوحيد: التّحرير.
تحرير الإنسان، لا حدود الدّولة.
تحرير الفكرة، لا بسط النّفوذ.
تحرير المصير، لا اختطافه باسم المقاومة.
قال فرانتز فانون: "كلّ جيل، في لحظة معيّنة، عليه أن يكتشف مهمّته التّاريخية، إمّا أن ينجزها أو يخونها.".