الشرق الأوسط يشهد تصعيدًا دراماتيكيًا في الأوضاع.
حازم كويي
2025 / 6 / 19 - 13:42
الكاتب: حميد محسنى
ترجمة: حازم كويي
ما كان لفترة طويلة الصراع الخفي الذي يُدارمن خلال عمليات استخباراتية، وهجمات سيبرانية، وحروب بالوكالة، قد تطور الآن إلى حرب مفتوحة بين إسرائيل وإيران. الهجمات المتبادلة، التي تصاعدت منذ الضربة الإسرائيلية الأولى في 13 يونيو/حزيران 2025، لم تعد ـ على عكس ما كان عليه الحال سابقاً ـ مجرد مناورات ردعية. وهكذا تواجه الأسرة الدولية، التي حاولت لسنوات تجنب هذا السيناريو، واقعاً جديداً.
تصعيد معلن
تشن إسرائيل هجماتها على إيران باستخدام الطائرات الحربية والطائرات المُسيّرة. ووفقاً لتقارير، فقد نُفذت أيضاً تفجيرات بسيارات مفخخة وهجمات حرق متعمد، خاصة في طهران. الضربة الأولى التي أعدت لها إسرائيل منذ سنوات نُفذت بطريقة مدروسة ومسرحية. ويُقال إن جهاز الاستخبارات الإسرائيلي أقام قواعد سرية للطائرات المسيّرة داخل إيران وعمل على تعطيل نظام الدفاع الجوي الإيراني لساعات، مما جعل الرد شبه مستحيل في الليلة الأولى.
استهدفت الضربة البرنامج النووي الإيراني وأدت إلى مقتل ما يصل إلى 20 عضواً بارزاً في الحرس الثوري، بالإضافة إلى علماء نوويين كبار. كما طالت الضربات منشأتي نطنز وفوردو النوويتين. وفي الليلة الأولى من القصف، قُتل 78 شخصاً من المدنيين وأُصيب أكثر من 300. حتى الآن، قُتل نحو 225 شخصاً وأُصيب الآلاف.
بالإضافة إلى المنشآت النووية، تستهدف الهجمات البنية التحتية العسكرية (وخاصة مواقع الصواريخ)، والموانئ، والمطارات، وكذلك منشآت النفط والغاز. ومع ذلك، تصلنا باستمرار صور لمناطق سكنية مدمرة. استراتيجية الصدمة الإسرائيلية تضرب إيران على جبهات متعددة، ما يؤدي إلى تداعيات تطال البلاد بأكملها.
رداً على الهجمات الإسرائيلية، يُقال إن النظام الإيراني نشر بالفعل ميليشيات الباسيج، التي تتكون من أنصار النظام المتطوعين، عند نقاط التفتيش المهمة. لكن الأهم من ذلك أن طهران أطلقت من جهتها عدة موجات من الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية باتجاه إسرائيل، استهدفت بشكل خاص البنية التحتية العسكرية والسياسية، بما في ذلك وزارة الدفاع. ورغم أن نحو 90٪ من الصواريخ تم اعتراضها، إلا أن الجيل الأحدث من الصواريخ يبدو أنه ألحق أضراراً كبيرة. وقد أُصيب مدنيون أيضاً في إسرائيل؛ حيث قُتل 25 شخصاً وأُصيب العديد بجروح.
المزاج داخل المجتمع الإيراني متناقض. فالمسار الثوري خلال السنوات الأخيرة كشف عن هوّة عميقة بين غالبية السكان والحكام. وقد أدى ذلك إلى أن بعض الإيرانيين، بدافع اليأس، الذين باتوا يأملون في تدخل خارجي. هذه الأصوات موجودة حتى الآن، ففي البداية صدرت حتى تعبيرات فرح بسبب الهجمات ومقتل قيادات من الحرس الثوري. لكن كلما طال أمد الحرب وازداد عدد الضحايا المدنيين، خفتت هذه الأصوات، وعلت أصوات أخرى تقول: "الآن، أصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن نمتلك قنبلة نووية لنردع أي هجوم مستقبلي". هذا هوأيضاً المنطق التي يتبناه أصحاب السلطة في إيران.
كما أظهرت ذلك الحرب الإيرانية العراقية (حرب الخليج الأولى)، فإن التهديد الخارجي لا يؤدي في إيران إلى زيادة مشاعر الخوف فحسب، بل يعزز أيضاً الولاء للدولة.
قنوات المعارضة الإيرانية في المنفى – وخاصة تلك المنتمية إلى الطيف المحافظ وحتى اليميني المتطرف من الملكيين، الذين يحظون بدعم كبير من الولايات المتحدة وإسرائيل ويدّعون أن "الإيرانيين" يفرحون بهذه الحرب – يروّجون لآمال بحدوث مقاومة شعبية واسعة داخل البلاد نتيجة لهذه الهجمات. لكن في الواقع، فإنهم يمارسون في الغالب دعاية سياسية ويتحدثون بالأساس بإسم أنفسهم.
من حيث المبدأ، تُعدّ الهجمات الخارجية سُمّاً للعملية الثورية داخل إيران، لأنها تؤدي إلى إضعاف التعبئة في صفوف الحركات الاحتجاجية والاجتماعية – كما حدث مؤخراً مع إضراب سائقي الشاحنات، الذي حظي بتضامن واسع داخل البلاد. ومن منظور تاريخي، غالباً ما تحدث أكبر موجات الإعدامات في ظل مثل هذه النزاعات والصراعات.
مفاوضات فاشلة
بعد ثلاثة أيام فقط من الهجوم الإسرائيلي الأول، كان من المقرر عقد الجولة السادسة من المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران بشأن البرنامج النووي الإيراني.
وعلى الرغم من أن المفاوضات كانت شاقة وبطيئة، إلا أن كلا الطرفين أكّدا مراراً إمكانية التوصل إلى اتفاق.
دخلت إيران هذه المفاوضات في موقع ضعف. فمن جهة، يعيش الناس في البلاد تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة منذ سنوات، جعلت الكثير منهم يعانون من خطر الفقر والانهيار المعيشي، وهم يحملون النظام الحاكم مسؤولية ذلك.
ومن جهة أخرى، فإن ما يُعرف بـ "محور المقاومة"، الذي تقوده إيران ـ والمتمثل في نظام الأسد في سوريا، وحزب الله اللبناني، وحماس الفلسطينية، وميليشيات الحوثي في اليمن ـ قد تعرّض مؤخراً لضربات إسرائيلية شديدة، أضعفته إلى حد كبير، بل وأدت في بعض المواقع إلى هزيمته.
أبدى دونالد ترامب في الآونة الأخيرة تردداً وتذبذباً في مواقفه. فمن جهة، حاول ظاهرياً ثني إسرائيل عن تنفيذ ضربة عسكرية، مؤكداً ـ حتى أثناء سير الحرب ـ على أهمية المفاوضات.إلا أنه اعترف لاحقاً بأنه كان على علم مسبق بالهجمات.
ومن المعروف على نطاق واسع أن الولايات المتحدة تدعم إسرائيل ليس فقط عسكرياً ـ لا سيما عبر منظومة "القبة الحديدية" ـ بل تزودها أيضاً بمعلومات استخباراتية حساسة. وقد صرحت إسرائيل بدورها أن العملية العسكرية كانت مُعدة منذ سنوات، وهو ما انعكس بوضوح في حجم وشدة موجة الهجوم الأولى.
أما إيران، فيبدو أنها قد فوجئت فعلاً بهذه الضربات الجوية، حيث كان النظام يعوّل على مسار التفاوض، الذي أصبح الآن مجمّداً إلى أجل غير مسمى.
عدد من الأحداث الأخيرة ساهم في تأجيج الوضع بشكل كبير:
قبل يوم واحد من الهجوم الإسرائيلي، أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) ـ ولأول مرة منذ عشرين عاماً ـ أن إيران انتهكت الاتفاقات المشتركة بشأن تخصيب اليورانيوم.
وقبل ذلك بأيام، قالت وزارة الاستخبارات الإيرانية إنها اعترضت آلاف الوثائق المتعلقة بالبرنامج النووي الإسرائيلي ومشاركة الولايات المتحدة فيه، ونشرت بعضها بالفعل.
ويُقال إن الوثائق تتضمن أدلة على أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتعرض لتأثير مباشر من إسرائيل، ما يُلقي الشكوك على حيادية الوكالة.
يُضاف إلى ذلك أن مهلة الستين يوماً التي منحها الرئيس الأمريكي لإيران من أجل التوصل إلى اتفاق في المفاوضات كانت قد انتهت قبيل الهجوم الإسرائيلي مباشرة.
وقد نقلت وكالة رويترز، استناداً إلى مصادر إسرائيلية رفيعة المستوى، أن نتنياهو أصدر أمر الهجوم بعد مكالمة هاتفية مع ترامب.
لكن يبقى غير واضحاً ما إذا كان ترامب قد تعامل بجدية مع المهلة التي حددها بنفسه، وإن كان قد منح إسرائيل ضوءاً أخضر للهجوم بعد انقضاء تلك المهلة.
دوافع إسرائيل وراء الهجوم
كان بنيامين نتنياهو، البالغ من العمر الآن 75 عاماً، يواجه انتقادات داخلية حادة قبل 7 أكتوبر 2023، إذ كان الكثيرون يعتبرونه قد انتهى سياسياً. فقد سئم السكان من حكومته التي يغلب عليها الطابع اليميني المتطرف في كثير من جوانبها.
وبالنسبة لنتنياهو، تَبيَّن أن مجزرة حماس في 7 أكتوبر 2023 كانت، من وجهة نظره، "هدية" من حيث نتائجها السياسية.
فقد أُتيح له من خلالها فعل ما ساعده مراراً على النجاة سياسياً في أوقات الأزمات الداخلية:
إشعال حرب وتصعيدها تدريجياً.هذه الحرب هي ما أبقاه سياسياً على قيد الحياة.
ورغم أن هدفه المعلن في البداية كان القضاء على حماس في قطاع غزة، إلا أن الأمر كان، منذ البداية، يتعلق بمحور المقاومة بأكمله، الذي يُعد إيران عدوّه النهائي فيه.
ومنذ ذلك الحين، تمكنت إسرائيل من إضعاف حماس وحزب الله بشكل شبه كامل، كما لعبت دوراً محورياً في الحرب الأهلية السورية التي أدّت إلى سقوط نظام الأسد.
وهذا كله مهّد الطريق أمام الهجوم الحالي على الجمهورية الإسلامية الإيرانية (IRI)، التي تُعد أكبر منافس وعدو استراتيجي لإسرائيل في المنطقة.
يدعي نتنياهو منذ أكثر من 15 عاماً ـ دون تقديم أي أدلة ـ أن إيران تقترب من بناء قنبلة نووية. ويستخدم هذا الادعاء حتى الآن مبرراً لتصرف إسرائيل بدافع الدفاع عن النفس.
لكن عدم تقديمه لأدلة يجعل من الضربة الأولى في 13 يونيو والحرب الناتجة عنها انتهاكاً للقانون الدولي.
علاوة على ذلك، كان نتنياهو معارضاً معلناً لاتفاقية 2015 النووية مع إيران (التي انسحبت منها الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب بعد ثلاث سنوات.)
في هذا السياق، رفض نتنياهو فكرة التوصل إلى اتفاق جديد مع إيران، وبهذا الهجوم الجوي قام بتفجير هذه الإمكانية، مما أدى إلى سيطرة خصوم الاتفاق داخل الإدارة الأمريكية أيضاً.
الآن يمكن للمتشددين المضي قُدماً في أهدافهم:تفكيك المشروع النووي الإيراني،إنهاء برنامج الصواريخ،القضاء النهائي على "محور المقاومة".
وبذلك سينهار كامل النموذج السياسي الخارجي للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ذكرت وكالة رويترز، استناداً إلى مصدرين أمريكيين، أن ترامب منع إسرائيل من قتل القائد الأعلى للثورة، علي خامنئي، خلال موجة الهجوم الأولى.
لكن التغيير في النظام الإيراني الذي يسعى إليه نتنياهو قد يحدث أيضاً عبر قصف شامل وتدمير واسع للبلاد، مع دعم مجموعات مسلحة متمردة في المناطق الحدودية (كردستان، بلوشستان، أذربيجان، وغيرها) لإشعال حرب أهلية.
ومع ذلك، لا توجد حتى الآن دلائل ملموسة تشير إلى حدوث ذلك.
معضلة ترامب
بالنسبة لدونالد ترامب، الذي يتصرف في السياسة بأسلوب "الغرب المتوحش"، فإن الحرب والمفاوضات لا تتعارضان بالضرورة.
ففي حركة بلاغية ملفتة، يدعو ترامب من جهة إلى المفاوضات مراراً وتكراراً، لكنه من جهة أخرى لا يستبعد تدخل الولايات المتحدة في الحرب نفسها.
مثل هذه الخطوة قد تعني نهاية عسكرية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكنها أيضاً ستكون خروجاً عن السياسة التي أعلنها ترامب سابقاً.
فقد وعد مراراً بأنه سيُبقي الولايات المتحدة خارج الحروب، وأنه يريد حل النزاعات في غزة وأوكرانيا وإيران عبر المفاوضات، لكي يتمكن من التركيز على مواجهة صعود القوة الكبرى المتنامية، وهي الصين.
لكن مع الهجوم الإسرائيلي على إيران، تجد الولايات المتحدة نفسها مجبرة على الانزلاق مجدداً إلى هذا الصراع.
وهذا ما أثار أيضاً انتقادات داخل معسكر مؤيدي ترامب (حركة MAGA)، مثل الصحفي المؤثر تاكر كارلسون والمستشار الاستراتيجي السابق لترامب ستيف بانون، اللذين يحاولان منع هذا الانخراط وانتقدا أيضاً الإجراءات الإسرائيلية في غزة.
تقف الحكومة الأمريكية أمام معضلة كبيرة: إما أن تنفر نتنياهو منها عبر نجاحها السريع في إنهاء الحرب ودفع إيران إلى اتفاق يمنح استخداماً نووياً مدنياً تحت رقابة صارمة ـ وهو أمر يبدو غير محتمل حالياً، لكنه قد يصبح ممكناً بعد توقف الأعمال القتالية.
أو تتبع خياراً آخر، توافق عليه إسرائيل على الأرجح، وهو إجبار إيران على توقيع اتفاق أكثر صرامة: لا برنامج نووي، نزع السلاح، و/أو قطع العلاقات مع «محور المقاومة».
هذا السيناريو يصبح أكثر احتمالاً كلما طال أمد الحرب ولم تستطع إيران مجاراة القوى العسكرية.
لكن المشكلة هنا أن الجمهورية الإسلامية ـ التي يهيمن فيها المتشددون سياسياً الآن ـ لن توافق على هذا الاتفاق، لأنه يعني عملياً نهاية نظامها.
يمكن أن يكون الحل الوسط هو أن تجتمع الأطراف الدولية وتجمع الطرفين على طاولة المفاوضات لتطوير حل وسط.
تركيا تقدم نفسها كوسيط بالفعل، وهناك إشارات مماثلة من روسيا والصين.
لكن لا يزال من غير الواضح كيف سيكون شكل هذا الحل، وسيكون بالتأكيد عملاً دبلوماسياً صعباً للغاية.
إذا لم تتحقق هذه السيناريوهات أو فشلت، قد تُقذف إيران بعد قصف طويل إلى حرب أهلية، حيث لن تستطيع الولايات المتحدة تجاهل الوضع لأسباب جيوسياسية.
وبذلك ستتعمق الولايات المتحدة أكثر في صراعات المنطقة.
وإضافة إلى ذلك، قد تستمر هذه الحرب الأهلية لسنوات وربما لعقود، إذ أوضح الملالي وحرسهم الثوري أنهم لن يتخلوا بسهولة عن السلطة، بل سيقاتلون حتى آخر رصاصة.