المعنى الاخر لاستثناء العراق من فعاليات اسرائيل العسكريه


ليث الجادر
2025 / 6 / 11 - 19:51     

رغم سيل الضربات التي انهالت وتنهال على محاور إيران في لبنان وسوريا وغزة واليمن، يظل العراق — الذي يشكّل إحدى منصات التصعيد النشطة منذ 7 أكتوبر 2023 — مستثنًى من الضربات الإسرائيلية المباشرة، ما يطرح سؤالاً صريحًا: لماذا لا تقصف إسرائيل العراق، رغم كل ما تتيحه الوقائع من ذرائع جاهزة؟

مقدمة تحليلية

منذ تفجّر الحرب في غزة في خريف 2023، تحوّلت السياسة الإسرائيلية في ما يسمى بـ"المعركة بين الحروب" إلى نمط أكثر هجومية، بحيث لم تعد الضربات مقتصرة على الرد التكتيكي أو الردع الموضعي، بل باتت تعكس رؤية هندسية لإعادة ترسيم خرائط التهديد الإقليمي، خصوصًا في ظل تورّط جماعات تدور في الفلك الإيراني في محاور متعددة.

ورغم هذا التمدّد في نطاق العمليات، لم يُسجّل أي استهداف إسرائيلي مباشر للأراضي العراقية، على الرغم من أن العراق بات منخرطًا في العمليات العسكرية ضد إسرائيل، سواء عبر الطائرات المسيّرة أو دعم الجبهات الأخرى لوجستيًا وتقنيًا.

أولًا: المبررات الواقعية لضرب العراق

لا يخفى أن هناك جملة من المعطيات التي تجعل من العراق هدفًا "منطقيًا" — على الورق — للضربات الإسرائيلية، أبرزها:

- الإطلاق المباشر للصواريخ والمسيّرات من أرضه، كما في عمليات أكتوبر ونوفمبر 2024 التي أعلنت عنها "المقاومة الإسلامية في العراق"، واستهدفت موانئ وقواعد إسرائيلية، بعضها في عمق النقب والجليل.
- تموضع جماعات عراقية موالية لإيران تمتلك ولاءً عقائديًا وتنظيميًا واضحًا، وتُعد من أكثر أذرع إيران التزامًا بخط المواجهة مع إسرائيل.
- وجود بنى تحتية عسكرية داخل العراق تشمل مواقع تدريب وورش تصنيع وتجميع مسيّرات إيرانية الصنع أو معدّلة، وفقًا لتقارير استخباراتية وصور أقمار صناعية.
- التورط غير المباشر في جبهات أخرى، كالمساهمة في تسهيل نقل معدات وتقنيات إلى الحوثيين أو الفصائل السورية، وتقديم دعم استخباراتي وفني في عمليات استهداف السفن في البحر الأحمر والخليج.

كل هذه المؤشرات تجعل من العراق ساحة نشطة في خريطة التهديد الإسرائيلي، وتؤهلها لأن تكون هدفًا عسكريًا مشروعًا — إذا ما استُخدم نفس المنطق الذي برّرت به تل أبيب ضرباتها في اليمن وسوريا ولبنان.

لماذا لم تُوجَّه ضربة للعراق؟

رغم توافر هذه المبررات، تظل الضربة الإسرائيلية مؤجلة أو ممتنعة، لأسباب مركّبة يتداخل فيها الأمني بالسياسي، والإقليمي بالدولي. فالعراق يشكّل ساحة نفوذ أميركي حساسة، ويقع في قلب خارطة التوازنات الجيوسياسية التي لا تسمح بتوسيع رقعة التصعيد دون تنسيق مع واشنطن أو أخذ موقفها بعين الاعتبار.

والمفارقة أن إسرائيل سبق أن نفذت ضربات محدودة داخل الأراضي العراقية، كما حدث في صيف 2019 حين استهدفت مواقع للحشد الشعبي يُعتقد أنها كانت تضم أسلحة إيرانية متطورة. تلك الضربات نُفذت حينها تحت غطاء استخباراتي غربي، وفي ظرف دولي مختلف، ما يؤكد أن العراق ليس خارج نطاق الاستهداف الإسرائيلي من حيث القدرة، بل من حيث التوقيت والظروف.

اليوم، المشهد مختلف. بعد 7 أكتوبر، دخل العراق كلاعب أكثر انخراطًا، ما جعل استهدافه قرارًا محاطًا بحسابات تتعلق بالاستقرار الداخلي، والوجود الأميركي، واحتمالية تفجر مواجهة إقليمية مفتوحة. لذا، فإن الامتناع الإسرائيلي لا يُفهم بوصفه تراجعًا، بل كجزء من سياسة "إدارة التهديد" بانتظار لحظة ترى فيها تل أبيب أن تكلفة الضربة أصبحت أقل من تكلفة التريّث.

عمليات نُفذت من العراق ضد إسرائيل (2024)

شهد عام 2024 سلسلة من العمليات العسكرية المنطلقة من الأراضي العراقية ضد أهداف إسرائيلية، منها:

- كتائب حزب الله: أطلقت صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، واستعملت مسيرات هجومية ضد أهداف في النقب.
- عصائب أهل الحق: نفذت هجمات بطائرات مسيّرة مفخخة، استهدفت مواقع حدودية إسرائيلية.
- حركة النجباء: ساهمت في دعم الحرب السيبرانية والتشويش الإلكتروني، إلى جانب إطلاق صواريخ كاتيوشا.
- سلاح الصواريخ المشترك: استخدم صواريخ حرارية موجهة وأنظمة مضادة للطائرات بسيطة جرى تعديلها داخل العراق.

أمن النظام العراقي.. هل يخدم أمن إسرائيل؟

بالتأمل في مجمل هذه المعطيات، يمكن الوصول إلى استنتاج غير تقليدي مفاده أن الحفاظ على استقرار النظام السياسي في العراق يخدم — بشكل غير مباشر — أمن إسرائيل، لا بمعنى التحالف أو التنسيق، بل باعتبار أن انفجار العراق سيخلّ بتوازنات إقليمية يفضل الغرب إبقاءها مضبوطة.

فحين يصبح النظام العراقي أداة لاحتواء الفصائل أو توجيه حركتها أو حتى موازنة تصعيدها، فإن أي هجوم خارجي عليه قد يطيح بهذا التوازن الهش. ومن هذا المنطلق، يبدو أن الاستثناء الإسرائيلي للعراق لا تحكمه اعتبارات تقنية أو جغرافية، بل منطق أمني إقليمي أوسع يتقاطع فيه النفوذ الأميركي، والتقدير الإسرائيلي، مع بقاء العراق مؤجَّلًا في لائحة الأهداف — مؤجَّلًا لا بمعنى المستثنى، بل باعتباره ورقة قابلة للتفعيل عند الضرورة.

غير أن قيمة هذا "التأجيل" تظل مشروطة بمآلات الملف النووي الإيراني؛ إذ لا يُتوقع أن يتغير موقع العراق في الحسابات الإسرائيلية ما لم يُغلق هذا الملف بشكل نهائي. بل إن أمن النظام العراقي قد تزداد أهميته إذا تم الوصول إلى تسوية سياسية تقلّص منسوب التصعيد، أو قد تتلاشى تمامًا إذا أُغلق الملف بضربة عسكرية تعيد خلط أوراق الإقليم بأكمله.