الطَّبقة الْوسطى العربيَّة: صراعات الهوية وتصدّعات الحداثة


محمد عادل زكى
2025 / 5 / 25 - 04:49     

لم تكن الطبقة الوسطى في العالم العَربيّ، ابتداءً من تشكُّلها في سياق ما بعد الاستعمار، نتاجًا لتطور طبيعيّ في بنية الاقتِصَاد الاجْتماعيّ؛ كما لم تتشكّل نتيجة لعلاقات إنتاج متجانسة ومستقرة تُفرز، بحكم قانونها الذاتيّ، طبقةً تُمارس دور الوسيط أو الحامل التَّاريخي للحداثة؛ بل تكونت، في أفضل تحليل، بوصفها طبقة وظيفيَّة، جرى تصنيعها مؤسسيًّا من قِبَل الدَّولة الوطنية النَّاشئة، بغرض ملء الفراغ الإداريّ والمعرفيّ الَّذي خلّفه المستعمِر؛ لا بوصفها طبقة مُنتِجة، بل باعتبارها طبقة مُدبّرة، وناقلة، ومُنظِّمة، ضمن جهاز الدَّولة، لما ليس من إنتاجها، ولا من صلب تركيبها التَّاريخيّ. وعليه، لم تكن الطَّبقة الوسطى العَربيَّة قادرة، في أي لحظةٍ حاسمة، على ممارسة وظيفة نقدية تجاه البنية الاجتماعيَّة، ولا على حمل مشروع تغيير جذريّ يتجاوز حدود الاندماج أو التكيّف؛ إذ إنها، في عُمق تكوينها، ارتبطت بالسلطة لا بالمجتمع، وارتبطت بالدَّولة لا بالعمل الخالق للقيمة، وارتبطت بالأيديولوجيا لا بالفعل التَّاريخيّ. وهذا يعني أن الطابع المُشتقّ لهذه الطبقة، من حيث تكوينها وموقعها ووظيفتها، جعلها دائمًا عرضة للاهتزاز، مع كل تحوّل في البنية السياسيَّة أو الاقتصاديَّة، دون أن تمتلك جهازًا مفهوميًا أو مصلحيًا يؤهلها للتماسك أو المقاومة. ولقد تأثرت، بالتَّالي، الطبقة المثقفة العربية الَّتي تُعتبر، في ظاهرها، جزءًا من الطبقة الوسطى، بالروح الغربية؛ روح، قادمة من خارج تاريخها، حملت معها قيم العقلانية، والعلم، والتقدم، لكنها، في جوهرها، لم تخرج من إطار الإحساس بالغربة التاريخية والبحث عن الهوية؛ فبدلًا من أن تكون قوة نقدٍ ذاتي تسعى لإنتاج معرفة مُلهمة تأخذ بيد المجتمع نحو تغيير جذريّ، كانت في الغالب محكومة بميكانيزمات استيراد الفكر، واستعارة المفاهيم، ونقل التجارب، ما جعلها طبقة متذبذبة، لا تقوى على بناء مشروع ثقافيّ عربي مُتماسك، بل غالبًا ما تميل إلى تقليد النماذج الغربيَّة أو رفضها بشكل مفرط، دون القدرة على التوفيق بين الروح الوطنية والروح الغربية، فتظل في حالة صراع مستمر، يصعب معه الإسهام في تحولات حقيقية ضمن المجتمع. ولقد ظُنَّ، لفترة ليست بالقصيرة، أن اتساع الطَّبقة الوسطى، وتناميها الكميّ، سيفضي إلى تحديث البنية الاجْتماعيَّة، وإلى تدعيم قيم العقلانيَّة، والعِلم، والانفتاح؛ غير أن الواقع التَّاريخيّ العَربيّ أثبت، بمرور الوقت، أن هذه الطَّبقة، بما هي عليه من تشظٍ داخلي، وتناقضات في الانتماء والوعي، قد تحوّلت، بالتَّالي، إلى أداة لإعادة إنتاج التسلُّط، وإعادة تدوير الامتيازات، وإعادة ترسيخ البنية الأبوية؛ حتى في لحظات الانفجار الثوريّ الظاهريّ. وعلى أقصى تقدير، يمكن القول بأن الطبقة الوسطى، في العالم العربيّ، لم تفشل فقط في أن تكون طبقة حداثية بالمعنى الأوروبيّ، أو طبقة نقدية بالمعنى الماركسي؛ بل فشلت أيضًا في أن تحفظ لنفسها موقعًا وسيطًا، فتقهقرت، في أكثر من بلد، نحو الهامش الاجتماعيّ، أو انزلقت، تحت وطأة العولمة النيوليبرالية، إلى قاع الطَّبقات الدنيا، فاقدةً بذلك أي إمكانيَّة للقيام بدور تاريخيّ مستقل. ولذا، إذا أردنا أن نُعيد التفكير في الطَّبقة الوسطى، لا كصورة نمطية أو كحامل أيديولوجي جاهز، بل كموقع اجتماعي محدد في شروطه التَّاريخيَّة والاقتصَادية، فعلينا أن ننطلق من تحليل بنيتها الداخلية، وتشظي مصالحها، وتناقض وعيها، لنفهم كيف ولماذا تحوّلت، في السياق العربي، إلى طبقة دون وظيفة، وإلى كتلة بشرية دون مشروع، وإلى كيان هشّ، يتماهى تارةً مع السلطة، وتارةً مع السُّوق، دون أن يكون لأي من التماهيين أساسٌ إنتاجيٌّ أو معرفيٌّ أو تاريخيٌّ صلب.