عن الطوفان وأشياء أخرى (35)
محمود الصباغ
2025 / 5 / 22 - 04:50
أوروبا التي رمتنا بدائها وانسلت
يشكل الموقف الأوروبي الحالي "الغاضب من السياسات الإسرائيلية" مفاجأة أشبه بصدمة، وتدور حوله أسئلة عديدة لا جواب لها حتى الساعة، لكن ما هو ثابت- باعتقادي- أن هذا الموقف-المواقف ليس بريئاً ولا "عادلاً"، إنما هو دبلوماسية نشطة تتحرك الآن ضمن منطقة رمادية معقدة.
لنتأمل الأمر بواقعية أكبر.
علينا ألا نخدع أنفسنا، لا تغير أوروبا مواقفها من منطلق مبدئي، بل تعيد تموضعها لتقليل الخسائر. فهي لا تقف مع الفلسطينيين، بل تحاول الحد من تجاوزات إسرائيل كي لا تُحرج نفسها. وأي تحوّل في الخطاب الأوروبي؛ لا يعني تحولاً في الاصطفاف الاستراتيجي. علينا ألا نخدع أنفسناـ فليس ثمة تغيير جوهري في البنية "الاستعمارية" للسياسة الأوروبية.
في الحقيقة أشد ما تخشاه هذه الأوروربا هو "انكسار إسرائيل"، لأن ذلك يعني خسارة حليف استخباراتي وعسكري في قلب الشرق الأوسط. فالنخب الحاكمة الأوروبية ما تزال رهينة العقلية الإمبريالية القديمة، وما المواقف "شبه" المستقلة عن الموقف الأمريكي، إلا تعبير عن فصل تكتيكي وليس استراتيجي، فحلف الناتو، والتجارة، والتنسيق الأمني، والضغط الأمريكي يجعل استقلال أوروبا محدوداً على الأصعدة كافة (والأمثلة هنا اكثر من أت تحصى).
وعلى كل حال لا يمكن فصل مواقف الدول الأوروبية (على اختلاف موقعها وتاريخها) من القضية الفلسطينية عن سياق أوسع من التواطؤ البنيوي مع المشروع الصهيوني، الذي يتجاوز مجرد المواقف الدبلوماسية ليشمل أطراً سياسية واقتصادية وأمنية متشابكة. إذ تنظر الدول الأوروبية إلى إسرائيل على أنها دولة "طبيعية" ولا تنفك تكرر "حقها في الوجود والدفاع عن النفس"، (وهو تعبير يحمل خللاً أخلاقياً واضحاً، فهل يمكن لقوة احتلال أن تدافع عن نفسها داخل الأراضي التي تحتلها؟) متجاهلة أصلاً، أن هذه الدولة تأسست على مشروع استعمار استيطاني مستمر منذ العام 1948 وما رافق ذلك التهجير القسري، وسرقة الأرض، ونظام الأبارتيد.
عندما تقول أوروبا لإسرائيل: "نحن مع حقك في الدفاع عن نفسك، لكن ضمن القانون الدولي"، فهي عملياً تقول: اقتلوا، لكن لا تُحرجونا أكثر. ومصل هذا الخطاب لا يرفض العدوان، بل يطالب المعتدي أن يكون "مهذباً" و"متسقاً"، بحيث لا يثير الغضب الشعبي أو يحرج المحاكم والمؤسسات.
ينعكس هذا الإدراك الأوروبي غير المتوازن في طبيعة الانتقادات التي توجهها حكومات الدول الأوروبية، فهي لا تتناول الأسس التي قامت عليها إسرائيل، بل تقتصر على ملاحظات إجرائية حول بعض "التدابير" التي لا تراعي حقوق الإنسان. بما لا يتجاوز حدود ضبط السلوك الإسرائيلي، وليس مساءلة شرعيته.
تحاول أوروبا التفريق بين "إسرائيل ككيان" و"الحكومة اليمينية المتطرفة"، وهو خطاب يستخدم للالتفاف على الحقائق البنيوية للاحتلال. و"غسل اليد" من حكومة نتنياهو لا يعني التبرؤ من إسرائيل. بل إن هذا التمييز يشبه التعامل السابق مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، حيث يفصلون بين "النظام" و"بعض السياسيين السيئين"، وهو تمييز غير أخلاقي وخادع.
من تجربتنا نحن، نعلم أن تغيير الحكومة في إسرائيل لا يغير طبيعة الدولة، بل يغيّر فقط شكل إدارتها للقتل والتطهير.
على صعيد آخر، تكشف التطورات الأخيرة عن محاولات لتهجير الغزيين إلى خارج حدود قطاع غزة، ومنها الحديث عن ليبيا كمقصد محتمل، وهو تكرار لخطط ظهرت مع بداية العدوان الأخير على غزة بعد السابع من تشرين الأول 2023. وأوروبا، التي تراقب الوضع عن كثب، تدرك أن استمرار الحرب قد يؤدي إلى نزوح -أو تهجير- فلسطيني جماعي، مما يرفع احتمالات وصول موجات جديدة من اللاجئين إلى أراضيها. هنا يكمن الخوف الأوروبي الحقيقي، فهو ليس خوف إنساني، وإنما أمني وسياسي، إذ تسعى أوروبا لحماية "الاستقرار الحدودي" ومنع تدفق اللاجئين.
لا يمكن تبرئة أوروبا، لا تاريخياً بدعمها المشروع الصهيوني منذ وعد بلفور، ولا حالياً من خلال الاستثمارات، تصدير الأسلحة، التعاون الاستخباراتي، وشرعنة السردية الإسرائيلية. فمعظم الحكومات الأوروبية (من الشرق والغرب) تصدر السلاح أو التكنولوجيا الأمنية لإسرائيل، وتشاركها في برامج بحثية عسكرية، وتضغط على منظمات المقاطعة الفلسطينية، مما يجعلها شريكاً في الجريمة، وإن اختلف شكل تورطها عن التورط الأمريكي المباشر.
نعم، توجد في أوروبا نخب مناضلة، صحفيون وباحثون ونقابات وحركات طلابية، تضغط وتفضح السياسات الإسرائيلية. لكن هذه الشرائح لا تتحكم في القرار السياسي النهائي، الذي يُدار بمنطق المصالح. وحتى الاعترافات الرمزية بدولة فلسطين من بعض الدول تظل شكلية ما لم تقترن بوقف التعاون العسكري مع إسرائيل، والاعتراف بالمحكمة الدولية، ومذكرات التوقيف.
إن رمزية الموقف "الإنساني" وحدها لا تنقذ أطفال غزة من الجوع، والاعتراف بدولة فلسطين لا يعني إنهاء الاحتلال، فكثير من الدول الأوروبية التي اعترفت بفلسطين تصنف حماس "منظمة إرهابية" وتعتبر حدود 1967 الحل النهائي، في تبني صريح ومبتذل لحل الدولتين وفق الرؤية الإسرائيلية.
طيب... هل يمكن استثمار هذا التمايز الأوروبي النسبي (سواء في اللهجة أو بعض الاعترافات الرمزية أو الانتقادات لحكومة نتنياهو)؟
نعم، ولكن [دائماً هناك ولكن] بشروط صارمة، وإلا سيُستهلك هذا التمايز إعلامياً ويُفرّغ من مضمونه.