الكومونة الباريسية: مخطط للاشتراكية بلا دولة
أحمد الجوهري
2025 / 5 / 21 - 10:03
المقدمة
يهدف هذا البحث إلى استرجاع تجربة كومونة باريس لعام 1871 كتراث حيّ يُرشدنا نحو الاشتراكية بلا دولة، متجذرة في النقابية الديمقراطية. وسأسعى من خلاله إلى إبراز كيف شكّلت كومونةٌ قادها العمال نموذجاً فريداً للجمهورية العمالية المباشرة، وسبب أهميتها اليوم بالنسبة لنا كماركسيين-تشومسكيين اشتراكيين تحرريين، نرفض فيه البولشفية السلطوية والستالينية القمعية ورأسمالية الدولة وأي أيديولوجيا تدّعي الاشتراكية بينما تعيد إنتاج هياكل الهيمنة.
في القرن التاسع عشر، كان النظام الإمبراطوري الثاني في فرنسا ينهار تحت وطأة أزمات اقتصادية واجتماعية، ثم جاءت هزيمة الحرب الفرنسية-البروسية وحصار باريس لتمارس طبقات حاكمة خيانة مزدوجة، فتدفع العمال والشباب والديمقراطيين المتنورين إلى انتفاضة حاسمة. هذه اللحظة الثورية، رغم قصر عمرها، حملت مقومات بناء مجتمع بلا دولة، وسجّلت إجراءات وسياسات أثبتت جدوى الإرادة الشعبية المنظمة.
الخلفية التاريخية والأحداث المؤدية إلى الكومونة
انهيار الإمبراطورية الثانية
بعد تولي نابليون الثالث السلطة عام 1852، فرض ديكتاتورية مدنية استندت إلى الشرطة السرية وحظرت الحريات الأساسية. إلا أن النموذج النيوليبرالي المزيّف لم يخفِّف من معاناة العمال، بل زاد من فقر الطبقات المسحوقة، بينما استفادت النخب من مشاريع الأشغال العامة الفخمة.
الحرب الفرنسية-البروسية وحصار باريس
أعلنت فرنسا الحرب على بروسيا في يوليو 1870 في مشروع مغامر انتهى بكارثة، إذ انهزمت الجيوش الإمبراطورية عند ساندان في 1 سبتمبر، وأسَروا الإمبراطور. شكلت الطبقة الوسطى حكومة دفاع وطني لمواصلة القتال، لكنها ضيّعت بتعنتها مدّة الحصار أربعة أشهر، حيث عانى سكان باريس من الجوع والقصف والبرد. في تلك الظروف، انبثقت لجان أحياء لإدارة الإغاثة وتعاونيات الوقود، كخطوة أولى نحو التنظيم الذاتي.
التناقضات الطبقية والخيانة السياسية
بمجرد انتهاء الحرب، تفاوضت حكومة الدفاع الوطني من مقرها في فرساي مع أعداء الثورة، متخليةً عن مصالح العمال ضد رغبة البورجوازية في الاستقرار. وعندما حاولت مصادرة مدافع الحرس الوطني في 18 مارس 1871، رفض العمال والمسؤولون العسكريون ذلك، فاستولوا على السلطة وأعلنوا قيام الكومونة في 26 مارس. كانت هذه الخيانة السياسية ذروة التناقض الطبقي، وتجلّت فيها إفلاس البدائل الإصلاحية.
حياة الكومونة (مارس–مايو 1871)
الإجراءات والسياسات الأساسية
فصل الدين عن الدولة: أُغلقت الكنائس مؤقتاً ومنعت أموال الأوقاف من دعم السلطة.
إلغاء العمل الليلي للخبازين: حمايةً لصحة العمال.
إعفاء المأجورين من دفع الإيجار المستحق أثناء الحصار.
إلغاء ديون المرافق العامة: الماء والغاز والضرائب المفروضة غير العادلة.
حق العمال في أن يتولوا إدارة المصانع المتروكة: تحت إشراف لجان منتخبة.
إنشاء صندوق ضمان اجتماعي للمسنين والمرضى والعاطلين، بمساهمة مشروطة من خزينة الدولة المحلية.
الهياكل الديمقراطية والتنظيمية
المجالس الاتحادية في كل أرونديسمان: برلمانات محلية مُنتخَبة، قابلة للسحب في أي وقت.
مجلس الكومونة المركزي: انعقد في جلسات عامة تحت أعين المواطنين، دون أسرار أو احتكار السلطة.
الجبش الوطني: نظام دفاع شعبي مبني على التجنيد الطوعي، بدلاً من جيش محترف.
دور العمال والنساء والتكافل المتبادل
ساهم العمال في وضع خطط إنتاجية وإدارة يومية للمؤسسات، وعقدوا اجتماعات منتظمة لتقاسم الموارد. وكانت النساء ركيزة الكومونة؛ حيث أطلقن اتحاد النساء في باريس لتسيير مطابخ مشتركة ورعاية الأطفال وتنظيم الإغاثة وتكوين مجموعات ضغط ضد التمييز.
الأبعاد الثقافية والرمزية
أعادت الكومونة فتح المتاحف والمكتبات للمواطنين مجاناً، ورعّت الأمسيات الثقافية والفنية، وقدّمت المسرح والأغاني الشعبية كجزء من النضال اليومي. أصبح العلم الأحمر وشعار «الشعب متحدٌ لا يُقهَر» رمزاً للأمل والتحدي.
القمع الدموي وتداعياته
أسبوع الدماء (21–28 مايو 1871)
شنت قوات فرساي بقيادة المارشال ماكامون حملة إبادة منهجية، فاقتلت ما يقارب 20,000 شخص، ونفّذت إعدامات ميدانية للحراس الوطنيين وعامة المدنيين، وحرق المباني والمستشفيات والمدارس.
دور حكومة فرساي والطبقة البورجوازية
تناغمت حكومة فرساي مع مُلاك الأراضي والنخبة الصناعية، واعتبرت المذبحة ضرورة لاستعادة «النظام والاستقرار». وتخلّى الجمهوريون الليبراليون عن أي دعم للكومونة، متقاربين مع القوى المحافظة.
ردود الفعل الدولية
كان الدعم الفعلي ضعيفاً، بينما أعجب الأناركيون بالجبهة التحررية لكن افتقروا إلى التنظيم اللازم للمساعدة. أما الصحافة الأوروبية البيضاء، فشنت حملة تشويه واسعة شابهت دعوات خنق الثورات العمالية.
دروس للشيوعيين التحرريين اليوم
إلغاء الدولة لا احتلالها: كما بيّنت الكومونة، السلطة الحقيقية تنبثق من السلطة الشعبية، لا من احتكار حزب أو جيش محترف.
الوفاء بمبدأ الانتخابات القابلة للسحب: يجب أن يكون كل ممثل تحت المساءلة الدائمة.
التضامن والتكافل: لا يمكن للاقتصاد السوقي أن يحل مكان الأواصر الاجتماعية القائمة على التعاون.
أهمية التنظيم الأفقي: لا للتسلط المركزي، بل لتكامل النقابيات والتعاونيات ضمن شبكات اتحادية.
نقد النموذج السوفييتي
أفشلت الدولة السوفييتية أدواتها الثورية بتحويل الاشتراكية إلى بيروقراطية حزبية، حيث سيطر الحزب على وسائل الإنتاج وصادر المبادرة الشعبية. وقد رافق ذلك الإرهاب الأحمر ونظام الحزب الواحد.
متفوقة على النموذج السوفييتي
تفوقت الكومونة بتجسيدها التعددية والثقافة والحرية، بينما خنق السوفييت الحياة الثقافية وعزلوا العاملين في بيروقراطية منعزلة.
نحو مجتمع اشتراكي بلا دولة
خطوات عملية
إنشاء مجالس أحياء: تجمع السكان لمناقشة كل شؤون الحي.
تأسيس التعاونيات العمالية: نقل الملكية إلى العمال وتنظيم الإنتاج عبر لجان مشتركة.
بناء نقابيات فيدرالية: ربط التعاونيات والنقابيات في اتحادات ديمقراطية تكافلية.
تفكيك أجهز الدولة القمعية: استبدال الشرطة بأجهزة أمن شعبي ومعايير لحماية الحقوق.
الاعتبارات الرقمية والبيئية
استخدام منصات مفتوحة المصدر للشؤون الإدارية ومراقبة القرارات.
تكامل خطط الطاقة المتجددة والزراعة الحضرية وإدارة النفايات على المستوى المحلي.
الصدى العاطفي والرمزي
تستمر أغنية «زمن الكرز» والراية الحمراء في نداء القلوب للثورة، فتذكّرنا بأن التحرر تجمع بين العقل والعاطفة.
الخاتمة
تبقى كومونة باريس تجربةً حيةً في تاريخ الجماهير الثائرة، نموذجاً للاشتراكية بلا دولة والتضامن المباشر. اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحتاج إلى بناء هياكل موازية: مجالس مجتمعية، تعاونيات عمالية، ونقابيات فيدرالية، لإسقاط النظام الرأسمالي وبناء مجتمع حرّ لا يستبد به أحد. علينا أن ننتقل من الخطاب النظري إلى الممارسة المباشرة، وأن نُحيي تراث الكومونة في نضالنا اليومي.
المراجع
فرانك يلينيك، الكومونة الباريسية 1871 (لندن: آلن أند يون، 1928).
جون ميريمان، المذبحة: حياة وموت كومونة باريس (نيويورك: ماكميلان، 2014).
دوني غلوكشتاين، كومونة باريس: ديمقراطية ثورية (شيكاغو: هَيْ ماركيت بوكس، 2006).
ريجيس ديبري، الثورة في الثورة؟ (نيويورك: برس المراجعة الشهرية، 1974).
ديفيد جريبير، شظايا من أنثروبولوجيا أناركية (شيكاغو: بريكلي برادايجم برس، 2004).
فلاديمير لينين، الدولة والثورة (نيويورك: الناشرون الدوليون، 1917).