سوريا والصيد في الماء العكر


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 8335 - 2025 / 5 / 7 - 12:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


لقد عوّدتنا إسرائيل على صيدها في الماء العكر، وهو تعبيرٌ يعود أصله إلى تجربة الصيادين في الأنهر حيث تسهّل المياه الوحِلة اصطياد الأسماك. وطالما اهتمت الدولة الصهيونية بزرع الفِتَن وتسعير نارها سعياً وراء إعادة رسم خارطة المنطقة المحيطة بها على شاكلتها، أي بحيث يغلب منطق التفتيت الطائفي والإثني على منطق المواطنة والولاء المشترك لدولة تُصهر الجماعات الطائفية والإثنية في بوتقة واحدة مع حفظ حقوقها. وفي سعيها المستوحى من قاعدة الإمبراطورية الرومانية الشهيرة «فرِّق تسُد»، جهدت إسرائيل منذ نشأتها في استغلال ما وجدته من فروقات في محيطها المباشر والأبعد، لاعبة على أوتار الأقليات الطائفية إزاء الأغلبية السنّية الإقليمية والأقليات الإثنية إزاء الأغلبية العربية: دروز، مسيحيون، كُرد، وسواهم، بل وشيعة في زمن شاه إيران قبل أن تنقلب بلاد الفرس إلى بؤرة معاداة لإسرائيل وتساهم بدورها في تأجيج الطائفية الشيعية في محيطها العربي سعياً وراء مدّ نفوذها الإقليمي.
ومن هذا المنظور، فإن سلوك الدولة الصهيونية في سوريا منذ انهيار نظام آل الأسد ليس بالمفاجئ أو الغريب، بل هو من المعتاد والطبيعي للغاية. وقد استغلت إسرائيل ذاك الانهيار كي تدمّر القسم الأعظم من الطاقة العسكرية التي كان النظام المخلوع يحوز عليها، بحيث تُضعف بصورة جذرية «هيئة تحرير الشام» (هتش) في مسعاها الرامي إلى الحلول محلّ النظام البائد في بسط سيطرتها على القسم الأعظم من الأراضي السورية. وقد انتهزت إسرائيل فرصة فراغ السلطة كي تمدّ سيطرتها وراء حدود احتلالها لهضبة الجولان كما استقرّت بعد حرب 1973، وذلك في غايتين شفّافتين، إحداهما تعزيز إطلالتها الاستراتيجية على شطر لبنان الجنوبي والأخرى تسهيل توغّلها داخل الأراضي السورية نحو المناطق ذات الأغلبية الدرزية.
أما المواجهات الأخيرة، فدارت بين حكم هتش والجماعات الجهادية المنضوية تحت لوائه، من جهة، والمسلّحين الدروز العاملين على حماية أهلهم ووقايتهم من وصاية حكم لا يراعي حقوقهم، وهو ما سبق أن فرضوه على النظام البائد نفسه على الرغم من ادّعائه حماية الأقليات، وما يحرصون على صونه اليوم، وكم بالأحرى، إزاء حكم جديد تضمّ قواته المسلّحة جماعات سنّية متطرّفة معادية لشتى أقليات البلاد. والحال أن حكم هتش عجز حتى الآن عن إقناع سائر سكان سوريا، بمن فيهم قسم واسع من السوريين العرب السنّة، بصدق نيّته في إرساء نظام مدني ديمقراطي لا طائفي، جامع لشتى مكوّنات الشعب السوري على أساس احترام خصائصها.

وهنا بيت القصيد: فإن الاصطياد الصهيوني في الماء العكر يقتضي أول ما يقتضي تعكيراً للمياه. فلا تلومنّ الكُرد، الذين عانوا الأمرّين من الاضطهاد الشوفيني البعثي طيلة عقود قبل انتهازهم فرصة الحرب الأهلية كي يفرضوا حكمهم الذاتي في مناطق تواجدهم في الشمال الشرقي. ولا تلومنّ العلويين الذين تعرّضوا في شهر آذار/ مارس الماضي لمجزرة طائفية بشعة، شارك فيها رجالٌ يلبسون بدلات حكم هتش، وسقط ضحيتها عدد من المدنيين يناهز 1700. ولا تلومنّ الدروز الذين تعرّضوا لهجمة طائفية بحجة فيديو مفبرك ومنسوب إلى شيخ من طائفتهم، بما لا ينطلي سوى على الذين تعميهم كراهية طائفية مسبقة.
إن اللوم يقع في المقام الأول على الذين نسبوا انهيار نظام آل الأسد إلى أنفسهم حصراً، بينما كان لإسرائيل الدور أكبر في خلق شروط إسقاطه من خلال الضربة الحاسمة التي وجّهتها لقدرة إيران على التدخل لنجدته، سواء من خلال «حزب الله» اللبناني أو بإرسال قوات من إيران والعراق. فكان ينبغي أن تقرّ هتش متواضعةً بحدود قدراتها الذاتية، التي هي أضعف حتى من قدرات القوات الكُردية في الشمال الشرقي، وأضعف بكثير من أن تستطيع بسط سيطرتها على المناطق العربية التي كان النظام المخلوع يهيمن عليها بمعونة روسيا وإيران.
بدل ذلك، أصيب أحمد الشرع بنشوة الحلول محلّ بشّار الأسد في قصره الرئاسي (حتى أنه أخذ يشبه نسخة ملتحية عن الرئيس المخلوع) وتصرّف كأنه قادرٌ على الهيمنة على كامل الأراضي السورية، ونصّب أولاً حكومة إدلب الهتشية حكومةً لعموم سوريا، وشكّل من ثمّ حكومة جديدة تحت هيمنة هتشية، اقتصر فيها «تمثيل» مكوّنات الشعب السوري على حد أدنى رمزي لم يُقنع أحداً (أسوأ ما فيه تمثيل أغلبية الشعب السوري النسائية والأقلية المسيحية بشخص امرأة واحدة وحيدة) ووعد بسيرورة دستورية تشوبها العيوب ذاتها، كما أوحى بأن سوريا لن تشهد انتخابات قبل أربع سنوات.
بدل كل ذلك المنافي تماماً لما تحتاج سوريا إليه، كان ينبغي سلوك الطريق الوحيد التي بإمكانها أن تؤدّي إلى إعادة توحيد البلاد. وقد أشرنا إليها منذ البداية (أنظر «كيف يُعاد بناء الدولة السورية؟» على هذه الصفحات، 17/12/2024) ألا وهي طريق الدعوة إلى مؤتمر شامل تتمثّل فيه كافة مكوّنات الشعب السوري السياسية والطائفية والإثنية، وتتمثل فيه النساء بصورة متناسبة مع نسبتها من السكان، وتنبثق عنه حكومة مؤقتة تشارك فيها تلك المكوّنات وتمهّد لانتخاب مجلس دستوري في مهلة زمنية لا تتعدّى السنة، كي يقوم المجلس المذكور بصياغة مشروع دستور جديد بغية عرضه على استفتاء شعبي، مع اشتراط نيله أغلبية الثلثين كي يدخل حيّز التنفيذ. هي ذي الشروط التي وحدها بإمكانها تنقية المياه السورية وطمأنة شتى مكوّنات الشعب السوري. أما ما قام به حكم هتش حتى الآن، فهو يزيد من تعكيرها بصورة خطرة، بما يفسح المجال أمام شتى الصيّادين الإقليميين في الماء العكر، وعلى رأسهم الدولة الصهيونية.