نقد ذاتي للخطاب اليساري في العراق: الحزب الشيوعي العراقي نموذجاً - الجزء الاول والثاني


علي طبله
2025 / 4 / 19 - 18:39     

الجزء الأول: من الريادة التاريخية إلى أزمة التأثير



مقدمة

منذ تأسيسه في عام 1934، كان الحزب الشيوعي العراقي أحد أكثر التنظيمات السياسية تأثيرًا في العراق. قاد نضالات عمالية وفلاحية، ودفع ثمناً باهظاً في مواجهة الأنظمة الاستبدادية، وكان حاضرًا في الشارع كما في السجون. لكن بعد 2003، ومع الانفتاح السياسي المربك وصعود الهويات الطائفية والعرقية، دخل الحزب في أزمة مزدوجة: أزمة خطاب، وأزمة تنظيم.

هذا المقال هو محاولة لنقد ذاتي صريح، لا بقصد النيل من الحزب، بل بهدف فتح أفق تجديد اليسار العراقي انطلاقاً من أكثر تجاربه عمقاً وتجذّراً.



1. الجمود الأيديولوجي أمام تحولات الواقع

بقي الحزب الشيوعي العراقي لعقود طويلة أسير قراءة ماركسية تقليدية، لا سيما تلك المستمدة من النموذج السوفييتي الستاليني. هذا النمط من التفكير ركز حصرياً على البنية الطبقية للصراع، دون أن يطوّر أدوات فعّالة لتحليل انقسام الهوية الطائفية أو الديناميكية الإثنية، والتي أصبحت أساساً في المشهد العراقي بعد 2003.

أحد الباحثين وصف هذه الإشكالية بالقول: “اليسار العراقي تعامل مع الطائفية وكأنها دخيلة مؤقتة على التاريخ، لا كبنية سياسية تُنتج نفسها اقتصادياً وثقافياً”¹.

ومع أن الحزب حاول أحياناً تحديث خطابه عبر استخدام مصطلحات مثل “الدولة المدنية” أو “العدالة الاجتماعية”، إلا أن هذه المحاولات ظلت غالبًا سطحية أو تكتيكية، دون أن تمس الجذر النظري الذي يربط التحليل الطبقي بفهم البنى الطائفية كأدوات للهيمنة.



2. أين الخطاب؟ فجوة الاتصال مع المجتمع

يفتقر الخطاب اليساري في العراق إلى لغة قادرة على مخاطبة الفئات الشعبية التي لم تعد ترى نفسها بوصفها “طبقة” بقدر ما تنتمي إلى طائفة أو منطقة أو إثنية. أحد أبرز تحديات الحزب اليوم أنه “يتحدث لغة مستوردة من خمسينيات القرن الماضي، بينما الجماهير تعيش في عراق ما بعد الفوضى الطائفية”². او التعريف "بالمدنية والمدني" ما تشكل توجهاً إلى اطروحات ما بعد كومونة باريس ومصطلحات الاستخبارات المركزية الأمريكية وحلفاؤها الغربيين في تأجيج الصراعات المجتمعية والسياسية داخل الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق أوروبا.

تجارب الحراك الاجتماعي بعد 2011، وخصوصًا انتفاضة تشرين 2019، أظهرت أن هناك لغة جديدة تولد من الشارع: لغة الغضب، والكرامة، والمطالب المباشرة (ماء، كهرباء، عمل)، وهي لغة لم يتقنها الحزب إلا ببطء، أو دخلها من باب رد الفعل، لا المبادرة.



3. من الانعزال إلى التحالف: جدل التحالف مع الصدر

التحالف الذي عقده الحزب مع التيار الصدري في 2018 (تحالف “سائرون”) شكل محطة مثيرة للجدل. من جهة، أتاح للحزب أن يدخل البرلمان لأول مرة منذ عقود بصوت مرتفع؛ ومن جهة أخرى، خلق ارتباكًا داخل صفوفه وبيئته الاجتماعية.

الناشط والباحث ستانلي جونز كتب: “كيف لحزب ماركسي أن يتحالف مع تيار ديني محافظ يقوده رجل دين يؤمن بولاية الفقيه على طريقته؟“³. هذا السؤال لم يُجب عليه بوضوح من قبل قيادة الحزب، ما ساهم في تأجيج خطاب التشكيك الداخلي، وأضعف وضوح الرؤية.

لكن، من زاوية أخرى، يرى البعض أن هذا التحالف كان محاولة واقعية لكسر الطائفية السياسية من داخلها، واستثمار أي مساحة إصلاحية متاحة. المسألة هنا ليست في “التحالف” ذاته، بل في غياب نقاش داخلي ديمقراطي وشفاف حول استراتيجيات العمل السياسي، ومدى حدود البراغماتية الممكنة.



يتبع في الجزء الثاني: أزمة التنظيم، ضعف القاعدة، وتآكل العمل القاعدي.



الهوامش
1. فلاح الأمين، “مأزق الخطاب اليساري في العراق بعد 2003”، مركز دراسات اليسار العراقي، 2019.
2. حيدر جبار، “اليسار واللغة السياسية في العراق الجديد”، مجلة جدل السياسية، العدد 12، 2020.
3. Stanley Jones, The Tragedy of Iraq’s Communists, International Socialism Journal, Issue 154, 2017
—————————————————————————————————————————-

23 b
نقد ذاتي للخطاب اليساري في العراق: الحزب الشيوعي العراقي نموذجاً

د. علي طبله

الجزء الثاني: أزمة التنظيم وتآكل العمل القاعدي



4. انهيار التنظيم القاعدي: من الحزب الجماهيري إلى النخبة السياسية

إذا كان الحزب الشيوعي العراقي قد حافظ في الماضي على قاعدة جماهيرية منتشرة في النقابات، الجمعيات، وأوساط العمّال والفلاحين، فإن السنوات الأخيرة شهدت انكماشاً لافتاً في حضوره القاعدي. التحول من “حزب جماهيري” إلى “تنظيم نخبوي” أو “حزب نخبوي بواجهة شعبية” أو ما نعيشه "حزب المدنية" أصبح سمة ملازمة.

يُعزى هذا التراجع لعدة عوامل:
• تفكك البنية الإنتاجية بعد الحصار وحرب 2003، وانهيار المصانع والمزارع.
• غياب العمل النقابي الجاد والمستقل.
• افتقار الحزب لاستراتيجيات تجنيد فعالة بين الشباب والعاطلين عن العمل.

يقول أحد أعضاء الحزب السابقين في مقابلة خاصة: “أصبحت الاجتماعات روتينية، والمركزية قاتلة. لم نعد نعرف الناس كما كنا نعرفهم سابقاً، والناس لم يعودوا يعرفوننا.“¹

هذا التآكل التنظيمي ترافق مع عجز في إعادة إنتاج الكوادر الفكرية والسياسية الجديدة، وتهميش الأصوات النقدية داخل الحزب. مع كل دورة انتخابية، كان الحزب يراهن على تحالف أو خطاب خارجي، لكنه كان يخسر داخلياً: أعضاؤه، جمهوره، تأثيره الحقيقي في المجتمع.



5. ضعف الديمقراطية الداخلية وتكلّس القيادة

من الانتقادات المتكررة للحزب الشيوعي أنه رغم شعاراته الديمقراطية، فإن آليات اتخاذ القرار داخله ظلت شديدة المركزية. منذ سقوط النظام في 2003، لم تتغير القيادة العليا للحزب بشكل جذري، ما كرّس إحساسًا عامًا بغياب التجديد.

تقول الباحثة نسرين عباس في دراسة تحليلية:
“الخطورة لا تكمن فقط في بقاء نفس الوجوه، بل في بقاء نفس المنطق في التفكير والعمل، رغم تغيّر المجتمع من حولهم رأساً على عقب”².

انعدام النقاشات الداخلية المفتوحة والنقد الذاتي المنهجي أدّى إلى خنق المبادرات وتجفيف الفكر الحزبي. وهذا ما يجعل الحزب يبدو أحيانًا وكأنه “أرشيف من الإنجازات الماضية”، بدل أن يكون مختبرًا للأفكار الجديدة.



6. خفوت الجاذبية الأيديولوجية: أزمة الخطاب لا الخطط فقط

في مجتمع تحوّلت فيه الهويات الطائفية إلى آلية حماية يومية، لم يعد الحديث عن “الطبقة” او "المدنية" وحده كافيًا لإقناع الشاب العاطل، أو المرأة المهمشة، أو العامل الذي لا يملك عقدًا رسميًا.

الأيديولوجيا، كما يقول أنطونيو غرامشي، لا تعمل في الفراغ، بل تعيش داخل “كتلة تاريخية” محددة³. والحزب، بدلاً من أن يطوّر خطابه ليفهم التداخل بين الطائفة والطبقة، ظل يكرّر مقولات من زمن مضى، كأن الواقع لم يتغيّر.

عندما تتحدث عن “البرجوازية الكومبرادورية او الأوليغارشية" أو “الصراع الطبقي” او "المدنية" بينما يعاني الناس من انقطاع الكهرباء والماء وسوء الخدمات الطائفية، فإنك تظهر في نظرهم وكأنك من كوكب آخر.



يتبع في الجزء الثالث: سؤال التحالفات، والحاجة إلى يسار جديد يتجاوز الحزب التقليدي.



الهوامش
1. مقابلة شخصية مع عضو سابق في اللجنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي – بغداد، 2022.
2. نسرين عباس، “أزمة اليسار العراقي: بين النخبوية والمجتمع”، مركز دراسات اليسار العربي، 2021.
3. Antonio Gramsci, Selections from the Prison Notebooks, edited by Quintin Hoare and Geoffrey Nowell Smith, International Publishers, 1971.