برهامي والميثاق المقدّس: فتوى على مقاس الاحتلال
محمد فرحات
2025 / 4 / 6 - 22:22
حين تشتعل الأرض تحت أقدام الأطفال، وتنقضّ الطائرات على المستشفيات، ويُدفن الأحياء تحت الركام، يخرج علينا الدكتور ياسر برهامي، بوجهه الذي لا يعرف الخجل، ليذكّرنا: "لا تجوز الحرب معهم لأن بيننا وبينهم ميثاق". آه نعم، الميثاق! ذاك العقد المقدّس الذي يبدو أن ملائكته قد نزلوا عليه بالتوقيع من السماء، وتم توثيقه في محكمة الجنّ السماوية، بحضور جبريل والشهود من بني قريظة.
الميثاق الذي لم يسمع به أحد من سكان غزة، ولا أحد من أبناء رفح أو جنين، لكنه حاضر دومًا في فتاوى الدكتور، كأنما هو لوح محفوظ لا يبلله دم، ولا يهزه صاروخ. قد يتبادر إلى ذهنك – وأنت على ضلالك – أن العدو الصهيوني قد خرق ألف ميثاق، وقتل ألف طفل، وهدّم ألف دار، لكنك لا تفهم. فالميثاق عند الدكتور برهامي ليس في الكفّ عن الدم، بل في الكفّ عن المقاومة. هو عهد السكون، لا عهد السلام.
أما الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر ، فربما خانته الحكمة، فاستجاب لدموع الأمهات ودماء الأبرياء، وأصدر فتوى تجيز المقاومة! يا له من عاطفي! نسى أن برهامي قد أمضى عمره يحفظ لنا هذا "الميثاق" مع دولة الاحتلال، كأنما هو الحجر الأسود الجديد، يُقبل ولا يُمس.
ثم يسألك برهامي بكل طمأنينة أهل الكهف: من أنتم حتى تقرروا الحرب؟ هل عندكم أختام؟ هل أنتم "أولي الأمر"؟ الحرب لا تُعلن إلا بموافقة لجنة السياسات الشرعية لـ"الدعوة السلفية" فرع سكندرية، بعد جلسة شورى يحضرها "الشيخ فلان" و"الشيخ علان" ومجموعة من الغارقين في كتب فقه العهد العباسي.
لكن دعونا نصفّق له. فهو على الأقل صادق في موقفه، لم يغيّره لا المجازر ولا صراخ الثكالى. صلب على فتواه كما كان أبو جهل صلبًا على عبادة اللات. لم يتلوّن، لم يتأثر، لم يشعر، وهذا في ذاته موقف... وإن كان موقفًا من حجر.
يا دكتور، هل هذا الميثاق ينطبق على الطرفين؟ أم أنه يُفصّل حسب المقاس؟ هل هو "ميثاق" في وجهنا، و"رخصة بالقتل" في يدهم؟ هل يلتزمون به وهم يقتلعون الزيتون من جذوره، ويقتلعون الفلسطيني من بيته، ويقصفون في المساجد كما لو كانت أوكارًا للشيطان؟ أم أن الميثاق في عرفكم، لا يشمل الطائرات والدبابات، بل فقط يشمل فم العربي حين يصرخ: "حرام عليكم!"؟
ويا حبذا لو حدثتنا عن شكل هذا الميثاق، متى كُتب؟ من وقّعه؟ وعلى أي ورق؟ وهل كان عليه ختم النسر أم ختم "الدعوة السلفية"؟ هل نُشر في الجريدة الرسمية أم في مجلة "الهدي النبوي"؟ يا دكتور، في عالم تُغتصب فيه الأرض كل ساعة، أنتم الوحيدون الذين ما زلتم تبحثون في كتب الفقه القديمة عن حكم "قتال من بيننا وبينه عهد"، بينما العدو لا يعترف لا بك ولا بكتبك، ولا بفتواك التي لا تردع بعوضة.
ثم ماذا عن الحديث الشريف: "من رأى منكم منكرًا فليغيّره"؟ يبدو أنكم فهمتم الحديث بمعناه العكسي: "إذا رأيتم منكرًا... فافتوا بالسكوت!"
ربما، وربما فقط، لو عاد الزمن إلى الوراء، لوقف الدكتور برهامي في غزوة بدر، وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: "يا رسول الله، لا تجوز الحرب مع قريش... بيننا وبينهم ميثاق!" لكن للأسف، النبي لم يستشر الدعوة السلفية، ولا طلب فتوى "مجلس شيوخ الورع البارد"، فخاض الغزوات، ونصر المظلوم، وأقام دولة الحق.
لكن يظل السؤال الأهم: من أين تستمد "الدعوة السلفية" في مصر حكمتها الفقهية العظيمة؟ الإجابة ببساطة: من عمق التاريخ... لا، ليس التاريخ الإسلامي بالضبط، بل من كهوف مظلمة حيث الفقه ميت سريريًا، لا يتنفس إلا بغبار التأويلات، ويُروى بماء الجُبن، ويُطعم من موائد السلطان. فبرهامي ليس مجرد فرد، بل مؤسسة قائمة على فلسفة عظيمة: "أطع الظالم، واصبر على الضرب، ولا تنكر المنكر حتى يتبين لك أنه مخالف لمصلحة الأمن القومي (حسب وجهة نظر الإمام في زاوية المسجد)."
منظومة ترى أن الجهاد فتنة، والاحتلال قدر، والكرامة زلل، والمقاومة بدعة محدثة لم ترد عن سلفهم "الصالح" (صالحهم هم، لا صالح أي أحد تاني). أما بياناتهم الرسمية، فغالبًا ما تبدأ بعبارات مثل: "وقد رأينا من باب سد الذرائع، أن الإنكار على العدو الصهيوني الآن قد يؤدي إلى مفسدة عظيمة وهي... رفع الوعي العام!" ويتبعها بيان آخر بعد مجزرة: "ونذكّر عموم المسلمين بحرمة الخروج، ووجوب كظم الغيظ، وانتظار الفرج، والجلوس في بيوتهم يقرؤون في سيرة ابن تيمية حتى تمر هذه الغمّة."
ثم يخرج علينا الشيخ ياسر في مقطع فيديو مصوَّر بصيغة 144p، جالسًا خلف مكتب خشبي يبدو أنه من زمن المماليك، يشرح لنا لماذا لا يجوز "إعلان الجهاد"، ويختم بقوله: "نسأل الله أن يُعيننا على طاعته، وأن يلهمنا الصبر على ما ابتُلي به إخواننا... ونحن والله نشعر بما يشعرون، لكن شرع الله فوق العاطفة." يا سلام! شرع الله صار مطرقة تُهوي بها على رؤوس المساكين كلما أرادوا أن يقولوا: "كفاية!" شرع الله، في تفسير الدعوة السلفية، صار كأنّه إجازة مفتوحة لجلاد، ومجموعة نصوص محفوظة تُستخدم في تكميم الفقراء والمقهورين فقط.
ولا تسأل أين كانت "الدعوة السلفية" حين كانت الأرض تُباع، وحين وُضعت غزة تحت الحصار، وحين جفّ نهر النيل، وحين وُئدت السياسة، وحين اختفى الحياء. فهم لا يظهرون إلا في توقيت واحد فقط: حين يصبح الدم العربي مهدورًا، ويصبح الصمت موقفًا شرعيًا.
وبعد كل هذا، لو سألت: ما هو الدور السياسي الحقيقي للدعوة السلفية في مصر؟ فالجواب ببساطة: ضمان عدم ارتفاع ضغط الدم لدى الحاكم!
فحين تُغلق المساجد، لا مشكلة. وحين تُفتح السفارات الصهيونية، لا تعليق. وحين يُسجن العلماء، يُقال: "نحن لا نتدخل في الشأن السياسي!"
لكن حين تخرج فتوى من اتحاد علماء المسلمين تدعو للمقاومة، ينتفض الشيخ، وتُعقد الجلسات، وتُصدر البيانات، وكأنهم وجدوا سلمان رشدي في غزة!
وفي هذا السياق، نُطالب الدولة بمنح ياسر برهامي وسام الاستقرار السياسي من الطبقة الأولى، لأنه نجح لعقود في تربية جيل كامل على طاعة الحاكم، وتخدير الضمير، وتقديس الصمت، وكل هذا... باسم الشرع!
ولو أن الاحتلال الإسرائيلي اطّلع على فتاوى الدعوة السلفية، فربما يدرجها في مناهج التعليم عندهم بعنوان:
"كيف تحارب أمة... وهي تظن أن القتال حرام لأنها موقّعة ميثاقًا مع قاتلها.".
الشهداء
٦ إبريل ٢٠٢٥