الديمقراطية ودور الأسرة والمدرسة في تنميتها وتعزيزها
فلاح أمين الرهيمي
2025 / 3 / 19 - 12:24
لقد ظهرت فكرة الديمقراطية وممارستها في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد وشاعت بين قدماء اليونان الذي قدر لهم أن يمارسوا تأثير لا مثيل له على التاريخ العالمي حيث شكل ذلك الفكر منعطفاً تاريخياً في المجتمع الإنساني حينما تجسدت صورة الديمقراطية من خلال النظام السياسي ينظر أفراده بعضهم إلى بعض بوصفهم أنداداً سياسيين يتمتعون جماعياً بسيادة استقلالية ويمتلكون كل المنطلقات والموارد والمؤسسات التي يحتاجون إليها من أجل حكم ذاتهم ... إن الديمقراطية هي منهج وأسلوب لعمل ومنظومة أفكار وآليات ومؤسسات لم تكتمل وتنضج وتصل إلى هذا المستوى من النضج والكمال إلا بعد قرون من الزمن والمراحل من الصراعات والنزاعات والتجاوب بين أنصارها وخصومها ولذلك لا تعتبر الديمقراطية شعور أو قميص جاهز يمكن ارتداؤه فيصبح الإنسان ديمقراطي وإنما هي ظاهرة في الوجود تؤكد حقيقتها من خلال السلوك والممارسة والتصرف وهذا السياق لابد من الإشارة إلى الضوابط النفسية والسلوكية من خلال الإنسان التي تعتبر (منظومة من القيم) تحرك سلوك الفرد وتوجهها نحو الأهداف المحددة والإنسان لا يدركها ولا يعلم بأن هذه القيم هي التي تحرك سلوكه وتوجهه في الحياة والمجتمع ولذلك فإن سلوك الإنسان (رجل دين أو سياسي أو اقتصادي) تختلف بين إنسان وآخر بسبب منظومة القيم في الثقافة والوعي الفكري والتربية وما ينتج عنها من سلوك وتصرف لذلك الإنسان نوعياً وكمياً وأن هذه القيم لا تولد مع الإنسان وإنما يكتسبها من خلال (الأسرة والمدرسة) التي تكون مميزة لثقافة الإنسان ووعيه الفكري وتكون لها أثر كبير في طرق التفكير والتعبير والانفعالات وإرضاء دوافعه وفيما يتعلمه من معايير المباح والمحظور والظلم والحق والباطل وكذلك جميع ما يكتسبه من معلومات ومهارات وعواطف وأذواق وأن جميع تلك السلوكيات يحددها نوع الثقافة والمعرفة إلى حد كبير إن كان الديمقراطية أو غير ديمقراطية تعاونية أم تزاحمية مادية أو روحية مسالمة أم عدوانية مستنيرة أو غير مستنيرة ولذلك أصبحت الدول المتطورة والمتقدمة تهتم بشكل كبير بالإنسان والأسرة والمدرسة وتوفر لها جميع مستلزمات الحياة وخاصة في النظام الاشتراكي لأن في الأساس يأتي دور الأسرة ووعيها وثقافتها وإدراكها في نشوء وتكوين شخصية الإنسان حيث كانت ولا تزال وتعتبر أقوى سلاح يستخدمه المجتمع في عملية التطبيع الاجتماعي ونقل التراث الاجتماعي من جيل إلى جيل آخر فقد أجمعت هذه التجارب وأكدت أن عملية التطبيع الاجتماعي ونقل التراث الاجتماعي للناس والعلماء على أهمية التربية في الأسرة من أثر فعال وعميق وخطير في نشوء الإنسان والإنسانية وتكوينها ونموها المادي والمعنوي وتشكيل شخصيتها وخاصة منذ طفولة الإنسان المبكرة أي السنوات الخمسة أو الستة الأولى في حياة الإنسان وذلك من خلال أسباب عديدة منها أن الطفل في هذه المرحلة لا يكون خاضعاً أو مطيعاً لسلطان جماعة أخرى غير أسرته ويكون فيها الطفل سهل التأثير والتوجيه ويكون التشكل شديد التقبل للإيحاء والتعليم قليل الخبرة عاجزاً وضعيفاً للإرادة وقليل الحيلة وفي حاجة دائمة إلى من يعوله ويرعى حاجاته العضوية والنفسية المختلفة ولأن التطبيع فيها يكون مركزياً وعنيفاً إذا عرفنا هذا قدرنا ما يمكن أن يكون لها من أثر في تشكيل شخصية الطفل وتوجيهها إلى الخير وإلى الشر وإلى الصحة وإلى المرض وبذلك تكون حياة الفرد فترة حاسمة في تكوين وبناء شخصية الإنسان أما تأثير المدرسة والتطبيع الاجتماعي على تكوين وبناء شخصيته فقد نشأت المدارس يوم شعرت الإنسانية أن الأسرة وحدها عاجزة عن إعداد الإنسان للتوافق الاجتماعي اللازم وقد تأكد من حيث الواقع أن للمدرسة دور مهم يفوق مقدرة الأسرة على القيام بتكوين وبناء شخصية الإنسان لأنها أقرب إلى مطالب المجتمع من الأسرة باعتبار المدرسة أرحب أفقاً وأوسع مجالاً من الأسرة وبمنجاة من التقاليد البالية الغريبة التي يسودها ويجثم عليها من مثل وعادات ترزح تحتها الأسرة بينما المدرسة تتعامل بأسلوب من الحد والجدية والحزم والالتزام وأبعد من الدلال في معاملة التلميذ ولذلك يتجلى اعوجاج السلوك ليس في المدرسة وأكثر مما يتجلى في البيت لأن في البيت يوجد الدلال وتدخل الأم والأب في المسائل الجدية والضرورية والقرب والبعد مع التلميذ كما أن الطفل عندما يخرج من البيت في بداية حياته إلى المدرسة وتكون شخصيته لا زالت تحمل تأثيرات وطبائع عميه عن البيت ولذلك يعتبر انتقال الطفل من البيت إلى المدرسة بعد الطفولة المبكرة حدث حرج خالد في حياته ويعتبر انتقال من مجتمع صغير بسيط منطوي على نفسه إلى مجتمع أوسع وأعقد وأكثر اتصالاً بالحياة وتمثل بيئة جديدة ذات نظم وقوانين جديدة وبها من الواجبات والتكاليف ما لم يعهد الطفل بها من حيث يوجد فيها علاقات جديدة ومنافسات جديدة ومغامرات جديدة ويعيش بين أتراب يختلفون عنه من نواحي كثيرة وفيها يضطر الطفل إلى التضحية بكثير من المميزات التي كان ينعم بها في البيت والمدرسة سواء كانت روضة أو غيرها فمعناها الانفصال عن الوالدين وخاصة الأم ولذلك يعتبر هذا التغير العنيف في بيئة الطفل له أثر كبير في شخصيته وخلقه وسلوكه الاجتماعي فالعادات والتصرفات في البيت ليس لها وجود في المدرسة كما أنها تفرض عليه واجبات جديدة وأن يراعي النظام ويلتزم بالآداب وأن يلتفت وينتبه إلى حديثه ولا يقاطع ويتجاوز على حقوق الآخرين وأن يتعاون مع زملائه الطلاب ويشترك معهم في الأشغال والألعاب وأن يحافظ على نظافة المدرسة وأثاثها ومن خلال ذلك تعتبر المدرسة مرحلة انتقال إلى مرحلة أخرى من حياة الإنسان وتأثيرها كبير في نمو شخصيته وتستطيع أن تفعل الكثير في حياة الطفل ونموه وتطوره وتكوين شخصيته من خلال هذه المنظومة من القيم (الأسرة والمدرسة) التي هي بمثابة الرحم الذي ينمو فيه الإنسان وينضج ويصبح المدرك الواعي والعالم والمثقف والتقدم والتطور والمدبر والخالق لجميع مستلزمات الحياة الإنسانية المادية والمعنوية وقد نزلت الدساتير السماوية وكتبت الدساتير الوضعية والأفكار الفلسفية والعلمية من أجل الإنسان وحياته وبذلك مثل هكذا إنسان يكون حاضناً ومؤثراً في الديمقراطية الصحيحة وثباتها وتطورها.