الميليشيا بديل الدولة: من الحلم الإسلامي إلى الوكالة الاستخبارية


محمد فرحات
2025 / 3 / 13 - 23:51     

""

في المشهد العربي الراهن، تتكرر السيناريوهات نفسها بوجوه مختلفة: دول تتهاوى، وشعوب تُستنزف، وكيانات ميليشياوية تنشأ لتملأ فراغ السلطة باسم التحرر، بينما هي في جوهرها أدوات في يد القوى الكبرى. من العراق إلى اليمن، ومن ليبيا إلى سوريا، تتكرر القصة ذاتها: شعارات كبرى، وواقع صغير هشّ، ومشاريع خارجية تُنفَّذ بأيادٍ محلية.

وفي سوريا، يتجلى هذا المشهد بوضوح فجّ. فعندما يُقال "معظم سوريا"، تتهاوى العبارة أمام واقع جيوسياسي صارخ: الجنوبُ السوريُّ بأكملهِ، حتى ريفُ دمشق، بات رهينةً لقبضةِ الاحتلال الإسرائيلي، بينما يسبح الشمالُ والشرقُ في فضاءِ الهيمنة التركية والأمريكية. ووسط هذا التشظي، تظهر دولةُ الميليشيا — كائنٌ وظيفيٌّ مبرمج، أُعدَّ لأداء ما لا تجرؤ عليه الكيانات الكبرى علنًا.

هذه الدولة — التي تُقدّم نفسها كجبهة تحريرٍ أو كحلم خلافةٍ — لا تُعدو كونها أداةً وظيفيّة، تُعيد إنتاج كلّ قذارةٍ سياسية باسم الدين، وكلّ استثمارٍ استعماريٍّ باسم العقيدة. دولة الجولاني وأمثالها ليست إلا غُرفَ عملياتٍ ميدانية للمخابرات المركزيّة والموساد، أدوات تُنفّذ ما يستنكف الكيان الإسرائيلي عن القيام به، لتُعيد صياغة المشهد النهائي في شكل "معاهدة سلام" تُوقّع لاحقًا، بعدما تؤدَّى المهمّة القذرة.

والسخرية تكتمل حين يُرفع شعار "الخلافة" فوق هذا الخراب، ويُبشَّر الناس بيُوتوبيا الإسلام السياسي، التي لم تكن يومًا سوى واجهةٍ لإعادة إنتاج أدوات الاستعمار في هيئة "تحررية". فالحُلم، هنا، ليس أكثر من واجهةٍ خطابية، يُجمَّل بها المشروع الوظيفي.

إنّ هذا الدور المُرسوم لتلك الدولة "اللقيطة" — كما يُسميها الشاعر خالد السنديوني — يكشف زيف التمثيل السياسي الذي تُروّج له حركات التديّن المسلّح. فـ"الجهاد" بات سلعةً استخباراتيّة، و"الخلافة" صارت مسرحًا دمويًا تُديره شبكات العنف العابر للحدود، بإشرافٍ دوليٍّ محكم.

ما يُقدّم لنا اليوم في ثوب "تحررٍ" هو غالبًا مشروع "وكالة" بصيغة دينية أو أيديولوجية. فالأنظمة تتبدّل، لكن مَن يُمسك بالخيوط الحقيقية يظل ثابتًا. والخلافة التي كانت حلمًا طوباويًا في مخيلة الإسلام السياسي، باتت اليوم أداة لتفتيت ما تبقّى من خرائط المقاومة الحقيقية.

ولعلّ أعظم مأساة يفضحها هذا المشهد هي أن الثورة — التي وُلدت في بعض الأماكن صادقةً ونقيّة — تُختطف دائمًا لصالح مشاريع أكبر منها، تُدار من غرفٍ مغلقة، ويُكتب لها سيناريو محكم، يؤديه ممثلون محليون، ثم يُصدَّر للناس على أنّه قدرٌ جديد، لا مهرب منه.