الحركة النقابية بالمغرب و-نضال التنسيقيات-: مسار التراجع والانحطاط والتفكك.


محمد السكاكي
2024 / 7 / 24 - 02:21     

مقدمات أولية
"القديم يحتضر،والجديد لم يولد بعد".أ.غرامشي

• ظهور التنسيقيات تعبير عن اليأس والإحباط من المصير الذي آلت إليه الحركة النقابية.
• النظر إليها كانعكاس مباشر وسلبي للوعي السائد،المطبوع بالتشوش والانتهازية،تغذيها إطارات ضيقة،تنشر وهم الحلول الفردية.
• استثناء تنسيقية المتعاقدين(من جهة مبررات التأسيس فقط)،التي تشكلت تحت الضرورة وبتلقائية،بعد عجز الإطارات النقابية عن تأطير هذه الفئة،بالنظر لسقف مطالبها.
• استعمال لفظ المخزن للدلالة على وضعية التشابك والترابط المصلحي،بين مجموعة من الطبقات الاجتماعية المستفيدة من الوضع القائم،الذي يجد تعبيره الأساسي في مجموع البنيات الإدارية والسياسية القائمة( الحكومة،البرلمان،القضاء،مجلس كذا،مجلس....الخ).
• النظر إلى المخزن كطرف في الوضعية القائمة،يعمل على ضمان استمرارها،وإعادة انتاجها،بما يضمن استمرار المصالح الطبقية القائمة.
• لهذا السبب،ليس هناك ما يدعو للاستغراب حين يلجأ إلى أساليب القمع والترهيب؛ بحيث يتجاوز القمع مجرد ممارسة العنف، والنظر إليه في ترابطه البنيوي بالبنى الاخرى التي تتقاسم معه نفس الغايات(المؤسسة الدينية،وسائل الإعلام،التعليم،القضاء.....)
• الإشارة إلى نظام الرأسمال الامبريالي،وامتداداته العابرة للقارات،ودمجه لاقتصادات ريعية متخلفة ضمن تقسيم العمل الدولي.
انتشرت في المغرب،في العقدين الأخيرين،حركات احتجاجية على شكل مجموعات مغلقة،محدودة المطالب،وعديمة الآفاق عملت على تفكيك حركة النضال الجماهيري،ووحدة المطالب ووحدة الكتلة الجماهيرية؛بحيث نال قطاع التعليم النصيب الأكبر من هذه المجموعات،التي ما تفتأ تتناسل يوما عن يوم،بحيث لا يتطلب تأسيسها أحيانا سوى التعارف الشخصي المسبق،وتقاسم بعض الانطباعات (لأن وحدة المطالب والمشاكل التي يتخبط فيها قطاع التعليم عامة ويتقاسمها كل موظفي القطاع ).ان تأسيس كيانات بهذه السهولة وبالهشاشة التي تطبعها لا تجد اية ارضية او ضوابط "لنضالها" سوى حسن نوايا بعض عناصرها،وأمزجتهم المتقلبة التي لاتخضع لأي ضابط يحد من حرية تقلباتها طوال الوقت.
إذن ماهو السياق العام لتشكل هذه المجموعات؟ماهي التربة الفكرية التي تأوي جذورها؟ماهي الروافد التي تغذت منها هذه النزعة الحلقية؟ماهي الآفاق التي يمكن ان تفتحها ؟
عرف المغرب منذ اواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات،العديد من المستجدات،تجد اسبابها في تحولات دولية كبرى،اهمها تفكك الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية،وتراجع جزء كبير من القوى السياسية اليسارية العالمية التي كانت ترى في التجربة الاشتراكية أفقها التاريخي،انحسار دور ومكانة حركات التحرر العالمية،التي شكل الاتحاد السوفياتي مصدر دعم وقوة لها،سواء على الصعيد الايديولوجي،اوعلى صعيد الدعم المادي المباشر.
إضافة الى تفكك الاتحاد السوفياتي،والمنظومة الاشتراكية،تأثرت كذلك "حركة عدم الانحياز" كقوة دولية كانت تقف دائما إلى جانب حركات التحرر العالمية،وتراجعت مكانتها،بعد ان فقدت "دعم" المنظومة الاشتراكية،مما سهل استقطاب العديد من مكوناتها وإدماجها في تحالفات دولية او إقليمية،عسكرية،واقتصادية،تحت قيادة بلدان الرأسمال الامبريالي؛مما عزز مكانة وتأثير هذه البلدان الأخيرة في رسم المعالم الكبرى للسياسة الدولية،وكذلك إعادة تشكيل تضاريس الخريطة الاقتصادية عالميا،تحت عناوين مختلفة،"العولمة"،"اتفاقيات التبادل الحر"،....تصب كلها في اتجاه تعزيزاستعادة بلدان الرأسمال الامبريالي،لدورها التقليدي في المستعمرات السابقة،وتكثيف استغلال ثرواتها،واخضاع اقتصاداتها لمتطلبات الاسواق الدولية،التي اصبحت تكتسي طابع الأولوية مقارنة بضرورة تلبية الاحتياجات الوطنية،وتعميق واقع تبعية اقتصادات ريعية متخلفة لمراكز الرأسمال الإمبريالي.
هذه التحولات الدولية الكبرى،وما تطرحة من صعوبات تَمَثُّلِها واستيعابها من طرف القوى اليسارية،أرغمتها على التكيف مع الوضع الدولي الجديد،بما أفرزه من نظام لسيطرة وتحكم الرأسمال الإمبريالي؛بحيث انسلخت العديد من الاحزاب الشيوعية،والاشتراكية الديموقراطية،عن مرجعيتها الايديولوجية ومشروعها السياسي،لتنضاف إلى جوقة الرأسمال الإمبريالي،وبدأت تغني متأخرة على نغمات فشل الاشتراكية،مستعيرة في ذلك مرجعية ليبرالية مهترئة ابانت عن طابعها الدعائي والتضليلي المحض؛بحيث فقدت مصداقيتها حتى في أوساط نشأتها،من قبيل الديموقراطية،حقوق الإنسان،نهاية عصر الإيديوجيات،...
ان هذه التحولات الكبرى وما ترتب عنها من صعوبات،في صياغة البدائل الممكنة لنظام الرأسمال الإمبريالي،بما يقتضيه من اجتهاد فكري كفيل بتوجيه الممارسة السياسية نحو آفاق التغيير الثوري - في ظل الشروط العامة الحالية - وعجز الممارسة السياسية العقيمة عن انتاج نظريتها الثورية،أصبح التفكير في المسألة الثورية أكثر تعقيدا من السابق.
وهذه الوضعية الجديدة والمعقدة،التي تسير في اتجاه دعم الحركات الاستعمارية،استباحة وانتهاك سيادة الدول وتدمير امكاناتها الاقتصادية،وقوتها العسكرية،احتلال عسكري للعديد من البلدان بوضع قواعد عسكرية لبلدان الرأسمال الامبريالي فوق أراضيها،ودمجها في تحالفات عسكرية غير متكافئة،دعم وتبرير كل اشكال إبادة الشعوب التي تسعى الى التحرر من قبضة الاستعمار...وفي ظل هذه الوضعية اصبحت القوى اليسارية عاجزة عن تقديم البديل فاختار أغلبها أقصر الطرق،طريق الانخراط في البحث عن مسوغات للوضع القائم -لتبرير عجزها- والدعاية له كقدر محتوم، أقصى ما يقتضيه هو بعض التعديلات الجزئية.
هذه الوضعية الملتبسة،التي تتميز بغياب البدائل في المرحلة الراهنة،فتحت المجال لانتشار خطابات تضليلية مَرْكَزَتْ اهتماماتها في عمل هامشي لن يرقى ابدا إلى بديل،بل يؤدي إلى تغيير التفكير في البديل الشمولي،والاكتفاء بالبحث في مشاكل جزئية،وعزل بعضها عن بعض بشكل يختزل الواقع كله، في هذا المشكل الجزئي او ذاك،دون أي رابط سببي يكون وراء هذه المشاكل كلها،والبحث عن حلول لها في إطار مجموعات ضيقة وهشة،محدودة التأثيرعززتها هذه الأعداد المتزايدة من "الجمعيات"،التي تروج لخطاب تضليلي، لما يمكن أن تقدمه من بدائل فردية أو داخل مجموعات ضيقة،على شكل خدمات أقرب إلى التمثيل المسرحي منها إلى فعل واقعي،يغطي على حقيقة انسحاب الدولة وتخليها عن مسؤولياتها تجاه المواطنين،على مستوى التنمية،التعليم والصحة...الخ.
* التنمية:مقابل تهميش الدولة للعديد من المناطق الغنية بمواردها.نموذج منطقة الجنوب الشرقي التي تضم اكبر ثروة معدنية،ومنطقة شمال المغرب الغنية بمواردها البحرية،والتحويلات المالية الضخمة من العملة الصعبة؛ دون إغفال معاناة وتهميش سكان سلسلة جبال الأطلس.تظهربعض الجمعيات على الساحة تدعي قدرتها على تحسين وضعية سكان هذه المناطق،من خلال توزيع علبة شاي،قنينة زيت المائدة...الخ تكون دائما محكومة بما يجنيه مسيرو هذه الجمعيات لفائدتهم الخاصة، فيحدثون ضجيجا يفوق كثيرا حجمهم وحجم ما قد يقدمونه من خدمات لهذا الشخص او ذاك.ضجيج يغطي على حقيقة تخلي الدولة عن مسؤولياتها تجاه المواطنين،وتغذية الوهم ببدائل تأتي عن طريق الصدفة والصدقة.
* قطاع الصحة: ان تخلي الدولة عن مسؤوليتها في القطاع،ترك المواطنين فريسة لمختلف أنواع الأمراض، ونهب القطاع الخصوصي، وخداع المشعوذين والدجالين .تخلي واكبه ضجيج إعلامي صاخب،حول مختلف انواع البرامج الصحية(راميد،التغطية الصحية،قوافل طبية موسمية...)،بالموازاة مع الترويج لحلول فردية وجزئية، من خلال تسوّل المحسنين، لإخفاء حقيقة تخلي الدولة عن واجباتها تجاه المواطنين.في حين أن قطاع الصحة يقتضي تعميم مجانية الاستفادة من الخدمات الطبية،بمواكبة النمو الديموغرافي والتوزع الجغرافي للمواطنين،بإحداث مراكز الاستشفاء،وتوفير الأطقم الطبية بالعدد الكافي. وتوحيد جميع البرامج الصحية في صيغة واحدة تمكن المواطن من الاستفادة الفعلية بعيدا عن أساليب الدعاية والبهرجة. وتوفير كلفة البرامج المتعددة لفائدة قطاع الصحة كقطاع عمومي مجاني وموحد.

*قطاع التعليم: تعتمد الدولة في قطاع التعليم(زيادة على خوصصة قسم كبير من القطاع)،أساليب التوائية،تخفي في منعرجاتها تخلصها من "أعباء" هذا القطاع،وتركه عرضة لاختراق ونهب جهات غريبة(ما يعرف بالشركاء والمتدخلين)،تتولى تدبير برامج تستهدف فئات معينة من المتعلمين، مثل التعليم الأولي، محو الأمية التربية اللانظامية،الدعم التربوي...الخ، مقابل استفادتها من تعويضات مالية "سخية"، ما شجع العديد من الجهات على التسابق على الفوز بالغنيمة،حتى بلغ الأمر حد انخراط إحدى جمعيات تربية المواشي في برنامج الدعم التربوي الذي وضعته وزارة التعليم خلال أسبوع العطلة المدرسية الممتد من الرابع دجنبر إلى العاشر منه سنة 2023.
* الحقوق والواجبات: اعتماد أساليب الخير والإحسان،بدل قاعدة المواطَنة الأساسية(الحق-الواجب)،وتحويل المواطن إلى شحاذ ينتظر جود وكرم الآخرين، وشل رغبته وقدرته على التفكير في المطالبة بحقوقه كمواطن، وتشكيل وعي زائف تغذيه هذه المجموعات التي تنخر المجتمع،وتستخف بالمواطنين،وبقضاياهم الأساسية،من فقر وتهميش،وبطالة...،فتقوم بعض الكائنات الغريبة باستباحة وانتهاك "حرمة الأسر"،عبر مقايضة تافهة تستغل في ذلك واقع الفقر والاحتياج،فتقوم بتصوير جوانب من الحياة الخاصة للأسر مقابل مساعدة غير ذات قيمة(علبة شاي،قنينة زيت المائدة...)قصد تسجيل الأهداف،بالترويج للإنجازات،بشكل يسمح لها بفتح آفاق الحصول على مزيد من الدعم والحضوة،من خلال الاتجار في صور البؤس والفقر،والجوانب الخاصة من حياة الأسر،وكلمات الشكر والامتنان التي تُنتزع قبل الشروع في التصوير،وترسيخ منظور تافه يخفي حقيقة الواقع،وينشر وعيا مشوها،يحول المواطن إلى حالة من انتظار الصدفة والحظ بإحساس المتسول.
هذا العمل التضليلي الذي باشرته هذه المجموعات الضيقة يبعد المواطن عن مواطنته،ويبعده عن "تشخيص مواطن الداء" و"تلمس الطريق الصحيحة" "للبحث عن الحلول"، تم تحت غطاء ايديولوجي كثيف،في إطار ما يعرف ب"المجتمع المدني"،الذي تمت العودة إليه ضمن موجة "فكرية"تروم إعادة الاستهلاك والدفاع عن المفاهيم الليبرالية والليبرالية الجديدة(فشل الاشتراكية،الديموقراطية،حقوق الإنسان،نهاية الايديولوجيا...)،دونما ادنى اهتمام بأصولها النظرية،بنشر وتشجيع التسيب في استهلاكها، بما يؤدي إلى اختلاط الرؤى والتصورات وتضليل الطبقات المستغَلة بشكل لا يسمح لها بتحقيق استقلالها الثقافي،ورؤيتها الخاصة إلى العالم، لأن اخفاء الملامح النظرية الأساسية للمفاهيم،يؤدي إلى اختلاط الغايات السياسية والخلفيات الايديولوجية،والمصالح الطبقية التي تختبىء وراءها،بما يمنعها من تكوين وعيها الطبقي،فتظل في وضع من الاستيلاب تعتمد فيه رؤية خصمها الطبقي إلى وضعها الخاص.
وما اقتضى هذه الإشارة،أولا كون المفاهيم هي عماد البناء والانتاج المعرفي،ومن حيث أن المعرفة ليست حقائق متصارعة في سماء المجردات،بل هي ما تختبئ وراءه مصالح طبقية متناقضة ومتصارعة تتقنع بأطروحات فكرية ونظريات علمية.ثانيا، كون المعرفة المشوشة والمرتبكة تسهل عمليات التزحزح والانزلاق نحو مواقع الفكر النقيض،الشيء الذي يفسر سهولة ذلك التخلي عن أفكار،مواقف،برامج...الخ.أو بعبارة أدق التخلي عن وظيفة ودور محددين في حقل الصراع الطبقي والاصطفاف إلى جانب الطرف النقيض،هي ما يشكل الأصول النظرية لظاهرة الارتداد السياسي،حيث يتم الاعتماد على شطحات فكرية متنافرة وغير متماسكة،تساهم في التضليل،ونشر الوعي الزائف والمعرفة المشوشة.وثالثا،لإبراز التربة الفكرية التي تغذي مختلف انواع الحركات ضيقة الأفق،الحركات الانتهازية، والحركات الرجعية، لأن الانتهازية او الرجعية لا تكون دائما اخيارات واعية،بل تكون كذلك نتيجة الرؤية المشوشة التي توجه الممارسة في لحظة تاريخية معينة،وبفهم غير علمي مفكك يؤدي إلى الانزلاق في جميع الاتجاهات،دون أية ضوابط او قيود.
في هذا السياق، ستجد الشعوب نفسها في مواجهة مع نظام الرأسمال الإمبريالي في مختلف تجلياته وتمظهراتة المحلية من حروب وتفقير وتجويع واستبداد...دون سلاح نظري علمي ودون أدوات سياسية ثورية؛مما جعلها تدخل غمار المواجهة أحيانا بسلاح الخصم،الذي أُعد في الأصل لتضليلها وتسهيل عملية التحكم فيها.إنها تدخل في مواجهة الخصم في حلبة أُعدت لهزمها.ولذلك فرغم ما يلاحظ من تنامي الحركات الاحتجاجية،فإنها تفتقد لقوة التأثير،كونها في الغالب عبارة عن ردود أفعال على مشكل آني محدود،لاترقى إلى مستوى الفعل الواعي القابل للتراكم والاستمرار.كما تقوم على مزيج غير متجانس من الانطباعات والآراء،يشكل في الوقت نفسه عائقا في وجه تطور الحركات الاحتجاجية ويكون سببا في انحسارها وانحلالها.
وهذا أيضا هو السياق العام الذي تدخل فيه العديد من الفئات الشعبية في المغرب، غمار المواجهة دفاعا عن مصالحها،بسبب تراكم مشاعر السخط والغضب والمعاناة خارج أي تأطير سياسي أو نقابي...
غير أن غياب التأطير السياسي والنقابي وانسحاب القيادات السياسية والنقابية من الميدان لم يبق عليها عند حدود المتفرج على ما يعرفه الشعب من احتجاجات فقط، بل بلغ الأمر حد دفع الشعب أحيانا في حركات احتجاجية صاخبة¹،لا يعلم سرها سوى مدبرو العمليات الانتخابية – مستغلة الأوضاع القابلة للانفجار – إذ لا يتعلق بمحاربة الفساد، ولا بمطلب مواجهته، ولا بالوضعية المزرية لهذه الفئات الشعبية، بل بالتعاطف مع هذا الكائن الانتخابي² أو ذاك، والرغبة في ضفره بمقعد انتخابي³ لا غير.وما سهل هذا التجييش، يجد أسبابه الحقيقية في الوضع المتردي لهذه الفئات الشعبية،ومدى تذمرها وسخطها، ولذلك سيتم توظيف استعدادها للاحتجاج والدفاع عن مصالحها بأسلوب انتهازي ،وتحويله عن مجراه الصحيح وتبديده في معارك مفصلة على مقاس أفراد بعينهم تجسد المخاض الذي "عاشه" الجبل وبما تطلبه من انتظار وتشويق،لتكون الصدمة في حجم غير متوقع،حين خرج الفأر من رحمه.وهذا ما يبشربعهد نهاية أدوار القيادات السياسية والنقابية في تأطير وتنظيم الشعب، وتمثيله،والدفاع عن مصالحه، وإعلان إفلاسها التاريخي، لتواصل مختلف الفئات الشعبية مسيرة الدفاع عن مصالحها بطرقها ووسائلها الخاصة،بعيدا عن هذه الإطارات.وفي سياق يتميز ب:
• امتداد الرأسمال الامبريالي واستعادة مكانته داخل المستعمرات السابقة.
• غياب البديل الثوري،الاشتراكي بالتحديد.
• انحسار حركات التحرر العالمية.
• اتساع رقعة الحروب الأهلية،التي تؤججها المجمعات الصناعية الحربية الامبريالية،وكبريات شركات الإسمنت.
• الهجوم الايديولوجي،للفكر الليبرالي.
• انتشار الفكر اليميني المتطرف ومختلف انواع النزعات الشوفينية.
• عقم القيادات السياسية والنقابية،وانخراطها في تدبير الأزمة.
• تراكم مشاعر الإحباط واليأس،جراء وضعية الازمة الخانقة التي تطال مختلف الفئات الشعبية.
• سيادة وعي زائف يقوم على الخلاص الفردي،بانتظار عوامل الصدفة او الحظ.
• تناسل كيانات تنظيمية تعمل على نشر هذا الوعي وتكريسه،بالعمل على البحث في الحلول الفردية.
هذا إذن هو السياق العام الذي يحيط بمختلف الحركات الاحتجاجية بما في ذلك شغيلة قطاع التعليم،التي تنتظم في إطار مجموعات ضيقة أو ما يعرف بالتنسيقيات.وكما سبقت الإشارة، إلى وضعية الفرز التي من خلالها اصطفت القيادات النقابية موضوعيا إلى جانب المخزن،بالنظر إلى تشابكهما العلائقي المركب والمعقد، حيث تشكلت كشريحة اجتماعية داخل الحركة النقابية (او ما يسمى بالبيروقراطية) على ارضية الامتيازات،الهبات والاختلاسات...الخ،وجدت نفسها موضوعيا أقرب إلى المخزن منها إلى الشغيلة،ليتحول كل اهتمامها إلى الحفاظ على مصالحها وبما لايفقدها مكانتها ونفوذها داخل الحركة النقابية،وبما يمكنها من توظيفها حسب الحاجة.إنها بذلك في حاجة إلى كتلة جامدة يتم تحريكها في لحظات وأمكنة ولأسباب مضبوطة لا علاقة لها بمصلحة الشغيلة إلا من جهة استعارة غطاء مصالحها للتستر وإخفاء الحقيقة والاختباء وراءه.لكن دون ان تستطيع دائما ان تحافظ على هذا التوازن،وهكذا يخرج موظفو التعليم للاحتجاج والدفاع عن مصالحهم بعيدا عن أي تأطير نقابي،بما يعنيه الأمر من وحدة الملف المطلبي للشغيلة التعليمية ووحدة التنظيم،ووحدة البرامج النضالية تعبيرا عن واقع اليأس والإحباط نتيجة المصير الذي آلت إلية الحركة النقابية(الجمود،التعفن البيروقراطي،انتشار مظاهر الزبونية والمحسوبية داخل الإطارات النقابية...)،ومحاكمة ميدانية لطبيعة "أدائها النضالي"الذي يدور في مناطق مغلقة محاطة بالسرية،في إطار تقليد جديد وغريب عن الحركة النقابية يسمى بالحوار الإجتماعي،تجهل الشغيلة مجرياته (نموذج الحوار الذي جمع النقابات التعليمية بوزارة التعليم على مدى سنتين)،بشكل يبين مدى احتقار هذه النقابات للشغيلة التي لم تكلف نفسها عناء إخبارها بالأمر،ويبين كذلك حجم الوصاية الذي تمارسه عليها، ناهيك عن البحث عن تسويات وصفقات وراء ظهرها. لكن هذه الوضعية لن تمر دائما بدون رد فعل أو مواجهة،فإعلان الوزارة أخيرا عن ثمرة إحدى اطول هذه اللقاءات السرية، كان مناسبة وسببا مباشرا في تفجير الوضع المحتقن وخروج الشغيلة للاحتجاج في مجموعات محدودة التأثير رغم أهميتها العددية في بعض الأحيان؛إذ لم تقابل هذا الهجوم بالقوة والوضوح اللازمين،مستعيرة في ذلك أدوات تنظيمية هشة،يؤطرها فهم سطحي مبتذل،يقسم الوضع الأساسي لقطاع التعليم،إلى مشاكل جزئية منفصلة ،تخفي حقيقة القطاع والسياسة التعليمية في إطار ما يسمى بالتنسيقيات،تفتقد لأبسط مقومات النضال إلا من جانب صدق نوايا بعض أفرادها وجانب الحماس ومشروعية المطلب...كونها تعبيرا غيرواع عن واقع اليأس والإحباط،وسيرا على خطى التشتيت الفئوي،ناهيك عن حالة النكوص التي دشنتها بالعودة إلى مرحلة بدائية ومتخلفة من "النضال"،بالإدعاء ان مشاكل القطاع، يمكن ان تعالج بشكل تجزيئي وجزئي،بتكريس تصوريفرض على كل مجموعة الدفاع عن وضعيتها الخاصة وبوسائلها الخاصة كذلك،بعيدا عن المجموعات الأخرى ،بشكل يبين مدى تخلف هذا التمثل ورجعيته ومدى انتهازية اصحابه.فبدل التفكير في حشد اوسع المجموعات وأوسع الفئات المهنية المختلفة تقوم بردود أفعال آنية ومتقطعة محدودة التأثير ومحدودة الأفق،ومحدودة في الزمن،وهكذا تبدأ في التناسل إذ في كل لحظة يسجل ميلاد كيان جديد(تنسيقية)،يساهم في تشتيت صفوف الشغيلة التعليمية وتحويلها الى مجموعات مختلفة الوضعيات،والمطالب، ونسف كل مايمكن أن يوحدها مطلبيا أو تنظيميا لتسهيل الزج بها في حلقات ضيقة منفصلة ومتنافرة،بشكل يسائل نشأتها،وامتداداتها:
• هل يمكن لهذه المجموعات،الدفاع عن مصلحة الشغيلة في قطاع التعليم بانفصال بعضها عن بعض،والإمعان في البحث عن مواطن الاختلاف،لتبرير التباعد والانفصال التنظيمي،أم بحشد اوسع فئات الشغيلة،والالتحام في صفوف متراصة؟
• هل تعود هذه الوضعية المزرية التي تعيشها هذه الفئات، إلى نفس الأسباب،أم إلى أسباب تخص كل مجموعة بمفردها؟
• إذا كانت هذه الوضعية نتاج مباشر في جزء منها لوضعية الانحطاط الذي تعرفه الحركة النقابية،فهل استطاعت هذه التنسيقيات أن تقدم البديل المنتظر،أم ساهمت فقط في تشتيت النضال النقابي والجماهيري بشكل عام؟
إن قاعدة النضال الأساسية،هي وحدة صف الشغيلة.كقاعدة تاريخية،كلما كان الخصم قويا،كلما تطلبت مواجهته،استعدادا أكبر،ورؤية اوضح،وتنظيما أقوى.إذ حين تشابكت وتداخلت مصالح الرأسمال الامبريالي على الصعيد العالمي منذ اواخرالقرن التاسع عشر،بدأت الطبقة العاملة تستشرف آفاق الوحدة الأممية(الاممية الأولى،الأممية الثانية،الأممية الثالثة).وحين امتد في حركات استعمارية،اصبحت مواجهة الرأسمال الامبريالي مهمة كل الشعوب المضطهدة،فدخلت حركات التحرر الوطني إلى جانب الحركة النقابية والعمالية العالمية في مواجهة الرأسمال الامبريالي وامتداداته الاستعمارية خارج حدوده القومية.
هذا من جهة،ومن جهة اخرى إذا أخذنا مختلف فئات الشغيلة، وطبيعة القطاعات التي تشتغل فيها، فيمكن التمييز في قوة تأثير حركاتها الاحتجاجية،تبعا لموقعها او القطاعات التي تشتغل فيها،والتي تتميز ب:
• انتاج فائض القيمة: هذه خاصية القطاعات الانتاجية(الفلاحة والصناعة)،التي تشكل أساس الاقتصاد في أي بلد.هذه القطاعات،حين تتوقف فيها دورة الانتاج نتيجة احتجاج الشغيلة،تتعرض لخسائر مالية كبيرة ومباشرة.فكل يوم اضراب هو يوم خسارة بمقدار مالي معين،وبالتالي خسارة للدولة،مما يفرض البحث عن تسوية معينة؛فاستمرار الاضراب يؤدي (رغم قطع الأجور عن العمال) إلى توقف الانتاج،الذي يكون تأثيره على المشغل أكبر،بحيث سيفقد فائضا للقيمة بمقدار ما يتم خصمه من القيمة الحقيقية لقوة العمل مضاعفا بعدد العمال.إذ تصبح الخسارة اكبر كلما كان عدد العمال كبيرا.هذا إضافة إلى ما سيكون دينا إضافيا يكون رب العمل ملزما بأداءه لكل الأطراف التي يتعامل معها نتيجة توقف الانتاج وعدم قدرته على تزويدها بالكمية المناسبة أو في الآجال الزمنية المحددة،ما يجعل تأثير الإضراب في هذه القطاعات يتجاوزها إلى قطاعات أخرى...الخ
• تحقيق فائض القيمة،يشكل قطاع الخدمات،في الاقتصادات المتخلفة،قطاعا أساسيا بحيث يستحوذ على النصيب الأكبر من رأس المال،كما يصبح متحكما في جميع القطاعات الانتاجية،لانه هو الذي ينظم العرض والطلب،ويتحكم في المنتج والمستهلك معا.فرغم طبيعته غير الانتاجية،فإنه يدر ارباحا ضخمة،يؤدي توقف العمل فيه إلى خسارة كبيرة،وهذا ما يضع شغيلة هذا القطاع كذلك في موقع التأثير.
• استهلاك فائض القيمة،تتميز هذه القطاعات بطبيعتها غير المنتجة او المحققة لفائض القيمة،إذ تقوم الدولة بتمويلها من "المال العام"،مما يجعل تأثير شغيلة هذه القطاعات(الموظفون) محدودا،إذ تبقى في وضعية من التهديد،بوقف صرف الأجور،دون ان تتحكم في إنتاج أو تحقيق فائض القيمة الذي تستفيد منه حيث تقوم الدولة بتحويله اليها من جهات أخرى،وهذا ما يجعلها غير قادرة على التأثير بشكل كبير اثناء احتجاجاتها،وغير قادرة على متابعة الاحتجاج او الاستمرار فيه(قصر النفس)،وبذلك تكون حركاتها الاحتجاجية دائما محدودة في الزمن ومحدودة الأفق كذلك.
وهذه الوضعية تقتضي كذلك وحدة الشغيلة ،أولا،كون جميع المشاكل التي تعانيها هذه الفئات المختلفة من الشغيلة،تعود الى نفس الأسباب الكامنة في نمط الانتاج القائم،ومجموع البنى الفوقية التي تسنده. ثانيا،البحث عن مواطن القوة والتأثير بالتلاحم والتعاضد.ثالثا،التشابك والتداخل المصلحي.كون وضعيتها -رغم اختلاف مواقع وطبيعة القطاعات-تقوم على العمل المأجور؛ عكس الاتجاه الذي أخذته الحركات الاحتجاجية في إطار التنسيقيات التي سارت في الاتجاه المعاكس،اتجاه الانسلاخ النهائي عن عموم الشغيلة،وتشتيت شغيلة القطاع الواحد،بخلق مجموعات تلتف حول مطلب او مشكل محدد،في لحظة زمنية معينة وينتهي الأمر.إنها طريقة جديدة في النضال،لا يحتاج إلى تنظيم،ولا تصورمحدد،وغير قادر على التراكم،إنه نضال حلقي ضيق الأفق يغذي النزوع نحو الحلول الفردية،بروح انتهازية فجة.
إذا نظرنا إلى هذه الحركات من حيث التربة التي نمت وترعرعت فيها، والسياق العام الذي يؤطرها،فإننا سنلاحظ أنها تسير بخطى متوازية ومتكاملة الأدوار،مع تلك المجموعات(الجمعيات) التي أغرقت الفئات الشعبية الكادحة في عمل هامشي،بتغيير التفكير في الوضع في شموليته،إلى الانغماس في عمليات مسرحية تعمل على تغذية الأوهام وترسيخ النزوع الفردي والميول الانتهازية،ومختلف اشكال الفساد والانحلال.وتنتشر كخلايا سرطانية، تنخر حركة ووحدة النضال الجماهيري.

هوامش:
1-المقصود هنا،الحركة الاحتجاجية، في كل من تيفلت (نواحي الخميسات ) يونيو 1993،وبن احمد (نواحي سطات ) يونيو 1993،وبوزنيقة (نواحي بنسليمان ) يونيو 1993،سيدي بطاش (نواحي بنسليمان ) يونيو 1997.
2-االأشخاص الذين يمتهنون الانتخابات،التشريعية او الجماعية.بحيث يتجاوز بعض الاشخاص للصفة الانتدابية للانتخابات ويحولون بعض الدوائر إلى ملك خاص يتم توارثه،حسب النسب العائلي او الحزبي.
3-الضفر بنصيب في الكعكة،لما تسمح به من اغتناء فاحش عبر الامتيازات،سرقة الاموال والممتلكات العمومية،استغلال النفوذ...الخ