خاتمة كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة عمال المناجم المغاربة في شمالي فرنسا”
ماري سيغارا
2024 / 6 / 16 - 23:51
من خلال توسيع هذه الرؤية الشاملة، يمكننا تقديم الملاحظات التالية: كان العمال المهاجرون ضروريين للاقتصاد ولكن الاندماج في الاقتصاد كان مختلفاً. بحيث اندرجت الجنسيات المختلفة ضمن مستويات مختلفة في الإنتاج.
فقد حصل البلجيكيون والبولونيون والإيطاليون اليوم على مستوى مماثل لمستوى الفرنسيين وفي بعض الأوقات أعلى. ترقى الأطفال ضمن الهرمية الاجتماعية ونجد البعض منهم ضمن الفئات العليا. يكفي تذكر أن لاعبي كرة القدم البولونيين المشهورين الذين باتوا نجوماً فرنسيين أو عالميين، رياضيين من مستوى مرتفع، وغيرهم من أبناء المهاجرين الذين تولوا مناصب في الدوائر السياسية أو في التعليم. وهي مهن أو أدوار يتفوق فيها الكلام أو ردة الفعل أو الانتقام الاجتماعي مقارنة بالصمت المفروض على الآباء ضمن الهرمية الاجتماعية الصارمة في المناجم. نجح الكثيرون كذلك. إضافة إلى ذلك، حتى لو كانت الأجيال الأكبر سناً تظهر دائماً القليل من عدم الثقة تجاه الأجانب الآخرين، فإن الأطفال، من جهتهم، متزوجون من جنسيات مختلفة، البولونية-الفرنسية، والبولونية-الإيطالية… وهكذا جرى تنظيم التعايش، ولعل هذه العادة التي تشكلت على مدى عقود من التواصل مع الآخرين هي أن العنف الاجتماعي لا يتطور بنفس الطريقة في المناجم.
بالنسبة للمغاربة، لم يعمل منهم نخبة محترفة. وحول سؤال طُرِح عدة مرات على مستجوبين مختلفين، ما هي الإختلافات بين الجنسيات المختلفة، أجاب الكثيرون:
“الاختلافات ليست في العمل. المغاربة كانوا جيدين، ولكنهم، وعلى العكس من الآخرين، لم يقدموا نخبة محترفة”.
بالتالي، إن الفروقات، المعبر عنها في كلامهم، ليست ضمن الإختلافات الثقافية إنما في إمكانية الترقي الاجتماعي. ما هي بالضبط؟
يمكننا صياغة حجج موضوعية: من السهل تذكر أن مدة وعدد الأجيال ليست متطابقة. ويجب التذكير بالوضع الإقتصادي: جاء المغاربة في فترة من الركود الإقتصادي. يمكن لهذه الحجج تفسير هذه الملاحظة فعلياً.
ولكن يجب استحضار عناصر أخرى. يبدو بوضوح أن الدونية الإقتصادية مقترنة بالاختلاف الثقافي واقتران الهجرة بعملية بلترة.
إلى جانب الجنسيات الثابتة (البلجيكية والبولونية…) شكل المغاربة جزءاً من السكان المتنقلين، بحيث كانوا يتناوبون بشكل كبير وهم كذلك الأقل قدماً. لطالما كانت فكرة العودة حاضرة في الأذهان، حتى لو تحولت إلى وهم مؤجل لم يبصر النور في نهاية الأمر.
ارتبطت فكرة العودة هذه بالبنية الاجتماعية والعشائرية والقيم الثقافية المرتبطة بها.
ولكن العلاقات مع الهجرة، والمجتمع المضيف، والمجتمع الأصلي قد تغيرت.
أجبر المهاجر بشكل تدريجي على الدخول بمواجهة قريبة مع المجتمع المضيف. أدى إقفال المناجم ووصول العائلات إلى التعجيل بالحركة، أو على نحو أدق، لم يكن للنظام المهني للمناجم وظيفة مباشرة تؤدي إلى الاتصال بالعالم الخارجي. مع ذلك، وشيئاً فشيئاً، مع إدراكهم لضرورة الإندماج بشكل أكثر نشاطية في العالم المهني، بات المهاجرون أكثر اهتماماً بحياتهم المهنية، وأقدميتهم وحياة المؤسسة… هذا المسار يتمظهر بشكل واضح في التعلق الذي عززه العمال المغاربة بأوراقهم. وعندما يعودون اليوم إلى بلادهم، سيجدون أنفسهم أكثر كسياح أو أجانب حتى لو كان الإغراء يتكون من الاستمرار في الإعداد للعودة التي لا تتحقق في نهاية المطاف.
فأسقط المهاجر المغربي في المؤقت الدائم. وجزء كبير منهم يتشاركون زمنين وبلدين وظرفين. لا ينبغي لهذه الصورة أن تنسينا الفروقات الدقيقة الأخرى، لأن هناك درجات في العلاقات مع فرنسا.
تختلف العلاقة بالدين في عدة إتجاهات. يبتعد البعض عن هذه الممارسة: فهي إما تكون مرفوضة كليا أو جزئياً، وخاصة من خلال الأعياد التقليدية، ويمكننا في هذا الإطار ذكر التحول في الأعياد المسيحية التي فقدت محتواها الديني ولكنها تدوم في أشكال أخرى: بلدية، علمانية، وغذائية مثل الميلاد.
يتعامل البعض الآخر مع الدين كما لو أنهم يريدون التخلص من الصعوبات الاجتماعية، في حين يضع فيها آخرون المعنى السياسي، الأمر الذي يقلق المراقبون. ونحن نرى أنه لا يوجد سيناريو واحد فقط إنما العديد من السيناريوات. وإذا كنا مهتمين كذلك بأقوال العمال المغاربة فلم يكن ذلك بسبب دينهم إنما نسبة إلى بلدهم والدولة، نعتقد أن المسافة قد خلقت.
تبقى التعليقات سرية ولكن هناك مقارنات تجرى بين فرنسا والمغرب على المستوى التنظيمي، وكذلك على مستوى الإقتصاد والسياسة. إضافة إلى ذلك، وفي حين انضم البعض، وهو أمر نادر جداً، إلى النقابات، أنشأ البعض الآخر جمعيات تؤشر، من خلال مبادراتهم، على التقارب مع المجتمع الفرنسي. هذه الجمعيات المنشأة على مستوى محلي ارتبطت عادة بمشاكل ملموسة تسعى إلى حلها. وشارك آخرون في وقت لاحق فيها، إذ وجدوا في هذه البنى وسائل للتعبير والمساعدة الجماعية. نظمت المجموعة السكانية المرتبطة بعمال المناجم المغاربة نفسها في مجموعات صغيرة بشكل تدريجي، بهدف التواجد. تعلمت النساء القراءة. وشاركن في أنشطة الجمعيات مع أزواجهن، وتنظمن جماعياً، وحضرن الحلوى للاجتماعات. وعبر ذلك، اقتربن من العمل المهني وحصلن على تعويضات مهنية بسيطة. لم يمر المغاربة بالصراعات الاجتماعية التي حصلت في فترة ما بين الحربين العالميتين، إنما دخلوا في ظل علاقات اجتماعية متكاملة. وكانت الصراعات الاجتماعية التي عايشوها قطاعية ومرتبطة بمطالب معينة، ولكنها كانت نموذجية. إن إدراكهم أنهم موجودون في فرنسا الآن، ولفترة طويلة وبالتأكيد لفترة طويلة، سيدفعهم إلى المطالبة بالاعتراف وبالحصول على مكانة اجتماعية دائمة. في هذا الإطار يمكننا وضع إنشاء جمعيات مختلفة تركز على العمل الملموس على الأرض أكثر من التركيز على المطالبات المبدئية.
أخيراً، تثير الطبيعة الدائمة للهجرة مشكلة الذين لم يأتوا لكسب معيشتهم، إنما بكل بساطة للحاق بأهلهم، أي أبناء المهاجرين، من ضمنهم من ولد في فرنسا.
على الرغم من الفرص التي أتيحت لهم وما زالت متاحة للاقتراب من ثقافتهم الأصلية، فقد نشؤوا منغمسين في المؤسسات الفرنسية. وقد استوعبوا بالقوة ثقافة المجتمع الغربي. حتى لو تحدثنا عن الفشل الأكاديمي بطريقة استعراضية، فإننا في الواقع نرى نجاحات مذهلة جداً. لذلك، ليس الإفتقار إلى الشهادات هو ما يجب لومه، إنما التمزق الذي حصل في عالم العمل بين فردين من جنسيتين مختلفتين يحملان شهادات متساوية.
وتنوجد القطيعة كذلك، في ظل إنعدام التفاهم بين الأهل والأبناء. وينعكس ذلك في التجربة المعاشة التي تسمح بالحفاظ، الجزئي على الأقل، على التقاليد المرتبطة بالحياة اليومية: الطعام، الأعياد، وتنظيم الحياة العائلية، والعلاقات مع عالم الراشدين، واللغة واللهجة.
هذه هي كذلك الملاحظات التي يوجهها الأطفال للحفاظ على التمايز مقارنة بالمعايير الفرنسية خاصة بما خص السكن. إنهم يأسفون على قطع الأثاث القليلة التي اشتروها أو على مظهرها البسيط ويتجادلون باستمرار مع الأمل غير الممكن بالعودة.
إن تنظيم العائلة هو ما تضعه الفتيات موضع سؤال، خاصة في تقاسم المهام الداخلية عليهن وفي الحرية الخارجية للصبيان. وأخيراً، إن سلطة الأب، التي سقطت في العالم المهني والاجتماعي، هي التي تجعل الأطفال يرغبون بأن يكونوا أكثر مرونة.
أخيراً، اللغة هي العلامة الأكثر وضوحاً للإنقسام بين الآباء والأبناء. وهكذا، لم يعد الأولاد يتلقون بشكل سلبي العناصر المختلفة لثقافتهم الأصلية. بل على العكس. يرفضون الآن السماح لآبائهم اتخاذ القرارات نيابة عنهم، بناء على معاييرهم الخاصة، خاصة عندما يرون أخطاءهم وإخفاقاتهم منذ وصولهم إلى فرنسا. الآباء عاجزون في مواجهة استحالة نقل القيم الأساسية لثقافتهم.
إنها ليست مواجهة كلاسيكية بين الآباء والأبناء، إنما صراع يفصل بين عالمين. يتشارك البالغون والأطفال اليوم نفس العالم، ولكن الآباء اختبروا عالماً آخر عندما كانوا أطفالاً.
“مع ذلك، إن معظم الآباء أنفسهم محرومون جداً من اليقين بحيث لا يمكنهم دعم العقائد القديمة. إنهم لا يعرفون كيفية تعليم هؤلاء الأطفال الذين يختلفون جداً عما كانوه في السابق، ومعظم الأولاد غير قادرين على التعلم من أهلهم والإخوة الأكبر منهم الذين لن يكونوا مثلهم أبداً”. (109)
ما دُمج في قيمهم، بالنسبة للراشدين المهاجرين، جعل من أنماط حياتهم مفروضة بشكل قسري، وفي كثير من الأحيان مرفوضة لأنها تتعارض مع مشروع الحياة الاجتماعية.
تكمن الدراما الحقيقية في مشكلة العودة لأن الأطفال، وعلى العكس من أهلهم، لا يمكنهم الشعور بأنهم في وطنهم الأصلي، حتى لو كان من الممكن تمضية أسابيع الإجازة القليلة التي يمضونها في البلاد في المهرجانات واجتماع الأسرة والحسد لوضعهم. يلاحظ الأولاد الفجوة في التواصل الاجتماعي. لأنهم في النهاية فرنسيون.
في الواقع، إذا كان الأهل يختبرون علاقاتهم في البلد الأصلي بشكل إيجابي، فإن الأطفال يختبرونها بطريقة أكثر سلبية.
مع ذلك، إذا كان علينا ملاحظة اتساع الفجوات الموجودة بين الآباء المهاجرين الذين اكتشفوا عالماً مختلفاً بشكل جذري، ومن ناحية أخرى، الأولاد الذين يقارنون بين عالمين مختلفين، فيجب القول إن هذه المسارات ليست جديدة. يظهر الفرق في تعليم للأكبر سناً في الأسرة الإيطالية، والتعليم الأصغر أنه خلال فترة زمنية معينة يتغير الأهل كذلك وتميل السلوكيات إلى التقارب من دون الإندماج الكامل. دعونا نأمل أن يكون الأمر عينه بالنسبة للجميع.
الهوامش:
109. Mead M : Le Fossé des générations, éd. Denoël, 1971.