في عيد الطبقة العاملة : الطبقة العاملة، هل هي موجودة اليوم أم لا ؟


أحمد زوبدي
2024 / 5 / 20 - 19:22     

لا شك أن تاريخ الطبقة العاملة مليء بالانتصارات والبطولات النضالية، وكذلك الإخفاقات، خاصة في الغرب، لكن المؤسف جدا أن كل شيء ذهب في مهب الرياح والسبب هو فشل التجربة الإشتراكية وتغيير جذري في بنيات الرأسمالية فضلا عن التغيير الذي طرأ على الديموغرافيا و طبيعة العمل الذي سعى الرأسماليون إلى التأثير عليه ليخضع بشكل مطلق لرأس المال، خاصة مع ظهور ما يسمى اليوم بالرأسمالية المعرفية( capitalisme cognitif)، نتيجة الثورة الرقمية التي أدت الى تحول جذري في سلوك العامل ومهاراته وعلاقات العمال فيما بينهم فضلا عن الوضع المادي والرمزي لطبقة العمال. الرأسمالية المعرفية، خلقت، حسب البعض طبقة الكونيطاريا( cognitariat) عوض البروليتاريا، أي طبقة عاملة متعلمة، توظف المكننة والتقنية العصرية وتتقن العلوم الرقمية من خلال الممارسة والتكوين والرسكلة ( recyclage) أي إعادة التكوين والتكوين المستمر. لكن بالمقابل، الرأسمالية المعرفية بالطريقة التي وظفت أدت إلى تفكيك العمال وإلى تحطيم الروابط المشتركة وروابط التضامن والتحالف في ما بينهما، كما أدت إلى عزل العامل وتركه وحيدا في الوظيفة التي توكل له، مما جعل العامل يقوم بالأنشطة بشكل أحادي دون الحاجة إلى زملائه العمال. وهو ما نتج عنه صعود طبقة العمال المؤهلين إلى جانب طبقات الخبراء والمهندسين، المعروفون بأصحاب الياقات البيضاء ( Les cols blancs)، مما خلق فجوة كبيرة بين العمال التقليديين أو اليدويين المعروفون بأصحاب الياقات الزرقاء ( Les cols bleus)والعمال التقنيين. كل هذا أدى الى غياب تجانس في الطبقة العاملة وإلى تفكيكها. وبالتالي تم تفكيك الإطارات النقابية، أول تكتل يضمن الدفاع عن حقوق العمال.
الرأسمالية المعرفية، يقول الفيلسوف الفرنسي أندري غورز Andre Gorz ومعه الثيار الماركسي المعتدل( courant marxiste hétérodoxe)، بطريقة شبه كاريكاتورية، أن التطور الرأسمالي اليوم لا ينتج عن مقتضيات رأس المال ومنطقه المستقل، لكن عن المقاومة المنظمة ورفض الخضوع لدى العمال. وهي إشارات كبيرة ربما تفتح الباب للانتقال إلى الإشتراكية من رحم الرأسمالية في غياب شروط الثورة الأممية(التأكيد مني).
رغم ما قاله غورز، فإن ذلك لن يغير من طابع الاستغلال والتسليع والتشيؤ والاستلاب الذي تفرضه الرأسمالية.
مما يعني أن دور التقنية يمشي في تناقض صارخ مع الوظيفة التي تنبأ بها ماركس عن دور التقدم التقني الذي يقول عنه أنه سيؤدي الى تخلص الإنسان من الإستغلال وبالتالي ستصبح التقنية رهن إشارته واستغنائه عن العمل كمورد للعيش ويصبح العمل حاجة للترفيه ولتحقيق الذات مثله مثل النوم والاستجمام والسفر وكل أنشطة الوقت الثالث حاليا. طبعا لن يتحقق هذا التنبؤ الرصين إلا إذا تم تجاوز علاقات الإنتاج الرأسمالية التي تعرقل تطور القوى المنتجة لأجل نظام اجتماعي متحرر من كل قيود الاستغلال أي الإنتقال، كما يرى ماركس، من مجتمع النذرة الذي تفرضه الرأسمالية إلى مجتمع الوفرة الممكن تحقيقه في مجتمع غير طبقي تسود فيه الحرية والعدالة والمساواة، وهو ما يعبر عنه في الأبجدية الفكرية بالاشتراكية كمرحلة انتقالية إلى الشيوعية التي تتحقق فيها أطروحة صاحب البيان الشيوعي" من كل حسب قدرته إلى كل حسب حاجته ".
من جهته، يقول الفيلسوف الأمريكي جيريمي ريفكان Jérémy Rifkin، في كتابه نهاية العمل ( La fin du travail)، أن التقنية تعوض الإنسان، وهو ما أدى إلى خلق طبقة مهمشة خارجة عن سياق الإنتاج، وهي الطبقة الواسعة، وطبقة نخبة أوليغارشية تتلاعب وتسيطر على الوضع. مما ينتج عنه توسيع مساحة الفقر و العنف.
الطبقة العاملة لا توصف بالكم وإن كان الكم مهما. الطبقة العاملة تتميز بالوعي، الوعي لأجل (conscience pour soi) وليس الوعي للذات ( conscience en soi)، وهو العامل النوعي، أي وعي العمال بوضعهم كبائعي قوة العمل لنقيضهم وعدوهم الطبقي أي مالكي عوامل الإنتاج. وعي العمال أن موازين القوى والدفاع عن المصالح هي الآلية المتحكمة في العلاقة بين الطبقة العاملة والطبقة المالكة لوسائل الانتاج أي الباطرونا.
من الأسباب الرئيسية التي حالت دون تمكين الطبقة العاملة في دول الجنوب من تحقيق مكتسبات مهمة، كما عرفت ذلك الطبقة العاملة في الغرب، هو عدم وعيها بالوضع الذي تعيشه وأن من مهامها هو التنظيم ومواجهة العدو الطبقي أي البورجوازية. يقول سمير أمين بتصرف " تبلورت وتطورت البورجوازية والبروليتاريا في الغرب نتيجة تاريخ حافل بالصراعات، أما البورجوازية والبروليتاريا في الجنوب فهي نتاج الكولونيالية أي أنه لا يربط بينهما صراع. فوضعهما في البنية الطبقية وضع ذيلي إزاء البورجوازية والبروليتاريا في الغرب". وبالتالي ليس هناك بورجوازية وطنية، كما في الغرب بل هي بورجوازية كومبرادوية، كما أنه ليس هناك طبقة عاملة أو بروليتاريا بالمعنى المتعارف عليه في الأدبيات الماركسية المتداولة حيث الجهاز المفاهيمي مستمد من واقع المجتمعات الغربية.
اليوم لا وجود للطبقة العاملة على الأقل في دول الجنوب لأن النقابات التي تمثلها لا علاقة لها بالعمل النقابي الهادف. فهي نقابات الواجهة/ الفيترينا تدافع عن مصالح الذين يستولون عليها بتوظيف أذنابها وبتواطؤ السلطة.
منذ ثلاثة عقود تقريبا بدأ تفكيك الطبقة العاملة عبر مسلسل ممنهج فرضته السياسات النيوليبرالية النقيضة لاقتصاد السوق بمعناه العلمي والذي يفتح الباب لتوزيع الثروة تتوفر فيه شروط الإنصاف والعدالة الإجتماعية. السياسات النيوليبرالية توظف اقتصاد السوق المبتذل الذي تفرضه احتكارات القلة المعولمة التي تؤدي إلى تركيز الثروة في يد الأقلية المسيطرة على حساب الأغلبية الساحقة.
قامت الحكومات بوقف التوظيف وخوصصة المؤسسات العمومية التي عرفت تسريح العمال بتوصية من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. أعلنت بموزاة تفكيك القطاع العام العديد من شركات القطاع الخاص إفلاسها أو إدماجها في شركات أخرى. عرف سوق الشغل ثورة مضادة من خلال إدراج آليات متعددة لتفكيكه منها مرونة العمل والتوظيف بالعقدة، قابلية التوظيف( employabilité)، إلخ. عرف سوق الشغل أشكالا جديدة وعديدة من فئات المستخدمين منها الشغل المؤقت والشغل الجزئي والشغل غير المؤدى عنه لأجل اكتساب التجربة والمهارة والشغل/التدريب المؤدى أو غير مؤدى عنه، والشغل غير المصرح به لدى مؤسسات الضمان الإجتماعي، إلخ. وهو ما أدى إلى ارتفاع مهول في البطالة والهشاشة وتوسيع قاعدة الطبقة الرثة( Lumpen-prolétariat) وبالتالي تفاقم الفوارق الإجتماعية والفقر والتفقير وكل أشكال الإستغلال.
هذه الهجمة الشرسة على الشغل أدت إلى تفكيك نسيج الطبقة العاملة تم إلى تفكيكها نقابيا وذلك من خلال زرع الفتنة داخل مكوناتها بإرشاء قياداتها التي أصبحت خاضعة للحكومات وللرأسمال العالمي تقتات بما يغدق عليها من ريوع كأرستقراطية عمالية ( aristocratie ouvrière)، كما صنفها ببراعة لينين. الطبقة العاملة اليوم غير موجودة لأنها لا تتوفر على البنيات التنظيمية. لقد تمت تصفيتها والدليل تواجدها الهزيل بل المنعدم في العديد من القطاعات.
شكل آخر من الخطاب الرجعي أدى إلى التشويش على وضع العمال وجعلهم يفقدون الأداة الفكرية لتجاوز المأزق الكبير الذي توجد عليه هذه الفئة من الكادحين. هذا الخطاب الذي يسوق لطبقة تساهم في استغلال العمال أي الطبقة المسماة الطبقة المتوسطة. الطبقة المتوسطة( classe moyenne) التي يسوق لها من خلال أبواق البنك العالمي وصندوق النقد الدولي ومعهم اقتصاديو الماكدونالز والسوبارماركيت، على أنها الرباط أو الحزام ( courroie de transmission) الذي يخلق النمو. وهي أطروحة فاشلة، كما بينت مسارات هذه الطبقة التي تم تفكيكها أي أن الفئة العليا منها مندمجة في بنية البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج والفئة الدنيا منها تمت بلترتها( classe moyenne prolétarisée) وتحويلها إلى طبقة فقيرة. أما الفئة الوسيطة للطبقة الوسطى إياها فقد وجدت نفسها لا هي تابعة للفئة العليا ولا هي تابعة للفئة الدنيا أي أن الطبقة الوسطى المزمع أن تلعب الدور المنوط بها في نظر إيديولوجيي الرأسمالية قد وجدت نفسها مفككة ومعتلة و تبخرت وظيفتها. فشلت أطروحة الطبقة المتوسطة في المساهمة في خلق النمو لأنها طبقة غير منسجمة ولا يمكن لها أن تكون إلا كذلك.
العمال في حاجة الى تنظيم وإعادة بناء الإطار النقابي الذي يدافع عن مصالحهم. العمال اليوم عليهم أن يتمردوا على كل من يوظفهم لمصلحته ويتمردوا على أصحاب المعامل من خلال الاحتجاجات والإضرابات وإتلاف الإنتاج( sabotage de la production)، إلخ. أخذ هذه المعارك دون هوادة سيعطي الطبقة العاملة مناعة فضلا على أن الباطرونا ستشعر بالخطر وتبدأ في تقديم تنازلات، وهو ما يسمح لبلورة نواة قيادة جماعية( -dir-ection syndicale collégiale ) نابعة من القاعدة. لاشك أن الحوار أساسي لتحقيق المكتسبات، لكن الحوار لا يمكن تحقيقه إلا بتغليب كفة الصراع لصالح المستغَلين. الحوار الذي يمر في الكواليس هو حوار مغشوش ويجب رفضه جملة وتفصيلا بل فضحه بشدة.
مما سبق يمكن طرح سؤال جدير بالاهتمام وهو : هل بناء حزب الطبقة العاملة ( parti de la classe ouvrière) هو الأداة لإعادة بناء الطبقة العاملة ؟ هذا السؤال الشائك أجبت عليه في مقالتي " محاولة في نقد أطروحة حزب الطبقة العاملة : ملاحظات عامة وأولية للنقاش"، ( الحوار المتمدن، 2020/08/10).
من ناحية أخرى، أزعم أن التفكير في إعادة بناء أممية الطبقة العاملة فيه مشكل نظري وتنظيمي وعملي متعب للغاية وبالتالي فالتفكير في هذا الموضوع يقتضي أن توفر الممارسة شروط بناء النظرية حتى يتوفر البراكسيس( praxis)، كما يرى كارل ماركس. الأممية التي يمكن أن تكون اليوم في غياب طبقة عاملة منظمة وطنيا وأمميا، هي أممية الشعوب أي تحالف كل القوى التقدمية واليسارية لبناء جبهات شعبية جماهيرية وطنيا ذات أفق عالمي/ أممي لإسقاط الأنظمة الرجعية و الإمبريالية والصهيونية.
في غياب الطبقة العاملة كأداة منظمة مدافعة عن حقوقها ومساهمة بشكل قوي في التغيير الجذري الذي يطمح له كل المستغَلين، لا داعي إذن للاحتفال بعيد طبقة اجتماعية لم يبق لها وجود لأن إحياء هذه الذكرى سيكون له طابع فلكلوري وفرجوي ولا يعكس رمزية تضامن العمال وطنيا وعالميا، لنقول اليوم وبسخرية " يا عمال العالم لا تتحدوا، ناموا ولا تستيقظوا، ما فاز إلا النوم ! "( مصدر استعارة هذا الشعار : الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي).