-قلب الظلام- صراعات النفس البشرية في مواجهة الشرّ


حميد كشكولي
الحوار المتمدن - العدد: 7980 - 2024 / 5 / 17 - 03:01
المحور: الادب والفن     

لا عجب أن يُعتبر "قلب الظلام" للكاتب جوزيف كونراد من أعظم الروايات القصيرة في القرن العشرين لما تقدمه الرواية من رحلة عميقة في النفس البشرية، وتكشف عن قسوة الاستعمار وجوهره المظلم.
وقد تنوعت تسميات "قلب الظلام" لتُجسد ثراءها التأويلي، فمن "وثيقة إدانة" للاستعمار البلجيكي، إلى "رحلة ليلية" في اللاوعي، و"صورة للإمبريالية المسيحية".

تواجه القارئ تشبيهات مُثيرة، من قبيل:
• الكأس المقدسة: تُشبه رحلة البطل رحلة البحث عن الكأس المقدسة، لكن بدلًا من النور، يكشف الظلام الكامن في النفس البشرية والمجتمع.
• ملاحم غربية: تُذكّر "قلب الظلام" بملحمة "الأنياذة" لفرجيل، حيث تُروى مغامرات إنسانية تُسلّط الضوء على الظلم الاجتماعي والسياسي، واستكشاف النفس البشرية في عالم مليء بالأسرار.
• صدى من "جحيم" دانتي: تُحيل أجواء الرواية القاتمة إلى "جحيم" دانتي، حيث يُواجه البطل وحوشًا داخلية وخارجية في رحلته عبر الظلام.


وإن إحساسي بنفحات من "جحيم" دانتي يشير إلى عمق التأثير الذي تركته الرواية عليّ. لقد نجح كونراد في نقل مشاعر الخوف والوحدة والقسوة ببراعة، مما خلق تجربة قراءة مُثيرة للتفكير ومغيرة للمشاعر.
إن "قلب الظلام" رواية خالدة تتخطى حدود الزمن والمكان. فهي رحلة تأملية في النفس البشرية والمجتمع، وتُقدم نقدًا لاذعًا للاستعمار وتُثير أسئلة حول الخير والشر، والظلام والنور، في النفس البشرية.

تبدأ رواية "قلب الظلام" بانطباع خاطئ لدى القارئ، حيث تبدو كقصة عادية لبحار عائد يدعى مارلو. لكن مع تقدّم الأحداث، تتكشف طبقات أعمق لرحلة مارلو، وتتحول من رحلة بحرية عادية إلى رحلة وجودية عميقة.
تحولات مارلو:
يتحول مارلو من مجرد بحار عادي إلى حامل رسالة مهمة، تكشف عن وحشية الاستعمار وقسوة النفس البشرية، إذ يظهر مارلو في البداية كبحار عادي، لكن مع تقدّم الأحداث، نكتشف صراعه الداخلي وتأثره العميق بتجاربه. فتتحول رحلة مارلو من رحلة بحرية إلى رحلة رمزية تُجسّد رحلة الإنسان في مواجهة الظلام الداخلي والخارجي.



صرخات كورتز:
صرخات كورتز "HORRIBEL! HORRIBEL!" هي بمثابة ذروة لتجربته المروعة في قلب أفريقيا. تُجسّد هذه الصرخات الرعب من مواجهة النفس المظلمة، والدمار الذي جلبه الاستعمار.
يُمكن ربط شحوب مارلو وبُنية جسده ببوذا، مما يوحي بصفاته الروحية وبحثه عن التنوير. كما يمكن تشبيه رحلته برحلة الحج، حيث يواجه صعوبات وتجارب تُغيّره وتُنير له جوانب جديدة في نفسه وفي العالم من حوله.
تُقدم رواية "قلب الظلام" رحلة مُثيرة للتفكير تتخطى حدود القصة العادية. رحلة مارلو هي رحلة اكتشاف للنفس وللظلام الكامن في الإنسان والمجتمع.
يصف مارلو رحلته بأنها "حجٌّ مملوء بالكوابيس"، ممّا يُشير إلى أنها لم تكن رحلة عادية، بل كانت رحلة مُضنية واجه خلالها صعوبات وتجارب قاسية.
ويُؤكّد مارلو على أنّ رحلته كانت رحلة استكشاف للنفس، حيث يقول إنّه لم يكن يعرف نفسه قبل تلك الرحلة. تُشير هذه الفكرة إلى أنّ رحلة مارلو الخارجية كانت رحلة داخلية أيضًا، حيث تعرّف على جوانب جديدة في نفسه لم يكن يعرفها من قبل.
كما يُشير مارلو إلى أنّ المقر الرئيسي للشركة كان "أبعد نقطة بحرية و لحظات أولى للاختبار". يدلّ ذلك على أنّ رحلته بدأت فعليًا في هذه النقطة، وأنّ ما واجهه قبل ذلك كان مجرد تمهيد لما سيأتي.
يقول مارلو إنّه شعر بأنّه أصبح "إنسانًا آخر" بعد انتهاء الرحلة. يدلّ ذلك على أنّ رحلته قد أحدثت تغيرًا عميقًا في شخصيته ورؤيته للعالم.
يُشير مارلو إلى أنّه قد "كشف الحقيقة في أعماق الظلام". تدلّ هذه العبارة على أنّ رحلته قد ساعدته على فهم طبيعة العالم بشكل أفضل، بما في ذلك الجانب المظلم منه.
يصعب تحديد نقطة انطلاق رحلة مارلو الروحية بدقة. ففي حين تبدأ القصة برحلة بحرية عادية، إلا أنّ التحول الحقيقي لِمارلو يبدأ تدريجيًا مع تقدّم الأحداث. يُقدم مارلو وصفًا قاتمًا لمدينة "بروكسل"، حيث يشبهها بـ "مدينة موتى". يدلّ ذلك على أنّ هذه المدينة كانت تمثّل بالنسبة له بداية رحلته إلى قلب الظلام.
يُؤكّد كل ذلك وصف مارلو لشارع "بروكسل" الضيق المهجور، والأعشاب التي نمت على حواف الصخور، والسكون القاتل، على الأجواء الكئيبة التي سادت في هذه المدينة.

يُثير مشهد المرأة العجوز التي تغزل الصوف الأسود، وبجانبها قطة نائمة، شعورًا بالاضطراب والقلق لدى مارلو. قد تُشير هذه الصورة إلى الموت واللامبالاة، وهي صفات تُسيطر على أجواء "بروكسل".
تُقدم رحلة مارلو في "قلب الظلام" نموذجًا مُثريًا لتجربة إنسانية عميقة. رحلة تمزج بين الواقع والمجاز، وتكشف عن صراعات النفس البشرية ومواجهتها للظلام الداخلي والخارجي.

يُواصل مارلو وصفه للمرأتين العجوزتين في "بروكسل"، ويُشير إلى أنهما كانتا "تحرسان بوابة الظلام".
• الصوف الأسود كغطاء للنعوش: يربط مارلو لون الصوف الأسود الذي تغزله المرأتان بالموت، ممّا يُضفي المزيد من الكآبة على المشهد.
• مهمة كل امرأة: يُحدد مارلو مهمة كل امرأة:
o الأولى: تقديم الغرباء والتعرف عليهم.
o الثانية: تأمل الوجوه البشوشة والبلهاء بعينيها اللامباليتين.


يُلاحظ القارئ تكرار كلمة "داكن" بصور مختلفة في بداية الرواية، ممّا يُساهم في خلق أجواء قاتمة وكئيبة.
• دلالة اللون الداكن:
o الحزن: يرتبط اللون الداكن بالحزن والكآبة،
o الموت: يُشير إلى الموت والعدم،
o الظلام: يدلّ على الغموض والشر.

يُمكن تشبيه مارلو بفنان يخلق عالمًا جديدًا من خلال روايته.
• إعادة إبداع العالم: يُقدم مارلو رؤيته الخاصة للعالم،
• السجود أمام وثن: يُمكن تفسير ذلك كإشارة إلى إيمان مارلو بشيء ما،
• فضاء دائري: تشبه قصة مارلو دائرة،
نهر التايمز: بداية المسيل اللانهائي:
يُشبّه مارلو نهر التايمز بـ "بداية المسيل اللانهائي".
• ربط جغرافي: يربط مارلو النهر بجميع مياه العالم،
• عوالم سفلية أسطورية: يُشير إلى صلة النهر بالعوالم السفلية في الأساطير،

تُقدم بداية رواية "قلب الظلام" أجواءً غامضة وكئيبة، تُمهّد الطريق لرحلة مارلو في عمق الظلام واستكشافه للنفس البشرية.

رحلة مارلو: رحلة عبر الظلام
تشابه مع "الأنياذة":
تُشير إلى التشابه بين الأجواء الداكنة في بداية "قلب الظلام" و "الأنياذة" لفرجيل، خاصة في الكتاب السادس.
• الغابة المظلمة: يُذكر مارلو الغابة المظلمة قبل دخول "هاديس".
• عبارة "خلال الظلام": تتكرر في مسرحية وصول "أنياس" إلى "هاديس".
حارسات الظلام:
• المرأتان اللتان تغزلان الصوف: تشبهان "بيسيبل" حارسة بوابة "هاديس".
• دليله "أنياس": يُمكن ربطه بمارلو كدليل للقارئ في رحلة عبر الظلام.

يُشير وداع مارلو باللاتينية إلى ثقافته الكلاسيكية، وربما إلى ربط رحلته بأساطير العالم القديم.
مشاعر مارلو:
• الشعور بالذهاب إلى مركز الأرض: يُعبّر عن عمق وخطورة رحلته.
• تذكر الجحيم: يُشير إلى قسوة ما سيواجهه.
الاستعمار في كونغو:
• الجحيم على الأرض: تصوير كونغو كجحيم يُجسّد بشاعة الاستعمار.
• الطناجر البخارية والنباتات: رمز للآلات التي تدمر الطبيعة.
• الزنوج بالأطواق: صورة قاسية للاستعباد.
• ظلال الأشجار: تُضفي شعورًا بالكآبة والخوف.
• دائرة الجحيم المظلمة: تُشير إلى عمق الظلم والقسوة.

تُقدم بداية "قلب الظلام" تشبيهًا رمزيًا قويًا لرحلة مارلو عبر الظلام، مستوحاة من أساطير العالم القديم. رحلة تُجسّد قسوة الاستعمار وبشاعته، وتُكشف عن صراعات النفس البشرية في مواجهة الشر.


مالمو

2024-05-18