معركة الأجور.. وفرص المقاومة العمالية

طاهر الشيخ
الحوار المتمدن - العدد: 7975 - 2024 / 5 / 12 - 21:48
المحور: الحركة العمالية والنقابية     


تعزز مجموعة من الاحتجاجات العمالية بدءا من اضراب عمال غزل المحلة، وحتى تظاهرات مؤقتي شركات المياه في عدة محافظات، مرورا بتظاهر عشرات الفقراء في حي الدخيلة بالإسكندرية ضد ارتفاع الأسعار، التوقعات، باحتمال صعود جديد للنضال الطبقي، دونما التقليل من احتمال قدرة القبضة الأمنية التي تشتد وطأتها مؤخرا، بفعل عوامل اجتماعية وسياسية، على كبح جماح تحركات العمال ولو مؤقتا.

وفي السطور التالية سنحاول القاء الضوء على المتغيرات الذاتية والموضوعية التي شهدتها الحركة العمالية الفترة الماضية، وأهم العراقيل، لاستخلاص مسارات المستقبل.

متغيرات مهمة وخطاب مختلف
استقبل قسم مهم من عمال مصر العام الجاري بإضرابات في عدة مدن صناعية، كالسويس والسادس من أكتوبر والعبور، وجلها كان المطلب الرئيسي لها زيادة الرواتب والتثبيت، وهي مطالب تأتي على خلفية الانخفاض الرهيب في قيمة الجنيه والارتفاع الكبير في أسعار السلع الرئيسية.

وكانت مشاهد مظاهرات الجوعى في معارض “أهلا رمضان” سعيا وراء سلع تباع بأسعار مخفضة لافتة في عدة محافظات.

هذه الاحتجاجات الاجتماعية، الى جانب الغضب المكتوم من دور السيسي في حصار غزة والمتواطئ مع تل أبيب وواشنطن، دفعت النظام للإعلان عن حزمة اجتماعية جديدة تضمنت رفع الرواتب والمعاشات، وتثبيت لنحو 120 ألف مؤقت.

ولكن الجديد أن الحزمة الاجتماعية تزامنت هذه المرة مع خطاب سلطوي مختلف، يسعى لإقناع الجماهير، بإن النظام قرر تعويضهم عن سنوات الصبر وتحمل الصعوبات.

وفي هذا السياق، كشف وزير المالية محمد معيط عن تدفقات دولارية جديدة، وصفها السيسي بالهبرة، ستدخل البلاد الفترة المقبلة، لافتا الى أن الميزانية العامة حققت فائض أولي قدره 193 مليار جنيه في الـ 8 شهور الأولى من السنة المالية الحالية مقارنة مع 41 مليار مع نمو الإيرادات 35% مدفوعة بزيادة الإيرادات الضريبية 38.3%.

اما المتغير الثاني، اللافت، أن الاحتجاجات العمالية لم تكن بلا طائل، فحصل العمال المحتجين على مكاسب جزئية هنا وهناك، وهو أمر كان نادر الحدوث خلال العام الماضي، الذي أطلقت عليه حكومة رجال الاعمال “عام الأزمة”.

هذه العوامل وغيرها، هي التي دفعت عمال شركة غزل المحلة، صاحبة الإرث النضالي الطويل، لكي يتحدوا القبضة الأمنية ويحتجوا بعد أن فوجئوا أن العاملين بقطاع الاعمال العام، لا يسري عليهم قرار السيسي برفع الحد الادنى للأجور إلى ستة آلاف جنيه.

وقبيل يوم واحد من الإضراب وقف محافظ الغربية وسط حشد من عمال الشركة أثناء افتتاحه معرض أهلا رمضان، ليتفقد أحوالهم، فاندفع أحد العمال قائلا “ده شريط القبض بتاعي ولا اقبض سوى 3500 جنيه شهريا.. فكيف أعيش بهم؟”.

ووفقا للعمال جاء رد المحافظ “نضارتي مش معايا فمش هعرف أقرأ الشريط.. بس أنا كنت بعيش زمان براتب لا يتجاوز 37 جنيها”.

الرد كان مثار استهجان العمال.. في حين قال عامل اخر “محدش مصدق إني بقالي 25 سنة في الشركة ومرتبي لا يتجاوز 4000 جنيه”.

الغضب كان سائدا وسط عمال الشركة البالغ عددهم 16 ألف عامل، فأعلنوا الإضراب يوم 22 فبراير، رغم أجواء الإرهاب والترهيب في الشركة، ولسان حالهم يقول “مش عارفين نعيش”.

ورغم الاستدعاءات والتهديدات الأمنية التي طالت عشرات العاملات والعاملين واصل العمال الإضراب، مما اضطر رئيس الشركة القابضة للغزل والنسيج ورئيس النقابة العامة للغزل والنسيج لكي يعقدوا جلسة مفاوضات مع عدد من ممثلي العمال بحضور ممثلي الأجهزة أمنية.

وانضم إلى الإضراب عمال شركة الزيوت بأسيوط للمطالبة بذات المطلب، في حين لوح ممثلو عمال شركات قطاع الأعمال الأخرى، بالدخول في احتجاجات في حال عدم تنفيذ المطلب.

ولمنع اتساع نطاق الاحتجاجات هرع مستشار رئيس الجمهورية إبراهيم محلب الى المحلة ليخوض جولة مفاوضات جديدة اسفرت عن إصدار وزير قطاع الأعمال العام محمود عصمت قرارا يوم 29 فبراير، يتضمن استجابة جزئية برفع الحد الأدنى للدخل ليس لعمال المحلة فقط ولكن لكل العاملين بقطاع الاعمال العام الذي يبلغ تعدادها حوالي 200 ألف عامل.

ولكن هذا الانتصار الجزئي لم يكن بلا ثمن فقامت قوات الأمن، بإحالة اثنين منهم، هما وائل أبو زويد ومحمد طلبة، إلى نيابة أمن الدولة بتهمة الانتماء إلى جماعة إرهابية، ونشر إشاعات وأخبار كاذبة، كما قامت إدارة الشركة بتوجيه إنذارات بالفصل لهما بحجة الغياب بدون أذن!

عدوى الاحتجاجات تنتشر
وفيما يشبه تأثير لعبة الدينامو، ما أن انتهى إضراب المحلة حتى امتدت الإضرابات لتشمل عددًا من شركات قطاع الأعمال العام، للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى، من بينها شركة النيل العامة للطرق والكباري، التي استمر إضراب عمالها لأسبوعين قبل أن يعلقوه لإعطاء فرصة للجنة النقابية للتوصل لاتفاق مع الإدارة.

كما تقدم ممثلو عمال قطاع الأعمال بمذكرة مطالب لتطبيق الحد الأدنى للأجور على الدرجات الوظيفية طبقا لجدول الدرجات، وتعديل المواد الخاصة بإقصاء دور النقابات ومجالس الإدارات، بل إن عمال المحلة أنفسهم ينتظرون نهاية الشهر الجاري تنفيذ وعود المسؤولين برفع قيمة بدل التغذية الى 900 جنيه شهريا، والإفراج عن زملائهم.

والغلاء أيضا هو ما دفع أيضًا محصلو الفواتير بشركات مياه الشرب في أسوان والقليوبية والجيزة والمنيا إلى الاحتجاج من أجل التثبيت، إذ لا يمكنهم إعالة أسرهم بدخل متذبذب، وطالب العمال بالتثبيت وتحرير عقود عمل دائمة تضمن لهم رواتب ثابتة.

وفي القطاع الخاص والاستثماري، حيث يعمل نحو 8 ملايين عامل، والذي يشهد الاحتجاجات الأبرز، قرر المجلس القومي للأجور رفع الحد الأدنى إلى 6 آلاف جنيه أيضا، علما بأن الحد الأدنى للعاملين بالقطاع الخاص السابق بلغ 3500 جنيه فقط ولم يلتزم بتطبيقه العديد من المستثمرين، وهو ما يفتح الباب أمام معارك مهمة في الشركات، خصوصا أن القرار الجديد منح أصحاب الاعمال الفرصة للتهرب من تنفيذ القرار، بحجة التعثر، كما حرم العمال الذين يعملون في منشآت اقل من 10 عمال من أحقيتهم في الزيادة.

كما أطلقت نقابة الصحفيين حملة لرفع الحد الأدنى لأجور الصحفيين وطالبت بزيادة البدل، وهكذا توحد نضال قطاعات واسعة من العاملين بأجر خلف مطلب واحد هو تطبيق الحد الأدنى للأجور، مما يعد خطوة متقدمة للأمام.

وتنص العقود على أن يتقاضى المحصل عمولة 3% بحد أقصى 10 جنيهات للفاتورة، لكن لا يتضمن العقد أي بنود مالية أخرى لا راتب أساسي ولا بدل انتقال، سوى بند القراءات وهو 40 جنيهًا لكل دفتر قراءات، إذ يقومون بمهمتي قراءة العدادات وتحصيل الفواتير.

الى جانب ذلك فان هناك قطاعات واسعة من العمال وعلى رأسهم العمالة غير المنتظمة لن تستفيد من الحد الأدنى للأجور فهي بلا عقود ولا تأمينات، كما لن تستفيد غالبيتها الساحقة من رفع قيمة الإعانات إلى 1500 جنيه، التي تحصل عليها من صندوق الطوارئ لأنه يشترط بداية ان يكون العامل مسجل في الوزارة.

وبينما يصل عدد هذه العمالة الى 7 ملايين عامل، فلم تنجح وزارة العمل حتى اليوم سوى في تسجيل 331 ألفًا و688 عاملًا، مما يعني أن العمالة غير المنتظمة ستتعرض لأبشع أنواع الاستغلال، خصوصًا في ظل الارتفاع الرهيب في الأسعار.

ولم تلتفت الحكومة إلى مطالب نقابيين بوضع آلية محددة في مشروع قانون العمل الجديد لتسجيل العمالة غير المنتظمة، ولا إلى ضرورة تمثيلها في صندوق دعم العمالة المقترح إنشاؤه، فضلًا عن تجاهل مطالب إلغاء كل النصوص المتعلقة بشركات توظيف العمالة، التي لا تضمن أي حماية للعاملين.

وكان يُمكن لو أحيت الدولة نظام إعانة البطالة أن تحمي ظهر العمالة غير المنتظمة وقت الأزمة، فإعانة البطالة موجودة في التشريع المصري منذ عقود، ولكن قانون التأمينات رقم 148 لسنة 2019 يستثنيها منها، حتى اليوم.

كما يطالب اتحاد المعاشات برفع الحد الأدنى للمعاش الى 6000 جنيه، منطلقا من أن أموال المعاشات التي تبلغ 2 تريليون و400 مليون جنيه هي أموال خاصة بنص الدستور وأن مساواة أصحاب المعاشات مع العاملين في الحد الأدنى حق أصيل لهم وليس منحة من أحد.

ولم تقتصر الاحتجاجات على أبواب المصانع والمؤسسات بل انتقلت، الى المناطق الشعبية، حيث تحدت مجموعة من المواطنين في حي الدخيلة بمحافظة الإسكندرية يوم 15 مارس الماضي القبضة الأمنية، ونظموا وقفة رمزية مفاجئة تنديدا بالغلاء والإفقار ورفعوا لافتات كتب عليها “جوعتنا يا سيسي” و”ارحل يا عواد”، وهو ما أسفر عن القبض على عدد منهم، حسبما ذكر مكتب الإسكندرية للحماية القانونية.

حملة جديدة للأجور ضرورة
وفي ضوء هذه التطورات، تتوقع قوى عمالية وسياسية أن تتصاعد الموجة الاجتماعية خلال الشهور المقبلة، خصوصا أن الحكومة تسير على نفس السياسات المجربة على مدى السنوات العشر الأخيرة، والتي لم تؤد سوى الى المزيد من الافقار والتجويع، حسبما تشير أرقام الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء.

فإلى جانب التلويح بالجزرة (الحزم الاجتماعية الخ)، ما زال الأمن الوطني ينكل بالعمال عبر القبض على قياداتهم أو تهديدهم بالاعتقال، ومازال الإضراب مجرما، رغم أنه مباح دستوريا وقانونيا، بينما وزارة العمل تشن حربا ضروسا على النقابات المستقلة وتمنع تسجيلها، والتي كان آخرها المحاولات الحثيثة لتصفية نقابة العاملين بأندية هيئة قناة السويس.

وهي تطورات تضع على عاتق القوى السياسية والديمقراطية مهمة التدخل في هذه الصراعات والعمل على تنظيمها وبلورة مطالبها وتسييسها وتقديم الخبرة الكفاحية والدعم القانوني والإعلامي لها، ولعل من الضروري أيضا، تبني حملة جديدة للأجور، أعلنت عنها أمانات الأحزاب والنقابات قبل أسبوعين، على أن تكون بيتا للقيادات العمالية المكافحة، وتسعى بجدية لتجاوز الانقسامية الراهنة في المشهد العمالي والنقابي، وتنسق جهود كل القوى، لتطبيق القرار الأخير بزيادة الحد الأدنى للأجور إلى ستة آلاف جنيه شهرياً في جميع قطاعات العمل، وربط الأجور بالأسعار كمبدأ دائم لا يتوقف على رغبات أشخاص أو إدارات أو أصحاب أعمال.

وأخيرا.. سواء ارتفعت أصوات العاملين بأجر وتصاعد النضال الاجتماعي أو انتصرت سياسة القبضة الأمنية في تكميم الأفواه، مما قد يفتح الطريق أمام انتفاضة خبز جديدة، فالحركة الاجتماعية في أمس الحاجة لوجود تشكيل سياسي واجتماعي، يرفع راية الحرية والخبز، ويطرح سياسات بديلة منحازة للكادحين ويدعم مطالب الحركة الاجتماعية في القلب منها الحركة العمالية.