مصير فلسطين في ضوء العدوان على غزة


جلبير الأشقر
الحوار المتمدن - العدد: 7964 - 2024 / 5 / 1 - 01:36
المحور: القضية الفلسطينية     


إنها لمفارقة عظمى أن العدوان الراهن على قطاع غزة، المصحوب بتصعيد خطير للاعتداءات الصهيونية في الضفة الغربية، والذي يشكّل بلا شكّ أخطر محطة في العدوان الصهيوني الدائم على الساحة الفلسطينية منذ نكبة 1948، أن هذا العدوان الراهن يُنذر بأن يؤتي نتائج معاكسة تماماً لما آلت إليه الحرب التي دارت رحاها قبل أكثر من ثلاثة أرباع قرن. فقد أدت الولادة العسيرة للدولة الصهيونية في عام 1948 إلى اعتبارها كياناً استعمارياً فاقداً للشرعية في نظر الدول العربية، وذلك على الرغم من منح الشرعية لذلك الكيان من قِبَل منظمة الأمم المتحدة. والحال أن المنظمة الدولية كانت آنذاك تحت هيمنة كاملة لدول الشمال العالمي ذات التقاليد الاستعمارية، في حين كانت غالبية الدول الأعضاء في المنظمة اليوم، رازحة تحت النير الاستعماري، لا تمثيل لها في المحافل الدولية.
ثم جاءت الهزيمة العربية في عام 1967 لتؤدّي إلى تراجعٍ عربي عن ذلك الموقف التاريخي وقبولٍ بشرعية الدولة الصهيونية ضمن حدودها السابقة لحرب الأيام الستة، من خلال القبول بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 (22/11/1967) الذي صدر بعد مضي أقل من ثلاثة أشهر على القمة العربية التي انعقدت في الخرطوم والتي اشتهرت بلاءاتها الثلاثة، «لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض». ذلك أن لاءات الخرطوم كانت في الحقيقة متناقضة مع سياقها الداعي إلى «جهود سياسية» بهدف «إزالة آثار العدوان» من خلال انسحاب الجيش الصهيوني إلى الحدود السابقة للهزيمة.
أما منظمة التحرير الفلسطينية، فبعد رفضها الصارم للقرار الدولي عند صدوره، تكيّفت تدريجياً معه بالانتقال إلى تبنّي برنامج «الدولة الفلسطينية المستقلة» بمحاذاة الدولة الصهيونية، إلى أن قبلت المنظمة رسمياً بالقرار 242 في عام 1988، في اجتماع مجلسها الوطني المنعقد في الجزائر. وقد تبعت ذلك صفقة أوسلو في عام 1993 التي عقدها ياسر عرفات ومحمود عبّاس اعتقاداً منهما أنها سوف تؤتي «الدولة المستقلة» المنشودة، وذلك على الرغم من أنها لم تنصّ حتى على انسحاب الجيش الصهيوني من أراضي 1967، بل فقط على إعادة انتشاره فيها خارج المناطق المأهولة بكثافة عالية من السكان الفلسطينيين، كما أنها لم تنصّ على تفكيك المستعمرات، بل حتى على تجميد النشاط الاستيطاني، ناهيك من موضوعي نقض قرار ضمّ القدس الشرقية إلى إسرائيل وحق اللاجئين في العودة.
فتحت صفقة أوسلو الطريق أمام التحاق المملكة الأردنية بالنظام المصري وبمنظمة التحرير الفلسطينية في «تطبيع» علاقاتها بالدولة الصهيونية. وكان نظام السادات قد انتهز فرصة الهزيمة المصرية الثالثة الواقعة في عام 1973، التي أسماها «حرب العبور» وادّعى أنها نصرٌ، ليعقد صفقة منفردة مع الدولة الصهيونية، مستوحاة من القرار 242، استرجع بها أراضي سيناء منقوصة السيادة وبلا قطاع غزة الذي كان ملحقاً بها إدارياً قبل حرب 1967، مقابل «تطبيع» كامل لعلاقاته بإسرائيل كلّفه قطيعة مؤقتة مع سائر الدول العربية.

«الحلّ» الأفضل الذي يمكن أن ينجم عن حرب الإبادة الصهيونية الراهنة، إنما هو أسوأ بعد مما كان قائماً قبلها وأسوأ بالتأكيد مما لاح في الأفق إثر صفقة أوسلو

وبعد مضي خمسين عاماً على «حرب العبور» الساداتية وثلاثين عاماً على صفقة أوسلو، حصلت عملية «طوفان الأقصى» التي أريد بها أن تكون «حرب عبور» ثانية، وأدّت في الواقع إلى نكبة ثانية أخطر بعد من الأولى من حيث حجم الإبادة والتدمير والتهجير. وفيما كانت دول عربية أخرى قد ركبت قطار «التطبيع» في عام 2020، هي الإمارات المتحدة ومملكة البحرين والمملكة المغربية (فضلاً عن الزمرة العسكرية السودانية) تستعدّ الآن المملكة السعودية للّحاق بها استكمالاً لشروط قيام حلف عسكري إقليمي يجمع الدول الخليجية ومصر والأردن والمغرب بالدولة الصهيونية، تحت مظلّة الولايات المتحدة الأمريكية وإشرافها وفي مواجهة إيران وأي خطر آخر قد يهدّد أمن الأنظمة المذكورة ومصالح العرّاب الأمريكي.
أما فيما يخصّ المصير الفلسطيني، فإن «إعادة وضع القضية على الطاولة» التي تفتخر بها «حماس» كنتاج لعمليتها، بصرف النظر عن الكلفة البشرية الهائلة لهذا «الإنجاز» قد أدّت إلى مساعٍ دولية حثيثة، أمريكية في المقام الأول، من أجل إحياء مشروع أوسلو بصورة أسوأ بعد مما كان قبل ثلاثين عاماً، وذلك بإقامة دويلة فلسطينية كرتونية على أجزاء من الضفة الغربية ومن قطاع غزة، خاضعة لرقابة عسكرية صارمة من قِبَل الدولة الصهيونية، تمارسها هذه الأخيرة من خلال تواجد قواتها الدائم داخل الضفة والقطاع على حد سواء، ناهيك من الأراضي الواقعة تحت سيطرة الجيش الصهيوني والمستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية والتي سوف يُتاح لإسرائيل أن تضمّها رسمياً لقاء قبولها بقيام الدويلة.
طبعاً، لو أفلحت واشنطن في فرض هذا السيناريو الذي تسعى لتحقيقه، سوف يشكّل الأمر إحباطاً (مؤقتاً) لنوايا أقصى اليمين الصهيوني في تحقيق «إسرائيل الكبرى» من النهر إلى البحر. بيد أن تلك النيات كانت في جميع الأحوال أبعد منالا قبل أن تتيح «طوفان الأقصى» الفرصة أمام إعادة احتلال الجيش الصهيوني لقطاع غزة وتصعيد عملياته ومعها اعتداءات المستوطنين في الضفة. ويبقى أن «الحلّ» الأفضل الذي يمكن أن ينجم عن حرب الإبادة الصهيونية الراهنة، إنما هو أسوأ بعد مما كان قائماً قبلها وأسوأ بالتأكيد مما لاح في الأفق إثر صفقة أوسلو.
وسوف يبقى على شعب فلسطين أن يتمسّك بأرضه رافضاً التهجير «الناعم» (إغراءات الهجرة) بعد التهجير القسري، وأن يواصل النضال باستراتيجية تمكّنه من التقدّم بقضيته من جديد، بعد التراجع العظيم الذي عقب ذاك التقدم الهام الذي أحرزته القضية من خلال ذروة الانتفاضة الأولى في عام 1988، وقد بلغ التراجع الآن الحضيض. فلا بدّ للنضال الفلسطيني من أن يستهدف شقّ المجتمع الإسرائيلي سياسياً بدل توحيده من جرّاء أعمال عشوائية، وذلك من خلال إخضاع أنماط المقاومة المسلّحة الضرورية لمقتضيات العمل السياسي والجماهيري، بغية العودة إلى الظروف التي عقبت اجتياح لبنان في عام 1982 والانتفاضة الأولى بعده، عندما أخذ يصعد بين اليهود الإسرائيليين التيّار الذي سُمّي آنذاك «ما بعد الصهيوني» جامعاً بين رفض الاحتلال وتأييد برنامج نزع الصهيونية عن دولة إسرائيل لتحويلها إلى «دولة جميع مواطنيها».