اللاعقلانية الجديدة ونموذجها السياسي المتطرف


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 7594 - 2023 / 4 / 27 - 22:44
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

لم يمر وقت منذ استقلال معظم البلان العربية بعد الحرب العالمية الثانية كان عموم الناس، جماهير الشعب وطبقاته الدنيا، في أوضاع أشد بؤساً وانقساماً وانسداداً مما هي الحال اليوم. لم تكن الحياة مباحة مثلما أبيحت في سورية، وفي اليمن وليبيا، وفي مصر، وفي العراق ولبنان، وفي فلسطين. ولم تشهد مستويات الفقر الأسود التي يخبرها السوريون، ربما منذ أيام "السفر برلك"، المزامنة للحرب العالمية الأولى. ولم تكن المنظمات السياسية التي تعترض أو تمثل أصواتاً مختلفة في انكفاء وعجز أكثر من اليوم، ولم تكن الأفكار والتيارات الفكرية أبعد عن التفكير بشعب وجماهير مقهورة أكثر مما هي اليوم.
بالمقابل لم تكن اللاعقلانية الدولتية هجومية وإيجابية وقوية العزم مثلما هي في سنوات ما بعد هزيمة الثورات العربية، بدءاً من 2013. في عقود مضت، كان مفهوم اللاعقلانية يحيل إلى تأخر الوعي أو ذهنية تقليدية محافظة، أي إلى إعاقة أو نقص أو غياب. هذا تصورها عند أمثال عبدالله العروي وياسين الحافظ قبل نحو نصف قرن. اللاعقلانية اليوم ليست كذلك بحال، ليست نقصاً أو قصوراً أو غياباً، إنها مشروع متطرف، فاشي، يقوده أناس بالغو الثراء، أرستقراطيات جديدة عنصرية، مثالها السياسي هو دبي: كيان سياسي بلا سياسة، ولا حقوق، ولا نقاش عام، ولا حتى مجتمع، حداثة شيئية معممة وكلية الرقابة. عاصمة السيسي الإدارية التي تبدو خالية من البشر إلا من رجال النظام ومخابراته، ومشاريع إعادة الإعمار الأسدية التي تقوم على أنقاض أحياء مدمرة مثل ماروتا سيتي، نيوم أو ذا لاين الخاصة بمحمد بن سلمان في السعودية، هي أمثلة على هذه اليوتوبيا الفاشية التي يتشاطرها أثرياء حصينون ومحروسون جيداً. هذه اللاأماكن لا ذاكرة لها ولا تاريخ ولا بيئة، جنان لمُنعمين تحرروا من أي التزام اجتماعي حيال محكوميهم.
الجوهري في هذه الطوبى اللاعقلانية الجديدة هو لا اجتماعيتها، استغناءها عن مجتمع، أو قيامها على نموذج سياسي جديد لحكم بلا شعب. ولا نتكلم على لا عقلانية للقول إن نخب الحكم ليست حديثة الذهنية، أو لا تعرف العالم المعاصر واتجاهاته تغيره، وكيفية سير الأمور فيه. بالعكس، بهذه الدلالة التسييرية لكلمة عقلانية، نخب الحكم العربية عقلانية، وهي تعرف عن أحوال العالم من حولها وتوازنات قواه، ولها نفاذ إلى مصادر للمعلومات لا يملك ما يضاهيها أي مثقفين عقلانيين. لكنها غير عقلانية لأن نموذج حكمها بلا مبدأ شعبي، بلا مفهوم للمصلحة العامة يحيل إلى مجتمع تاريخي، وهي بالتالي غير مسؤولة أمام أي كان في البلدان المعنية، فلا تساءل عن أي جرائم ولا تحاسب على أي إخفاقات أو خسائر. هذا ما جعل بلداننا فراديس للجريمة والإفلات الدائم من العقاب.
لم يأت هذا النموذج اللاعقلاني من فراغ. فهو في الجوهر ذروة انتفاضة الأرستقراطيات الجديدة ضد الثورات العربية التي كانت أكبر تدخل للجماهير في السياسة، وعصفت ببعض القتلة الكبار، وتسببت في رعدة في أوصال الجميع. يشبه مآل ثوراتنا بصورة ما مآل ثورة فايمار الألمانية التي تغلبت على الحكم القيصري في ألمانيا، لكن واجهتها مشكلات كثيرة (عقوبات معاهدة فرساي الكاسرة للظهر، تضخم هائل وأزمة اقتصادية اجتماعية خانقة...) لم تستطع حلها، وهو ما فتح الباب لتعبئة مضادة ولصعود النازية. فكأننا بعد تحطيم الثورات العربية نحن ندخل حقبتنا النازية الخاصة.
وإلى الانتقام من الثورات، تستنفر الطوبى الجديدة تقاليد الطاعة القديمة وكره السياسة ومعاداتها، وتعمل على إنتاج الدين المسؤول، المناسب لترسيخ هذه الاستعدادات، وهذا على خلفية أزمة الإسلام المعاصر مثلما تجسدت بصور مريضة ومتوحشة في داعش والمجموعات السلفية عموماً. لكنها كذلك تخاطب متخيل حداثة أشياء لا سياسية ومضادة للسياسة، حداثة تبدو عزيزة على قلوب برجوازيات منفصلة اجتماعياً، ومثقفين معادون للديمقراطية باسم الحداثة، ويخشون هبات الجماهير ولاعقلانيتها.
ولعله في الشراكة في هذه الحداثة بلا حقوق ولا سياسة نجد السر في التطبيع المتسارع مع نظام القتل الجماعي في سورية. من وجهة نظر عقلانية تقليدية، يبدو هذا مسعى غير مثمر، لا بل مكتوب له الفشل لأن الحكم الأسدي لا يريد ولا يستطيع أن يعطي المطبعين شيئاً، ولأن قلبه في مكان، طهران، وقالبه في مكان آخر: موسكو. لكن من وجهة نظر اللاعقلانية النخبوية الهجومية، يبدو التطبيع مشروعاً عقلانياً تماماً. فالحكم الأسدي من وجهة النظر هذه بمثابة احتياطي من القدرات والوسائل التي يحتاج إليها النظام الكلي، ضرب من "طليعة مقاتلة" له، أو صانع ممكنات أمام نظرائه الطموحين، المالكين لما لا يملك من مال، لكنه المالك لما لا يملكون من أدوات قتل متمرسة ومجربة لا يزال يقطر من أيديها الدم، ولتاريخ مرموق من القتل الجماعي. بطاقتها الإبادية الكبيرة، تحل هذه الأدوات أهم مشكلة يواجهها النظام: وجود مجتمع. بقتل نصف مليون وتهجير سبعة ملايين، وتعذيب مئات الألوف، واغتصاب النساء على الحواجز والمقرات الأمنية، هذا يحل مشكلة المجتمع، المحلولة سلفاً في الإمارات عبر وفرة المال وقلة السكان ووجود العمل شبه العبودي. المشكلة نفسها يحاول حلها السيسي بضرب من "التكفير والهجرة" الخاص به: يُكفِّر المصريين الذي يعارضونه ويعتقلهم ويعذبهم، ويهاجر بعيداً عنهم إلى عاصمته المحروسة التي يشرف عليها مركز قيادة وتحكم عسكري، والوصول إليها مقيد. ويحاول محمد بن سلمان أن ينتح حداثة إماراتية في بلده، وفق النموذج المعلوم: جنة من اللامكان، بلا سياسة ولا حقوق ولا نقاش، وباسم أجنبي فوق ذلك: نيوم أو ذا لاين؛ "موقع للحالمين الذين يريدون خلق شيء جديد في هذا العالم"، بحسب ولي العهد السعودي.
ويبدو أن هذا النموذج هو ما يقرب أصحابه من دول مثل روسيا والصين، ويبعدها بقدر ما من البلدان الغربية التي لا تزال توجد فيها حياة سياسية وتفكير نقدي وحركات احتجاج ووسائل إعلام حرة، و... مجتمعات. تبدو الصين نموذجاً للمجتمع الإداري التسييري، القائم على رقابة وتحكم كليين، وإن مع ازدهار اقتصادي، يبدو أن أكثرية من الصينيين ينتفعون من عوائده. روسيا ليست كذلك: مجتمع رقابة وقمع، ونزعة توسع قومي متطرفة، لكن يجمع البلدين غياب السياسة والحريات العامة والنقاش العام، مما يبدو أنه يخلب لب أرستقراطيينا المحدثين. على أن هناك فارق لافت جداً: الانفصال الثقافي الجذري للطوبى اللاعقلانية العربية الجديدة، كأننا حيال مجتمعات بلا ذاكرة ولا تاريخ ولا ثقافة ولا حساسية خاصة، بالكاد لها لغة، وحتى هذه اللغة ليست ما يتكلم بها إداريو الطوبى ومنفذوها، يفضلون "الغلوبيش"، الإنكليزية المعولمة. لا ريب أن أزمات العرب والإسلام المزمنة تكمن وراء ذلك، لكن الانفصال الثقافي نذير مسبق بعلاقة تجاور مسلحة بين الجنان الجديدة والعوالم القديمة، إسرائيلات صغيرة مسلحة وعنصرية. ليس نموذج الصين، ولا حتى روسيا، كذلك. إنهما متأصلان في ثقافتهما وتاريخهما الخاصين، وإن بقراءات قومية متحيزة.
وإذا يضاف الانفصال الثقافي إلى الحجر السياسي وحظر النقاش والحرمان من الحقوق وشل المجتمع، فإنه يشارك عموم الشعب في الخسارة المثقفون النقديون والديمقراطيون، الذين لا يستندون إلى دول وعصبيات، ويفكرون في السياسة بمنطق مصالح عامة وطنية وشعبية. هذه أزمنة صعبة بالفعل.