الطريق


نوال السعداوي
الحوار المتمدن - العدد: 7481 - 2023 / 1 / 3 - 02:37
المحور: الادب والفن     

الطريق ... قصة قصيرة
--------------
- لا أريد أن تحبنى.. أرجوك ... أنا لست فاضلة كما تظن.
قالت هذه الكلمات ، وهى تجلس معه على شاطئ النيل، وتفصل ينهما مائدة صغيرة عليها زجاجة بيرة مثلجة وكوبان فارغان وطبق مشهيات " أورديفر" كبير.
ولم يرفع عينيه إليها .. مد يده الى زجاجة البيرة ، ملا الكوبين، ثم ناولها واحداً، وأخذ لنفسه الأخير ، وقال وهو ينظر في عينيها.. ويقرب كوبه من كوبها : " فى صحتك وسعادتك ".. وصمت قليلا ثم قال:
- سعادتنا ..
وقربت " ليلى " الكوب من شفتيها وأخذت رشفة. وسرت البيرة المثلجة في جوفها الساخن فأنعشتها ، وبددت شيئاً من ذلك الوجوم الذى كان يملأ نفسها .. والتفتت ناحية النيل وهامت نظراتها الشاردة على صفحته السوداء الرقيقة، وهى تمر بين صفين طويلين متقطعين من النور الأخضر الفاتح ، صف فوقها ثابت واضح ، وصف تحتها يهتز ويتعرج ، كلما هبت نسمه رقيقة.. وتمطت.. وتنفست .. وابتسمت. ثم قالت :
- إنني أحب الليل.
قال وهو ينظر في عينيها:
- وأنا أحبك أنت .
وضحكت.. ومالت برأسها الى الوراء.. وعاد يقول لها:
- أهكذا أصبح الحب عندك مهزلة ؟.
وضحكت مرة ثانية حتى دمعت عيناها، وكساهما بريق شديد جعلهما يشعان في الليل كفصين من الماس..
وشاركها الضحك، وهو يقاوم فى نفسه رغبة، لو أطاعها لقام من مكانه، وذهب اليها، حيت تجلس وأخذ رأسها الصغير بين يديه، وقَبل كل جزء في وجهها .. حتى عينيها. وبعد فترة صمت طويلة ، قالت له وهى تثبت فصيها الماسيين في مكر:
- وماذا أصبح الحب عندك بعد حياتك العريضة المليئة بالتجارب ؟ .
وشردت نظراته بعيداً فى الليل ، وهو يداعب شفته السفلى بأسنانه ، وتعبث أصابعه الطويلة بشعر رأسه القصير.. ثم قال بعد فترة ، وهو ينظرإليها نظرة عميقة جادة نفذت الى أعماقها :
- أصبح كل شئ..
- تعنى أنني كل شئ لك الآن ؟.
- بكل تأكيد..
- إذن فأنت تعرض علىَ الزواج..
- بكل تأكيد.
- هل أنت جاد ؟.
- كل الجد...
- أنت رجل جرئ جداً.
- لماذا؟ إن معظم الرجال يتزوجون ..
- إن الرجل الغبى هو الذى يتزوج .. والرجل الذكي يتزوج في لحظة غباء ..
وضحك.. وفرد جسمه الطويل فى استرخاء وأسند رأسه الى ظهر الكرسي. ثم قال بعد فترة صمت قصيرة ، وهو معلق بصره الى السماء:
- ماذا كنت تقصدين بأنك لست فاضلة ؟.
- أنني لست فاضلة ..
- ماذا تعنين ؟
- إنني لا أؤمن بالحب.. إن الحب هو الفضيلة الوحيدة في هذه الحياة، ولكن الرجل المؤمن بالحب يقابل امرأة لا تؤمن بالحب..
- لماذا ؟.
- لأن المرأة تبدأ الطريق وهى مؤمنة بالحب.. ثم تفقد هذه الفضيلة في نهاية الطريق.. والرجل بالعكس ، يبدأ بلا فضيلة .. ثم يجدها في نهاية الطريق.
- وكيف يكون اللقاء بينهما إذن ؟ .
وتوقفت أناملها عن دق المائدة.. وحولت عينيها عن السماء الى الماء ، وظلت تنظر في البحر الغارق في الظلام فترة ثم قالت :
- حينما تقابل امرأة فى أول الطريق ، رجلا في نهاية الطريق ، يصبح الاثنان واحداً ويتزوجان.. وحينما تقابل امرأة في نهاية الطريق ، رجلاً في أول الطريق ، يصبح الاثنان اثنين، وقد يتزوجان.. وقد لا يتزوجان.. وحينما تقابل امرأة فى
أول الطريق رجلاً فى أول الطريق ، يصبح الاثنان ثلاثة ولا يتزوجان .
- وحينما تقابل امرأة فى نهاية الطريق ، رجلاً في نهاية الطريق أيضاً ، عندئذ ماذا يفعلان ؟؟
وسكتت لتفكر .. وثبتت عينيها على كوب البيرة المثلجة، وقد تكشفت عليه قطرات صغيرة من الماء.. وأمسكت الكوب، وأخذت رشفة .. ثم نظرت اليه ، وابتسمت ثم قالت:
- يشربان البيرة فقط ..
وطافت نظراته على صفحة النيل الهادئة ، وقال هو يمسك ذقته بيده :
- وما طول هذا الطريق ؟.
- ليس له طول ثابت.. قد يكون سنة واحدة، وقد يكون عشرين سنة.. وقد يكون العمر كله .
ونظر إليها في مكر وقال:
- وكم كان طول طريقك ؟ .
- ست سنوات .. وأنت ؟ .
- لا أعرف.. انني لست فاضلا بعد.
وضحكت فى مرح.. وشاركها الضحك، ورفع كل منهما كوبه إلى فمه ..
ثم قالت ومازالت الابتسامة تضئ وجهها :
- إذن فقد سبقتك.
- إننى أحب المرأة التي تسبقني ..
- حتى ولو كانت غير فاضلة .. اننى أحب المرأة التى تقول عن نفسها
إنها ليست فاضلة ..
- ولكني لا أقول فحسب .. إنني فعلا كذلك.
- هذه الصراحة تعجبني ..
ولكنها ليست صراحة.. إنها الحقيقة المرة .
- ولماذا مرة ؟. إننى أحس في هذه اللحظة أنك أفضل نساء العالم .
- عجيب هذا المخلوق الذى اسمه رجل!. حينما تقول له المرأة إنها فاضلة ، لا يصدقها أيضاً.
- لأن المرأة تقول دائما عكس ما بها ..
- لكننى لا أشارك النساء هذه الصفة...... أقسم لك إنني لست فاضلة .. ارجوك صدقني .
- لا أستطيع أن أصدقك ..
- لماذا ؟.
- إن امرأة مثلك ، لا يمكن إلا أن تكون فاضلة .
- بل لأن الحقيقة اذا صدرت من صاحبها ، لا يصدقها الناس.
ووضع سيجارتين بين شفتيه.. وأشعلهما وناولها احداهما .. وأخذ كل منهما ينفث دخانه فى الهواء صامتا.. شاردا .. ثم مزق السكون صوته العميق الهادئ :
- ماذا قلت ؟ .
- عن أى شئ ؟.
- عن الزواج ..
- أى زواج ؟ .
- زواجنا ..
- ولماذا تريد أن تتزوجنى .. ؟.
- لأنني أحبك ..
- وهل الحب عندك يعنى الزواج ؟.
واعتدل على كرسيه ، وارتسمت على وجهه أمارات الجد الصارم
وقال:
- لا .. لا .. لا .. الحب شئ ضخم جداً ، والزواج شي تافه جداً.. ولكن لاغنى للشئ الضخم عن الشئ التافه .. الحب بلا زواج يعيش.. يعيش بقوة.. ويموت بقوة.. شهادة وفاة واحدة تقضى عليه. ولكن الحب مع الزواج لا يموت .. شهادة ميلاد واحدة تضمن له الحياة أبدا.
- تقصد الولد ..
- إنه سر الحياة ..
- لم يعد سراً مادمت قد بحت به ..
وضحكا .. وقال وهو ينظر إلى أسنانها :
- إنني أحب ضحكتك .. كأنما أرى فيها الدنيا بشمسها وقمرها ، وهوائها، ومائها ، ونهارها ،وليلها، ودفئها وبردها .. إنك تعبرين عن الحياة تعبيراً صادقاً بهذه الضحكة الطبيعية السهلة، إنني أحب الحياة عندما تضحكين.
- بدأت أظن أنك ستنظم شعراً في يوم ما ..
- ربما ..
- إذن فأنت تغريني على عدم قبول الزواج.
- لماذا ؟ .
- لأن الشاعر يقع فى حب كل النساء ماعدا زوجته..
- الشاعر فقط ؟..
وضحكت .. ومالت برأسها الى الوراء.. وأخذ يدها من فوق المائدة وقربها من شفتيه، وقبلها ، ثم قال:
- هل وافقت ؟.
- هل وافقت أنت ؟.
- على أى شئ ؟.
- على نقائصي .
- كل منا له نقائصه.
- ولكنني لا أومن بالحب..
ونظرت اليه وسحبت يدها من يده ثم قالت:
- ولكني قد أمل الحياة معك .. فأنا بطبعى سريعة الملل.
- لن تملى معى الحياة أبدا ..
- إنك مغرور جداً ..
- لست مغرورا .. ولكنها الحقيقة التى لا يصدقها الناس ، إذا صدرت من صاحبها ..
وضحكت.. ثم قالت وهى تثبت فصيها الماستين في عينيه :
- بل إنها الكذبة التى أصدقها .. أو التي أريد أن أصدقها ..
وضحكا .. وأخذ يديها الصغيرتين فى يديه.. وقبلهما، وقال لها بصوته العميق الدافئ :
- يا زوجتي العزيزة ..
ونظرت إليه في دهشة وقالت :
- بهذه السرعة ؟.
قال وهو ينهض واقفاً :
- أى سرعة ؟ ...
لقد ضعينا وقتا طويلا في الطريق .
---------------------------------------------------------------------------------
من الجموعة القصصية " حنان قليل " 1958
----------------------------------------------------