انبعاث اليسار


عبد الصادقي بومدين
الحوار المتمدن - العدد: 7404 - 2022 / 10 / 17 - 10:09
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


يعيش اليسار على المستوى العالمي انتعاشا ملحوظا بعد مرحلة خفوت تلت انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية ، انتعاش على المستوى الفكري وعلى المستوى السياسي، حيث يحقق نتائج هامة في بعض البلدان خاصة في أمريكا اللاتينية.
لقد عاش اليسار مرحلة عصيبة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية ،عاش ما يمكن اعتباره زلزالا فكريا اولا،لقد انهارت كل الطموحات والرهانات على ما سمي ب " الاشتراكية الواقعية" كانه استفاقة من حلم، وطرح كل يساري على نفسه سؤالا صادما واشكاليا : هل كل ما آمنت به من فكر وقناعات وامال مجرد اوهام؟ وزاد من حدة الزلزال اعلان منظري الرأسمالية عن نهاية الايديولوجيات والانتصار النهائي للرأسمالية.
كان يلزم سنوات لاستيعاب ما حدث وتفسيره والبحث عن مخارج فكرية وسياسية للوضع الجديد. وبدأت تطرح أسئلة حول معنى الاشتراكية اليوم؟ وهل هي ممكنة التحقيق؟ وهل النظرية الماركسية فاشلة وغير واقعية؟ وهل منهجية التحليل الجدلي لم تعد صالحة لفهم واستيعاب تطورات الواقع وتحولات التاريخ؟ ثم ما العمل؟ أسئلة إشكالية ادخلت مجمل اليسار في حيرة فكرية وسياسية ومعنوية انهزامية أمام طبول الانتصار لمنظري الرأسمالية.
كان ينبغي ان يمر وقت وتقع احداث وتطورت اقتصادية وسياسية وفكرية ليلم اليسار في عدد من البلدان قواه ويشرع في مراجعة الذات اولا ثم أساليب تفكيره ووسائل عمله. إنه الشرط الذاتي الضروري لنجاعة فعل اليسار.فالانهيار والتراجع وحتى الخفوت لا يرجع فقط للشروط الموضوعية (انهيارالمنظومة الاشتراكية كسند، قوة الخصم الطبقي وهيمنته الاقتصادية والثقافية بالمعنى الشمولي لمفهوم الثقافة، وقوة تاثير وسائله الاعلامية وتزييفها للوعي الطبقي للطبقات والفئات الاجتماعية التي يعبر عنها اليسار بكل تلويناته) ، بل ان الشرط الذاتي كان له دور في ما آل اليه وضعه. فالعاملان معا يتداخلان بشكل جدلي وانتجا وضعا هشا لليسار سياسيا وفكريا. فبقدر ما هما عاملان متداخلان للتراجع والخفوت فهما ايضا عاملان للانبعاث والحضور القوي في ساحة الفعل والتأثير فكريا وسياسيا.
ان حركة التاريخ وقوانين التحول الاجتماعي تأبى الجمود والتوقف عند نقطة واحدة في مسار التطور، فليس للتاريخ نهاية كما روج لذلك منظرو الرأسمالية واجهزتها الإيديولوجية والاعلامية ، ومنطق الصراع الطبقي يسري على المراحل التاريخية السابقة كما اللاحقة. كما أن المنطق الداخلي للرأسمالية ينتج ازمات دورية ، وخلال هذه الأزمات يبرز نقيضها كبديل.
وقد بدأ التحول من انتصار تام للرأسمالية الى انتصار نسبي او مرحلي ومؤقت مع الأزمة المالية العالمية سنة 2008 وتاثيراتها وزعزعتها لهيمنة فكرة الحرية المطلقة للسوق وما سمي باللبرالية المتوحشة، والانتباه الى أهمية دور الدولة كموجه ومنظم للسوق. وفي الأزمات الكبرى للرأسمالية يعود منظرو الرأسمالية وممثلوها السياسيون الى " سرقة" افكار اليسار لمواجهة الأزمة وانقاذ الراسمالية. هكذا بدأت بعض البلدان الرأسمالية في الحد من الحرية المطلقة للسوق ودعى الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، كممثل سياسي للراسمالية،إلى ما سماه ب " الرأسمالية الإنسانية" في اعتراف واضح لهمجية الرأسمال وطبيعته اللإنسانية.
ان استنجاد الرأسمالية ببعض افكار اليسار لحل ازماتها يخلق وضعا " معنويا" إيجابيا لدى هذا الأخير وينسف فكرة الانتصار النهائي للرأسمالية ومن ثمة نهاية اليسار كفكرة ومشروع تاريخي.
اليسار لم يمت اذن ولم ينتهي تاريخيا، والصراع الطبقي قائم ومستمر، و الرأسمالية تخلق نقيضها بالضرورة، وهذا النقيض يمثله اليسار لحد الآن ولم يفرز التاريخ بعد ممثلا اخر يقوم مقامه. هذا الاستنتاج محفز لفكر اليسار ولفعله السياسي ليعود بالتدريج لموقعه الطبيعي : مواجهة الليبرالية الرأسمالية فكريا وسياسيا وإيديولوجيا. وهكذا بدا انتعاش و انبعاث اليسار من جديد وبالتدريج في عدد من البلدان ،وتكرس هذا الانبعاث ، على المستوى الفكري، مع أزمة كورونا، فقد تبين بالملموس عجز اقتصاد السوق وحرية الرأسمال على مواجهة آثار الجائحة، واتخذ القطاع العام، خاصة في المجال الصحي، الموقع الرئيس في التصدي ومواجهة الوباء، وبدأ الرجوع من جديد الى افكار اليسار فيما يتعلق بتدخل الدولة والقطاع العمومي ليس فقط في المجال الصحي بل كذلك في المجال الاجتماعي في مواجهة آثار الجائحة على مستوى الشغل وتدخل الدولة لدعم الفئات المتضررة ، مما بين ان التحرير المطلق للسوق والخدمات الاجتماعية طريق غير سليم حتى في اعتى البلدان الليبرالية، وتكرس هذا التوجه مع أزمة الطاقة الناتجة عن النزاع الروسي الأوكراني المسلح ،وبدأ التفكير في تاميم قطاع الطاقة ولو جزئيا، وفكرة التاميم كما هو معلوم فكرة يسارية اصيلة.
ان هذا اعتبره انتصارات للفكرة اليسارية وتخلق أجواء جديدة ايجابية محفزة لليسار للعمل اكثر وبثقة اكبر في مرجعياته وتوجهاته.
عنصر آخر يساعد اليسار على الانبعاث وهو المخاض الذي يعيشه العالم لولادة عالم متعدد الأقطاب ونهاية القطب الواحد الذي قام عليه النظام العالمي منذ انهيار المنظومة الاشتراكية ، فالصراع حول المصالح والنفوذ بين الأقطاب يتيح إمكانية تخلص الشعوب من هيمنة القطب الامبريالي اقتصاديا وسياسيا ودبلوماسيا،وامكانية استثمار قوى اليسار للصراعات بين الأقطاب لكسب الدعم ضمن لعبة الاصطفافات والاقطاب.
غير ان هذه الشروط الموضوعية غير كافية لنهوض قوي وفاعل لقوى اليسار، ذلك أن الشرط الذاتي لابد أن يتوفر،اي الشرط المتعلق بوضع اليسار نفسه وأساليب عمله وخطابه السياسي.
لقد حقق اليسار انتصارات معتبرة في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية، واكيد ان من أسباب هذه الانتصارات بروز اشكال جديدة من العمل وانفتاح قوى اليسار على مكونات اخرى ليست يسارية بالضرورة وبالخصوص منها الحركات الاجتماعية المواطنة ، وخلق تحالفات واسعة بين القوى اليسارية التقليدية وقوى يسارية جديدة واخرى حليفة وتلتقي مع اليسار موضوعيا ، كالحركة البيئية والحقوقية وغيرها من الحركات المدنية . ان هذا التصور الجديد للفعل اليساري قوى من تاثيره وقادته الى السلطة في عدد من البلدان. وقبل ذلك ظهر هذا التوجه الجديد لعمل اليسار، المبني على التحالفات الواسعة، في اليونان من خلال تحالف " سيريزا " ، كما تمكن اليسار الفرنسي بتحالفه تحت اسم " الاتحاد الشعبي الاجتماعي والبيئي الجديد" والذي ضم اليسار الراديكالي ( فرنسا الابيه بزعامة ميلونشون ) والحزب الشيوعي والحزب الاشتراكي والخضر، من تحقيق نتائج جيدة في الانتخابات التشريعية الاخيرة وكان بامكانه الوصول الى الرئاسة لو عقد هذا التحالف ابان الانتخابات الرئاسية.
والدرس المستخلص من هذه التجارب الناجحة ان الوحده والتحالف بين قوى يسارية مختلفة وقوى اجتماعية او سياسية تلتقي مع اليسار ولو مرحليا هو طريق الانتصار، وان ضعف اليسار ، في جزء منه ، كامن في تشتته وادعاء كل طرف منه امتلاك الحقيقة والصواب، ومن ثمة فان تجاوز الانغلاق بل وحتى نوعا من النرجسية هي مهمة ذات اولوية في مراجعة اليسار لذاته ولاشكال عمله ، وهذا شرط أساسي للانبعاث او التطور والقدرة على التاثير الفعلي في الاحداث وتحقيق الانتصارات.