فلسطين 2021.. المقاومة الشعبية وآفاق الثورة المستمرة

تامر خرمه
الحوار المتمدن - العدد: 7119 - 2021 / 12 / 27 - 10:18
المحور: القضية الفلسطينية     


“فلسطين تتحرر”…هتاف صدحت به حناجر الآلاف في شتى أصقاع اللجوء، تزامنا مع الهبّة الشعبية لتي شهدتها أراضي فلسطين المحتلة، ردا على محاولة خلق منعطف جديد للنكبة المستمرة خلال أحداث الشيخ جرّاح بالقدس المحتلة في شهر أيار/مايو الماضي. لكن هذه العبارة كانت أكثر من مجرد هتاف، فقد تجاوزت حدودها اللفظية لتكون ترجمة عملية للإمكانية الواقعية للتحرير، والتي يمكن أن تصبح إمكانية متحققة فقط عبر مراكمة النضالات في سياق ثورة مستمرة.

سياسة الاحتلال الصهيوني لا يمكن أن تتغير على الإطلاق، حيث إن الوجود المحض لهذا الاحتلال يستند منذ البداية إلى الاستيلاء على المزيد من الأراضي العربية، واقتلاع سكانها لإحلال المزيد من المستعمرين. قرار “ضم” الضفة الغربية الذي اتخذته إدارة بنيامين نتنياهو في العام الماضي، وقيام إدارة دونالد ترامب بنقل سفارة “اليانكيز” إلى القدس بالتزامن مع تلك الخطوة، تعبير مباشر عن سياسة الإحلال التي لن تنتهي طالما بقي هذا الكيان في حيز الوجود، ما يعني بكل بساطة أن النكبة ليست مجرد حدث يقتصر على العام 1948، بل هي نكبة مستمرة لا يمكن أن تنتهي إلا بزوال الاحتلال.
النكبة المستمرة تستوجب بالضرورة ثورة مستمرة لا تنتهي إلا بتحرير كل فلسطين، هذه هي المعادلة الوحيدة التي تفرضها معطيات الواقع، لكن المشكلة تكمن في حرف مفهوم التحرير عن دلالته الحقيقية. التحرير ليس رديفا لإقامة دولة سلطوية على جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة كما يقترح البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير المغدورة، كما أنه لا يعني أيضا تحضير وجبة عشاء لأسماك البحر من جثث من يعتنقون الديانة اليهودية، كما كانت تقترح الأنظمة الشعبوية العربية، التي تخلت عن مسؤوليتها التاريخية المتعلقة بدحر المشروع الصهيوني من خلال إنشاء منظمة التحرير أساسا، لتلقي العبء على الفلسطينيين وحدهم، قبل أن يتبنى اليمين الفلسطيني شعار “يا وحدنا”، الذي يعمد إلى إخراج القضية الفلسطينية من سياقها الشعبي العربي.

التحرير قبل الدولة
تحرير فلسطين يعني بكل بساطة إنهاء الوجود المحض لما يسمى بـ “دولة اسرائيل”، وخلق مجتمع العدالة والمساواة في الأرض الفلسطينية الممتدة من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن، مجتمع تلغى فيه كافة الامتيازات العرقية وكل أشكال التفريق الديني، والاضطهاد الطبقي، هذه هي المقاربة الثورية التي سبق وأن تبنتها منظمة التحرير، قبل اغتيال ميثاقها على يد القيادة اليمينية.
تاريخيا، كانت البرجوازية هي من تتولى مهام التحرر الوطني وبناء الدولة القومية، لكن في الحالة العربية، والفلسطينية تحديدا، قامت البرجوازية بالتخلي تماما عن هذه المهمة التاريخية، والسبب باختصار يعود إلى الطبيعة المشوهة لهذه البرجوازية الطفيلية الكمبرادورية، التي تعتمد في وجودها على تحالفاتها مع الإمبريالية الأميركية أو الأوروبية أو الروسية، ما يعني أنها ليست في خندق التناقض التناحري مع المشروع الصهيوني، الذي هو، بالطبع، من أدوات الهيمنة الإمبريالية على شعوب المنطقة العربية.
التناقض الحقيقي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية هو التناقض القائم بين كافة شعوب المنطقة والمشروع الصهيوني بتحالفاته مع الإمبريالية والرجعية العربية على حد سواء، سباق التطبيع الذي تتنافس عبره بعض الدول النفطية ليس سوى إعلان صريح عن التحالف الاستراتيجي بين أنظمة تلك الدول والاحتلال الصهيوني، بعبارة أخرى، الشعوب المضطهدة هي الحليف الوحيد للشعب الفلسطيني، وليست أنظمتها التي تمارس الاضطهاد برعاية الإمبريالية العالمية، التي تمنح تلك الأنظمة ما يسمى بالشرعية الدولية.
انطلاقا من هذه الحقيقة، لا يمكن بأي شكل من الأشكال اعتبار أن إقامة دويلة فلسطينية، أو دولة شبه مستعمرة، في ظل الاحتلال، وبرعاية “الشرعية الدولية”، مرادف يمت بأية صلة لمفردة التحرير. التحرير بالنسبة لفلسطين هو بكل بساطة النقيض المطلق لوجود “إسرائيل” المحض. علاوة على ذلك، فإن استمرار السلطة الفلسطينية بالتنسيق الأمني مع الاحتلال هو دليل مباشر على تناقض البرجوازية السلطوية مع المشروع التحرري الذي يعبر عن الإرادة الحقيقية لشعب فلسطين.
عندما اندلعت هبة أيار في كافة أراضي فلسطين المحتلة، إثر أحداث الشيخ جراح، كانت الضفة الغربية هي مسرح المواجهات الأقل زخما، والسبب بكل صراحة يعود إلى وجود السلطة الفلسطينية، التي تمنح الأولوية لـ “الأمن” و”الاستقرار” على حساب استمرارية المقاومة الشعبية الهادفة إلى دحر المشروع الصهيوني.. أما بالنسبة لفصائل المقاومة، التي تعتبر نفسها معارضة لتلك السلطة، فلم تنجح في قيادة تلك الهبة، وتطويرها إلى ثورة شعبية عارمة، أو على الأقل، إلى انتفاضة ثالثة في سياق مراكمة النضالات حتى التحرير.

مقاربة سلطة رام الله في استجداء ما يسمى بـ “المجتمع الدولي” لمنح الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية لم ولن تقود إلى أي مكان. 27 سنة مضت على تأسيس هذه السلطة التي اعترفت بـ “شرعية” وجود “اسرائيل”، وكل ما شهده الشعب الفلسطيني هو مصادرة المزيد من الأراضي، وبناء المزيد من المستوطنات، وإقامة الجدار، والإمعان في محاولات تهويد القدس، ناهيك بقانون “يهودية الدولة”!

مقاومة أم ثورة؟
الثورة الشعبية هي الطريق الوحيد لتحقيق الحلم الفلسطيني، بل والحلم العربي في انتزاع الاستقلال الحقيقي عن القوى الإمبريالية، وبناء مجتمع العدالة والمساواة.. لتحقيق هذه الثورة لا بد من تجاوز مفهوم المقاومة المحصورة في إطار ردات الفعل إلى آفاق الثورة المستمرة.. المقاومة هي نتيجة طبيعية لوجود الاحتلال، لكن التحرير يستوجب تجاوزها إلى ثورة لا تنتهي إلا بزوال هذا الاحتلال، وتفكيك الدولة الصهيونية.

العام 2021 كان عام المقاومة الشعبية بامتياز، فقد نجح الشعب الفلسطيني مجددا في إثبات قدرته على مواصلة النضال، لكن لا بد من إدراك أن مصطلح المقاومة الشعبية لا يعني بالضرورة المقاومة السلمية غير المسلحة… الكفاح المسلح هو أحد الأشكال المشروعة لمقاومة أي شعب في أي مكان وزمان. أما إصرار البعض على الترويج للمقاومة الشعبية باعتبارها مقاومة سلمية بحتة من جهة، وعلى أنها “ردة فعل” تتطلب تبريرها لـ “المجتمع الدولي” من جهة أخرى، فهو إفراغ متعمد للمفردة من دلالتها الحقيقية، بل وطعنة لكافة القيم الثورية.
لذا، من الضرورة العودة إلى المفاهيم الأصيلة المرتبطة بالقضية الفلسطينية، واستخدام المفردات التي تعبر بالفعل عن إرادة الشعب الفلسطيني، كان المقاتل يدعى قبل اليوم بالفدائي، والثورة كان يتم التعبير عنها باستخدام مفردة الثورة، التخلي عن هذه المفردات والإصرار على استخدام مفردات من قبيل المقاومة والممانعة لم يكن فعلا بريئا في واقع الأمر، بل هو نتيجة لمقاربة استجداء “المجتمع الدولي” لإقامة دولة على حدود الأراضي المحتلة منذ العام 1967 فقط. المفارقة أن حتى مشروع إقامة دولة فلسطينية على أي جزء من الأراضي المحتلة مسألة يستحيل تحقيقها عبر الثورة السلمية البحتة.. هذا ما يثبته الواقع كل يوم.

لكن هذا لا يعني أن المقاومة السلمية مفهوم سلبي بحد ذاته، معطيات الواقع ومحددات الظرف الزمكاني هي ما تحدد شكل المقاومة المطلوبة، أما بالنسبة للحالة الفلسطينية على وجه التحديد فلا بد من تكامل وتناغم كافة أشكال المقاومة، في سياق الثورة المستمرة حتى إلى ما بعد زوال الاحتلال، لبناء مجتمع العدالة والمساواة. كما أن مفهوم الثورة المستمرة لا يعني بالضرورة الثورة المتصلة.. ثورة الشعب الفلسطيني اندلعت قبل تأسيس ما يسمى بدولة “إسرائيل”، ولا يمكن لهذه الثورة أن تنتهي طالما هذا الكيان يحتل حيزا من الوجود.

هبة مايو/ أيار لم تكن سوى بداية منعطف جديد من محطات الثورة الفلسطينية، حيث فرضت الأجندة الثورية الشعبية نفسها مجددا على أرض الواقع.. الفصائل الفلسطينية من جهتها باتت أمام خيارين: إما الانخراط في الثورة الشعبية المستمرة والارتقاء بها حتى التحرير، أو الارتماء في الماضي.. الشعب الذي خلق قياداته يوما ما قادر دوما على خلق قيادات جديدة، في حال فشل قيادات الماضي في تلبية طموحه.

كما أنه لا يمكن عزل الثورة الفلسطينية عن سياقها الشعبي العربي بأي شكل من الأشكال، فهذه الثورة هي جزء لا يتجزأ من حركات التحرر العربي ضد كل أشكال الاضطهاد والاستبداد والتبعية.. أما بالنسبة لـ “المجتمع الدولي” فليس بريئا جعل هذا المصطلح تعبيرا عن الدول الإمبريالية التي قامات أساسا بخلق ما يسمى بـ “اسرائيل”.. التضامن الدولي الحقيقي الذي يحتاجه الشعب الفلسطيني هو التضامن الأممي من حركات التحرر التي لاتزال تناضل ضد الإمبريالية من أجل خلاص وتحرير كافة الشعوب المضطهدة.. وفي نهاية الأمر، لا يمكن للمقاومة الشعبية الفلسطينية إلا أن تكون ثورة مستمرة حتى إلى ما بعد التحرير، حتى وإن لم تكن هذه الثورة متصلة.. أما القيادة الحقيقية للشعب الفلسطيني فهي الشعب نفسه، الذي لا يزال يثبت على أرض الواقع قدرته على انتزاع حقه في الحياة.