استبداد رفاقي. حكايتي مع الحزب الشيوعي


محمد علي مقلد
2021 / 7 / 18 - 23:45     

تعرضت أكثر من مرة لما يمكن أن يكون محاولة اغتيال أو حادثاً خطيراً.
بعد أن كلفت بمسؤولية الحزب السياسية في الجنوب تحت الاحتلال، غادرت إثرها صيدا إلى بيروت، ثم سافرت في عطلة الصيف، بعلم قيادة الحزب بل بقرار منها وبموافقتها، في رحلة سياحية على حسابي لا من ضمن تلك التي كانت مخصصة للقيادات في كل صيف مع بطاقة السفر على نفقة الحزب وإقامة على نفقة البلد المضيف في المعسكر الاشتراكي. أقفل مطار بيروت الدولي خلال وجودي في باريس. نصحني صديقي رفيق الرحلة شبيب دياب بأن أستفيد من هذه "الإقامة الجبرية". قابلت أستاذاً في جامعة السوربون وتسجلت في الدراسات العليا، وأقمت هناك وانتظرت إعادة فتح المطار. أعيد تشغيله بعد ثلاثة أشهر، لم أنتظر بل عدت في أول طائرة، تلبية لنداء داخلي وواجب نضالي. فاجأتني القيادة ب" فرمان" همايوني خلاصته إعفائي من كل مهامي الحزبية التنفيذية والابقاء على عضويتي في اللجنة المركزية للحزب، والسماح لي بقراءة محاضر الجلسة التي عقدت خلال غيابي.
استنتجت من خلال قراءتي محاضر دورة الاجتماعات أن قيادة الحزب بنت قرارها على أحلام جميلة وعلى أوهام انتصار كبير من شأنه، في نظر القيادة يومذاك، أن يغير وجه لبنان والمنطقة (انعقد ذلك الاجتماع في خريف 1983، مباشرة في اعقاب الانسحاب الاسرائيلي من الشحار الغربي ومنطقة الجبل). قضى ذلك القرار بإعادة بناء الحزب ليكون حزباً "من طراز جديد"، أي على مستوى المهام "الكبرى" التي تنتظره بعد التحرير، ولا سيما استلام السلطة في لبنان وإحداث تغيير في النظام السياسي.
لا شك في أن تقليص رقعة الاحتلال شكلت انتصاراً حاسماً للمقاومة التي كان الحزب الشيوعي بمثابة عمودها الفقري حتى عام 1985، أي العام الذي نفذت فيه إسرائيل انسحابها الثالث وتحصنت في ما كان يسمى الشريط الحدودي. لكن قرار الحزب كان يخفي أزمته الحقيقية الناجمة عن تفاقم التناقض بين نشاطه الجاد والفاعل في عملية التحرير وبين نهج النظام السوري الذي كان له في المقاومة مآرب أخرى، والناجمة أيضا عن بداية الانهيار في المنظومة الاشتراكية، والانهيار الكامل في حركة التحرر الوطني العربية. ضحايا الأزمات ليسوا في العادة من صفوف من يتسببون بها. تذكرت حكايات أمي عن الاستبداد، وتذكرت كيف داهمني الخطر والاستبداد من القاعدة الحزبية أيضاً لا من القيادة وحدها.


بيد أن أحداثا كبيرة مؤلمة تركت أثرا في حياتي الحزبية. أولها ذاك القرار"الهمايوني"، وألمه ناجم من كونه قراراً ظالماً، ومن كونه صادراً من ذوي قربى. لم تكن الأحداث الأخرى أقل إيلاماً، لكنني قاومت تلك الآلام بصبر وعناد ولم أغتبط أبدا عندما بدأ يهوي الذين اتخذوا ذلك القرار أو وافقوا عليه، واحداً بعد الآخر من برجهم الحزبي أمام ناظري، بل رحت أمسك بإيديهم لأساعدهم على النهوض من أزمة كانوا هم أيضاً من ضحاياها، بالرغم من أنني كنت أنا ضحية أزمة مزدوجة ، أزمة الحزب العامة التي أتحمل جزءاً من المسؤولية عن تشخيصها ومعالجتها، وضحية أزمة القيادة التي بدأت تخبط خبط عشواء " من تصب تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم "، على قول الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى.
في حزيران 1982 ، بدأ هجوم الجيش الاسرائيلي على لبنان ، وطلبت إلي القيادة أن أخرج من المدينة وأرسلت مرافق مسؤول المحافظة الرفيق حسن اسماعيل، الذي انتحر بعد تحرير الجنوب من الاحتلال، ليبلغني قراراً حزبياً بذلك. غادرت منزلي في مدينة صيدا مع زوجتي إلى البقاع حيث أقمت هناك شهرين، كانت زوجتي تقوم خلالهما برحلات مكوكية وتنفذ مهمات نضالية بين منزلنا ومركز وظيفتها في الرميلة شمالي صيدا ومكان إقامتي في بيت آل شمص في مدينة بعلبك. في نهاية الشهرين أبلغتني القيادة قراراً يقضي بضرورة عودتي إلى صيدا وتكليفي مهمة قيادة الحزب في الجنوب في ظل الاحتلال. زوجتي قادت السيارة ونقلتني في أول شهر آب، مثلما سبق لها أن نقلت سواي من قيادات الحزب والحركة الوطنية، من بينهم مصطفى سعد، من بعلبك إلى صيدا.
فور وصولي بدأنا بتنظيم عملنا في القيادة السياسية، ضمن الحدود الدنيا، وأول نشاط قمت به هو التحضير لاجتماع بين الشيخ محمود فرحات، الذي كان يشغل منصب المدير العام للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى والسيد محمد حسن الأمين في بيت أحد أقرباء الأول في ضواحي صيدا، هيأت له وحضره معي محي الدين حشيشو عضو قيادة الجنوب، وذلك تحضيراً لأول نشاط سياسي في مواجهة الاحتلال. أما المجموعات العسكرية ،التي كانت تخضع لتنظيم سري لا تعلم به القيادة السياسية، فقد بدأت بتجميع ما تبعثر من أسلحة وذخائر، استعداداً لتنفيذ أول عمليات المقاومة في الجنوب ضد جيش الاحتلال الاسرائيلي.
في منتصف شهر أيلول خسرنا في قيادة الجنوب أحد أبرز وجوه الحزب النضالية في مدينة صيدا، محي الدين حشيشو، ولم يكن قد مضى على تعيينه في القيادة اكثر من شهر ونصف، إذ اختطفه شباب من أبناء الحي ينتسبون إلى القوات اللبنانية، في اليوم التالي لمقتل رئيس الجمهورية اللبنانية بشير الجميل، وبات من مفقودي الحرب. أنقذني من خطف مماثل، يقظة زوجتي وجيران أوفياء شجعان أمنوا لي سبل التخفي عن أعين الخاطفين.
في تلك الليلة نمنا على حريرأخبار تفيد بنجاة بشير الجميل من الانفجار، وكان ذلك خطأ كبيراً لم يكن بإمكان أحد منا تفادي ارتكابه بسبب ضعف وسائل التواصل وتبادل المعلومات. إذ كان علينا أن نتوقع ردود فعل قواتية حتى لو لم يصب الرئيس بأذى. لكننا كنا سذجاً، أو أننا كلنا في قيادة الجنوب كنا لا نعرف عن الجانب الأمني من الحرب شيئاً، وكنا نعتقد أننا منخرطون في صراع سياسي وعسكري ولم نحسب حساباً للجانب الأخطر، أعني صراع الأجهزة ذات النفوذ القوي في كل الأحزاب، ولا تصرفت، أنا شخصياً، بما تستوجبه تلك المخاطر، معتبراً أننا كقيادة سياسية لن تطالنا مفاعيلها، لأن أعداءنا لا يعرفون عن قيادتنا السياسية السرية شيئاً، ولأن إمكانات التخفي شبه معدومة لدى موظفين معروف دوامهم ومواقيت عملهم وعودتهم إلى منازلهم.
في صباح اليوم التالي استيقظنا في السادسة إلا دقائق على صوت مذياع جوال في سيارة يدعو المواطنين إلى الالتزام بقرار صادر عن قوات الاحتلال يقضي بمنع التجول. بعد دقيقتين علمنا من إذاعة لندن أن الرئيس من بين قتلى الانفجار. أوصدت زوجتي النوافذ وأقفلت بابي المنزل، الحديدي والخشبي، وأسدلت الستائر، وخرجت لتبعد سيارتينا المركونتين أمام المبنى، حتى لا تكونا دليلاً على وجودنا في داخله، وأعلمت جيراننا في الشقة الثانية من الطابق الأرضي ذاته، أم علي صباح وأولادها، أننا لن نفتح الباب إلا لأحد أفراد عائلتها، إذا ما نبهتنا بطرقة معينة على الباب اتفقنا عليها.
في العاشرة كانت طرقة الباب ذاتها، وإذ بناصر صباح يأتينا بخبر خطف محي الدين حشيشو. منزله لا يبعد عن منزلنا أكثر من خمسين متراً. دخلت لساعتين إلى بيت نزيه الخطيب وزوجته حكمت صباغ الخطيب (المديرة السابقة للثانوية) في الطابق الأول من المبنى، وخرجت بعدها إلى بيت أحد الاصدقاء، وهناك علمت بأن بين الخاطفين شاباً من آل صافي، من سكان البناية الملاصقة، والده مكلّف من قبل أصحاب المبنى الذي أسكن في طابقه الأرضي بالإشراف على بنايتهم في غيابهم في المهجر. قصدته مساء بدافع مسؤوليتي عن رفاقي، متظاهراً بالثقة متسلحاً بعلاقة الجيرة، لأسأله عن محي الدين حشيشو، فطمأنني إلى أنه سيخضع لتحقيق بسيط وسيعود، ولامني على مغادرتي منزلي، وأكد لي أن راكبي السيارة الذين "رافقوا" محي الدين إلى "الاستجواب" طرقوا باب منزلي ولم يجدوني. خرجت على عجل من بيته قبل أن تنتهي على شاشة التلفزيون مشاهد تشييع بشير الجميل في بكفيا، وقبل أن يأتي أحد أبناء صاحب المنزل ويعتقلني.
بعد أن هدأت خواطر القوات، عدت إلى منزلي، لأعلم أن فهد الكردي، رفيق محي الدين حشيشو في النضال في صيدا، كان قد خطف هو الآخر من منزله في ذلك الصباح، وأمكن له أن ينقذ نفسه بمساعدة الصدف. في لحظة خروجه مع الخاطفين طلب من زوجته بإلحاحه المعروف ولجاجته المعهودة أن تتصل فوراً بفاروق الزعتري الذي كان نائبا لرئيس البلدية، والذي كان، بحكم موقعه الرسمي هذا، على موعد مقرر سابقاً مع الحاكم العسكري الاسرائيلي في المدينة. حين التقيا أصر على عدم البدء بالاجتماع قبل إعادة فهد الكردي. بعد أقل من نصف ساعة أعاد الإسرائيليون فهد الكردي من بين أيدي القواتيين. للأسف، لو كان فاروق الزعتري، صديق اليساريين في صيدا، على علم بخطف محي الدين حشيشو لاستخدم موقعه الرسمي، من دون شك، كمسؤول في البلدية وأعاده كما أعاد فهد الكردي.
خلال اسبوع التخفي هذا قصدنا أن يكون المنزل سرياً، لكنه سرعان ما فقد سريته بعد أقل من أربع وعشرين ساعة وتحول إلى ملتقى لأصدقاء ورفاق لي من بينهم الدكتورشبيب ذياب القادم من شمسطار مصطحباً خطيبته من النبطية ثم إلى صيدا قاصدا منزلي ثم البيت الذي أقيم فيه. في اليوم ذاته قصد منزلي في صيدا شقيقي مقلد المقيم في الضاحية، تفادياً لما يمكن أن تقوم به القوات من أعمال عنف وخطف واغتيال في بيروت، ثم عاد أدراجه حين علم بتعقيدات الظروف التي تحيط بي. تولت دنيا أمر التواصل مع رفاقي من المنزل"السري"، كما تولت مع صديق محي الدين حشيشو، الدكتور مصطفى دندشلي، الذهاب إلى بيروت لإعلام قيادة الحزب بحادثة الخطف، حيث واجهتهما أحداث أشد إيلاماً وأكثر خطورة، حين تطلّب منهما البحث عن أماكن سكن القيادات الحزبية الذهاب إلى الضاحية الجنوبية للسؤال عن أحدهم عند الرفيق ماجد مقلد. سلكت دنيا الطريق إلى الضاحية لحظة كانت تشهد أكبر مجزرة ارتكبتها القوات الاسرائيلية والقوات اللبنانية بحق الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا.

ترهيب ناعم
بعد أقل من خمسة عشر يوما أتى إلى منزلي شخص زعم أنه المسؤول الأمني في القوات اللبنانية في المنطقة، ولم يجدني لا في الزيارة الأولى ولا في الثانية. حين التقينا في الثالثة دعوت جيراني إلى مشاركتنا السهرة، عرضت أن أقوم بواجب الضيافة فيشاركني الطعام و كأساً من الخمرة، اعتذر وراح يعرض عضلاته العسكرية والأمنية مفصلا ما يعرفه عني وعن أقربائي في الحزب، ولم يظهر من كلامه أنه يعرف شيئا عن مسؤوليتي الحزبية تحت الاحتلال. ثم طلب أن نشاهد معاً فيلمي فيديو، على أحدهما صور احتفال أقيم في ملعب مدرسة الرميلة بمناسبة تخريج دفعة من القوات اللبنانية، فيه استعراض لأعمال بطولية، بل وحشية، كان ينفذها المدرب، منها شد سيارة من الخلف ورفعها بيديه لمنعها من الإقلاع، وإشعال شهاب في فمه لثوان عديدة، وتكسير زجاجة مصباح كهربائي وطحنها بين أسنانه. لم يكن ذلك المدرب سوى الشخص الجالس معنا أمام شاشة التلفزيون وقال إن اسمه سليمان الحويك. شاهدنا الشريط حتى نهايته مع تعليقات متفرقة كان يتفوه بها ليطمئننا إلى أنه لا يبحث عن حزبيين لبنانيين بل عن الفلسطينيين الذين دمروا البلد وكانوا مسؤولين عن مقتل عائلته في منطقة البترون، عند بداية الحرب الأهلية. بعيد خروجه من بيتنا اتصلنا هاتفياً بشخص نعرفه من بين الذين كانوا يحضرون حفل التخرج، وأكد لنا صحة ما شاهدناه.
ما إن بلغ الشريط الأول نهايته حتى استبدله بشريط ثان عليه تصوير حي لرحلة قام بها بشير الجميل عام 1981 عبر الجبال اللبنانية وأوقفته الثلوج عن متابعة الرحلة ليتابعها مقاتلون من القوات اللبنانية وصولا إلى زحلة، بهدف تقديم المساعدة لرفاقهم من أجل فك الحصار السوري عنها، بانتظار قدوم القوات الاسرائيلية التي كانت تخطط للقيام باجتياح تأجل تنفيذه لأسباب كثيرة إلى حزيران التالي. خلال توقف الموكب في أحد الأديرة ألقى بشير الجميل كلمة حماسية، وكانت شقيقته الراهبة أرزة بين الحضور، ولأول مرة أسمع بصوته كيف كان يريد أن يوزع اللبنانيين، الشيعة منهم إلى العراق والسنة إلى السعودية، لأن هذا البلد، لبنان، تأسس ليكون وطناً قومياً للمسيحيين. ينتهي الفيلم المصور بمشهد انفجار دبابة سورية بمن فيها بعد أن صعد مقاتل إلى برجها ورمى فيها قنبلة ثم قفز قبل انفجارها. أخبرنا سليمان الحويك أن ذاك المقاتل لم يكن سوى الزائر المقيم بيننا الذي يشاركنا مشاهدة الفيلم المصور. عندما انتهينا من الفيلمين سألته عن محي الدين حشيشو، فأجابني أن الذي حصل إنما حصل في غيابه، وأنه لو كان هو موجوداً لما سمح بذلك. حصلت تلك الحادثة في أحد الأيام من شهر تشرين الأول .
غادرنا الحويك في تلك الليلة ولم أعد أعرف عنه شيئاً، إلى أن جمعتنا الصدفة، خلال زيارة سياحية إلى تونس عام 2003، بشخص كان في عداد مجموعة من اللبنانيين توطدت علاقتنا بهم بعد أن ترافقنا في الحافلة على امتداد الارض التونسية من "بوعزيزي" شمالاً حتى الصحراء ثم صعوداً في طرق العودة على شاطئ البحر مروراً بجزيرة جربا، واستمرت تلك العلاقة حتى بعد عودتنا إلى لبنان، لنلتقي ذات مرة على عشاء في ذوق مكايل، ودارت الأحاديث بيننا عن الغرائب والعجائب في الحرب اللبنانية، فرويت لهم بعض ما حصل معي، ولم يستطع شريكنا في السهرة أن يخفي ارتباكه عند تلفظي باسم سليمان الحويك، لأنه كان على معرفة به. لكن ارتيابه وارتباكه جعلاه يتردد في إرشادي إلى عنوانه أو إلى رقم هاتفه، مع أنني لم أكن ألح في طلبي اللقاء به إلا بداعي الفضول، بعد أن طوت الأيام فصول الحرب الأهلية وباعدت بيننا وبين ذاك اللقاء بأكثر من عشرين عاماً. كنت أرغب فحسب أن نتلاقى ونتعارف تماماً مثلما حصل مع جورج كريكوريان( سيأتي الحديث عنه بعد قليل). عام 2013، اجتمعنا إلى مائدة الصديق أكرم عراوي في مطعم الدار على الروشة، وذكر أحد الرفاق الحاضرين إسم الحويك بالصدفة باعتبارهما أبناء قرية واحدة. لكن هاتين الصدفتين لم تكونا كافيتين للقاء به.
استمرينا نناضل في ظل الاحتلال في ظروف صعبة. كانت الأطر محكمة السرية، لكننا كأعضاء قيادة، كنا معروفين على المستوى الشخصي، ولم تكن تخفى عناوين معظمنا وخطوط سيرنا ومراكز عملنا ومواعيدنا اليومية الثابتة على صديق ولا على عدو. في أوائل كانون الثاني 1983، أتانا جورج كريكوريان، المقاتل في القوات اللبنانية، على عجل ليعلمنا بأن لائحة أسماء معدة للاغتيال في عدادها إسمي وإسم علي غريب وإسم فهد الكردي. لم يكن ذاك المقاتل عميلاً سرياً لنا. لم يكن يعرف سوانا، ذلك أنه كان يسكن في جوار منزل علي غريب وقضينا معاً سهرة رأس السنة السابقة، 1981، في منزل الرفيق علي على كوع الخروبة في منطقة الهلالية. هي علاقة الخبز والملح فحسب. ونقيضها أن شقيق هذا المقاتل الشهم، وهو أيضاً عضو في القوات اللبنانية، جاء إلى منزلي ذات يوم بعد أن غادرته بناء على نصيحة شقيقه، حاملاً معه منشاراً حديدياً لينشر به الباب فيسهل عليه خلع الباب الخشبي ويتمكن من السطو على محتويات المنزل. تذكرت حينها قول الفلاحين، "الأرض بتفرق بالشبر" .
تأكدنا من صحة الرواية التي حملها إلينا ذلك الشاب الخلوق، بعد أن سألنا عن فهد وأخبرتنا زوجته أنه نجا تلك الليلة بإعجوبة من محاولة اغتيال قام بها ملثمون، وأنقذ نفسه، كالعادة بفضل لجاجته واستفاقة أهل الحي على صراخه وصراخ أفراد عائلته من شرفات المنزل الموزعة على جهاته الثلاث، وفي الصباح غادر فهد إلى بيروت. هذا الرفيق الأرمني، الذي كان له فضل علي كبير في إنقاذ حياتي، أتى ذات مرة إلى سرايا المدينة في صيدا وسأل عن المكتب الذي تعمل فيه زوجتي في وزارة المالية وعرفها عن إسمه. تذكرته ، وكيف يمكن لها ألا تتذكره؟ ! وعانقته بمحبة ملؤها حفظ الجميل والود والوفاء. أما أنا فتحدثت إليه بالهاتف لكن الظروف لم تتح اللقاء به. ولست أذكر إن كنا قد سألناه عن شقيقه .
قرار الأغتيال مؤكد إذن، ولم تعد مواجهته ممكنة بالتغاضي أو بسياسة النعامة. بعد اتصال بقيادة الحزب، غادرنا أنا وعلي غريب أيضاً إلى بيروت. تدبر شقيقي عاطف أمر إقامتي في منزله في منطقة بئر العبد، إلى أن قدم لي الحاج ابراهيم أبو طعام، المنفتح بإيمانه وبأفكاره اليساريه، مفتاح شقة ملاصقة لشقة أخي في بناية الجامع، يملكها أبنه المسافر في الخليج، كنت أستخدم غرفة من غرفها بل سريراً من أسرتها للنوم فحسب، وحصلت على مفاتيح شقتين أخريين من أقاربي، كنت أنوي أن أستخدمهما كمقرين سريين للنضال.

ظلم ذوي القربى
بعد اسبوع استدعاني ثلاثة من قيادة الحزب وعرضوا علي أن أقوم بمهمة ممثل للحزب في دول عدم الانحياز في بلغراد في يوغسلافيا، وطلبوا مني أن أحضر أوراقي وجواز سفري أنا وزوجتي للسفر في أقرب فرصة، فيما كان رفيق آخر في القيادة يسعى لتأمين سفري إلى الاتحاد السوفياتي أنا وزوجتي أيضا لمتابعة علاجنا من أجل الإنجاب بعد أن حالت ظروف الحرب اللبنانية دون متابعة العلاج بانتظام في لبنان. حل الصيف ولم يتمكنوا من تأمين سفرنا إلى أي من البلدين فقررت، بالاتفاق مع قيادة الحزب، السفر على نفقتي في رحلة نقاهة بعد أن كانت زوجتي قد خضعت لعملية جراحية. سافرنا إلى المجر، وخلال وجودنا هناك أقفل مطار بيروت الدولي، فتابعنا سفرنا إلى فرنسا، وعدت وحدي دون زوجتي في أول يوم فتح فيه المطار مدارجه أمام حركة الطيران، في الأسبوع الأول من شهر كانون الثاني 1984.
هذه كانت حكاية سفري التي عاقبتني القيادة عليها وعممت على القواعد الحزبية وعلى الحلفاء تهمة تكفيري. من حسن حظي أن عقوبة التكفير في الحزب الشيوعي اللبناني لا تصل إلى حد القتل، لكنها للأسف تفعل فعل القتل المعنوي بأي مناضل، حتى لو امتلأ سجله النضالي بكل قيم الوفاء والاخلاص والتفاني والتضحية ومعانيها وأشكالها، ولم أنج من هذا النوع من محاولات القتل، حتى بعد أن انهارت هياكل الحزب القيادية كلها، إلا لأنني كنت شديد التمسك بوحدة الحزب وبتجديده وأكثر إخلاصاً لقيمه وقضيته ممن يديرون أزمته على حساب تاريخ الحزب المشرق وتضحيات مناضليه .
استقبلني الحزب بجفاء وأعفاني من كل مهامي الحزبية، لكنه أبقى على عضويتي في اللجنة المركزية، وحين لم يكن لدي ما أقوم به من واجب نضالي، طلبت من كريم مروة نائب الأمين العام أن أقوم بأية مهمة، حتى ترتيب كراسي الاحتفال، ولما أجابني بعدم الموافقة وبعدم حاجة الحزب لأي جهد مني، طلبت موافقته على العودة إلى فرنسا لملاقاة زوجتي ومتابعة العلاج معها.
قضينا ما تبقى من العام، وفور وصولي استأنفت دراستي وكتبت رسالتي الجامعية بلغة فرنسية متخلعة، تناوبت على تصحيح أخطائها اللغوية طالبة فرنسية مقيمة في المدينة الجامعية وعاملة الطباعة التي كانت تهوى الشعر وأعجبتها أشعار اللبنانيين المترجمة، كما قرأها أستاذي وأكمل التصحيح بتدقيقات وضعها بأناة وطول بال، ومنحني على أساسها شهادة الدراسات العليا.
عدنا في بداية الصيف بالسيارة، من باريس عن طريق سويسرا إيطاليا يوغسلافيا، مروراً ببلغاريا حيث التقينا ببعض رفاقنا وبحثت، وأنا في طريقي إلى الشرق نحو تركيا، عن المدينة التي كان الرفيق خليل قوصان يقيم في أحد مقراتها للراحة، وأرشدنا الرفيق محمد مرمر إلى إمكانية المعالجة بالمياه المعدنية في مدينة بورغاس على البحر الأسود، فاشترينا خيمة وأغطية من صوفيا واقمنا عشرين يوماً على شاطئ البحر الأسود كانت زوجتي تتعالج خلالها بالمياه المعدنية. خلال إقامتنا على الشاطئ عدت على طيران داخلي إلى صوفيا لأحضر لقاء جماهيرياً مع الرفيق جورج حاوي في إحدى القاعات الكبرى في المدينة. بعدها غادرنا عائدين إلى بيروت ووصلنا عن طريق سوريا في أوائل آب 1984، بعد أن كانت العملة اللبنانية قد بدأت مسيرتها الهابطة.
تيسر لي أن أقيم في بيروت، وكان الجنوب لا يزال تحت الاحتلال، في شقة وضعها تحت تصرفنا أبو علي محمد علي الشامي، أحد أقاربي وزوج السيدة عزيزة خالة دنيا، في حارة حريك، واستمرت إقامتنا فيها حتى نيسان من العام التالي، موعد انسحاب القوات الاسرائيلية مما تبقى من الجبل ومن الجزء الأكبر من أراضي الجنوب، بما فيها صيدا مقر إقامتي وجرجوع مسقط راسي ومكان إقامة أهلي وأهل زوجتي. خلال إقامتي في بيروت، قرر الحزب أن يتراجع شكلياً عن الحظر الذي فرضه علي والحرم الذي رماه على علاقاتي الحزبية، وأوكل إليّ العمل مع الأستاذ حبيب صادق، "مسؤولاً باسم الحزب عن أهم مؤسسة ثقافية في لبنان" بحسب تعبير كريم مروة، وذلك تسويغاً للقرار. غداة الانسحاب الاسرائيلي من مدينة صيدا، عدت إلى منزلي في صيدا بعد استشارة أحد قياديي الحزب، جورج بطل، لأفاجأ بعد أسبوعين باستدعائي إلى بيروت والتحقيق معي بتهمة التخلي عن مهمتي كمسؤول عن المجلس الثقافي وحبيب صادق .
نعم ! تخيلوا! وكلما ذكرت حبل الاستجواب الطويل ألوم نفسي على هذا النفس الأطول من كل استجواباتهم وارتباكاتهم، الذي جعلني أتحمل كائنات في القيادة الحزبية وأطراً وآليات بيروقراطية وتسلطية لا تحتمل. انتهى الاستجواب بمطالبتي بكتابة مطالعة رددت فيها على التهم الموجهة إلي من القيادة، وهي كلها تهم تكفيرية لأنها تتعلق بتمرد مزعوم على أوامر القيادة، حصل أول مرة عند خروجي من صيدا في أول أيام الاجتياح من غير إذن وهي تهمة باطلة،لأنني خرجت بقرار من علي العبد أبلغني إياه مرافقه حسن اسماعيل، وخرجنا معاً في موكب واحد عبر الشوف وعاليه وصولاً إلى شتورا ثم إلى بعلبك؛ ثم تكرر ثانية عند خروجي من صيدا إلى بيروت بعد قرار القوات اللبنانية باغتيالي، وهي باطلة أيضاً لأنني خرجت بقرار من القيادة التي عملت على تكليفي ممثلاً لها في دول عدم الانحياز؛ وثالثة عند سفري إلى فرنسا من دون إذن القيادة، وهي باطلة لأنني سافرت بعد موافقة الياس عطالله الرجل القوي في الحزب في حينه؛ ورابعة حين عودتي متأخراً شهرين إلى بيروت من فرنسا، وهي باطلة لأنها تهمة بالتأخر فحسب هذه المرة؛ وخامسة عند مغادرتي بيروت إلى صيدا بدون قرار مركزي وهي باطلة أيضاً وأيضاً لأنني فعلت ذلك بموافقة جورج بطل. كنت خلال الاستجواب الشفهي، كلما دحضت رواية وتهمة ينتظر "المحقق" أسبوعاً ليدقق مع"الراسخين" في علوم الأمن" في صحة أقوالي"، ثم يعود إلي بالتهمة التالية، وهكذا دام التحقيق شهراً ونصف الشهر، في كل اسبوع جلسة. تذكرت حكاية الذئب والحمل.
لم أذكر أسم"المحقق" حتى الآن احتراماً لقامته الثقافية والأدبية. حين تردت حالة الحزب وانقلبت المقاييس والمعايير وغلبت على الفكر الأوهام، أوكلت المهام السياسية لمسؤولي الفصائل العسكرية بعد تنحية القيادات السابقة عن مهماتها. صار "التحقيق" من مهمات كريم مروة، أحد أعضاء القيادة التاريخية. بعد مرور سنوات على التحقيق منحني الرفيق كريم شرف تقديمه وتكريمه بمناسبة إحدى إصداراته. قلت في كلمتي إنه خلال أربعين سنة من عمله في المكتب السياسي لم يصدر كريم مروة سوى كتابين، لكنه خلال عقدين من تقاعده التنظيمي الطوعي أصدر عشرين كتاباً. حسناً فعلوا حين فتحوا له طريق التقاعد، مثلما صنعوا جميلاً معي من غير أن يقصدوا حين اتخذوا ذاك القرار الهمايوني ومن حسن حظي أن اختيارهم وقع عليه هو بالذات كمحقق.
لست أعلم ما الذي حل بالمطالعة التي ذكرت فيها الوقائع الدامغة بأسماء القياديين المعنيين بشأني وبالتواريخ المتعلقة بقرارات علمت لاحقاً أنها كانت تتخذ من قبل أفراد لا من قبل هيئات، ولهذا لم تكن القيادة كلها على علم بها ولهذا كان يستمهلني "المحقق" ويؤجل المحاكمة أسبوعاً وراء أسبوع. وحين سألته عنها، بعد انقضاء وقت طويل، تفاجأ وضحك "من قلبه"، وتساءل، "عن جد؟ هل حصل هذا حقاً؟" أغلب الظن أن المطالعة أهملت ولم يتكرم أحد بقراءتها، لأن القيادة كانت مشغولة بأمور التحضير للمؤتمر الخامس، وبكيفية التخلص من "أثقال" لصقت بالقيادة في ظروف مختلفة، و لم تعد قادرة على تحمل موجبات مرحلة جديدة ولا على الاضطلاع بمهمات قيام حزب من طراز جديد، ولا هي قادرة في نظرهم على تأمين متطلبات "المرحلة الوطنية الديمقراطية".
بعد عودتي إلى صيدا اتصل بي مسؤول قيادة الحزب في الجنوب، وكنا معا في هيئة قيادية واحدة قبل الاجتياح، طالبا مني التعاون. أبديت استعداداً، وإذ بأوساط في القيادة لا تكتفي بالاعتراض فحسب على مبادرته، بل هي قررت خلافاً للنظام الداخلي في الحزب، أن تستبعدني عن اجتماع اللجنة المركزية، بعد أن كانت تنوي تشكيل لجنة مركزية جديدة قبل عقد المؤتمر وأن تعقد لها أحد اجتماعاتها تحت إسم"الاجتماع الاحتفالي للجنة المركزية"، ولم نعرف أي احتفال كانوا يقصدون وأية مناسبة اختاروا لذلك. دعاني أحمد بدر الدين، مسؤول المحافظة، إلى حضور ذلك الاجتماع، ولم يكن على علم بقراراتهم، وحين وصلنا إلى مقر الاجتماع دبر المسؤول حجة لتوجيهي إلى مكان آخر. غير أن الأمور لم تستمر على هذا النحو، إذ قررت القيادة تأجيل انفجارها من الداخل بعد اتفاقها على تسوية بين المتنازعين تقضي بإبقاء القديم على قدمه في المؤتمر الخامس، إلى أن جاء المؤتمر السادس وكانت تسوية أخرى قضت بالمحافظة على قديم اللجنة المركزية مع توسيعها بأعضاء جدد وبلجنة رقابة مالية مركزية ومحكمة دستورية ليشارف عددها على ما يقارب المئة. اقتصر دوري في الحزب على عضوية في اللجنة المركزية من دون مهمات، ما وفر لي الكثير من الوقت لكتابة اطروحتي للدكتوراه في مهلة قياسية.


رب ضارة نافعة
عام 1984 ، منحتني جامعة السوربون شهادة الدراسات العليا في الأدب، وبات بإمكاني أن أكتب الأطروحة خلال عامين أو ثلاثة، متحرراً من الدوام الإلزامي في الجامعة. عدت إلى لبنان في صيف ذلك العام وأقمت في بيروت حاملاً معي كتاباً عن الحرب اللبنانية كان قد صدر في فرنسا عنوانه كرة الثلج ، للصحافي شيمون شيفر، حملته فور وصولي إلى جهاد الزين في جريدة السفير ليرشدني إلى من يتبنى نشره، فعرض أن ينشر فصلا من فصوله في الصفحة التي يرئس تحريرها. بسرعة قياسية سلمته النص المترجم، لكنني فوجئت بعد تأخر النشر أكثر من شهرين، بترويج إعلامي يبشر بنشر الكتاب كله باللغة العربية في إحدى الدور. بعد يومين على نشر ترجمتي في السفير، اتصل بي الصديق زكي عاصي مدير مركز الإنماء القومي، المؤسسة الثقافية الإعلامية التي أنشأها مطاع صفدي. زرت مقرها في اليوم التالي واجتمعت بصاحب المؤسسة وعرض علي أن أترجم الكتاب كله في مهلة لا تتعدى المهلة الموعودة لنشره في الدار الأخرى، على أن يرسل النصوص المترجمة تباعاً وينشرها في إحدى الصحف الكويتية (علمت لاحقاً أنها القبس).
لست أذكر قيمة العرض آنذاك، كان علي أن أراه عرضاً سخياً، أيا تكن قيمته، لأن قيمة الليرة اللبنانية أخذت بالانخفاض، وصارت رواتب الموظفين تخسر كل شهرين أو ثلاثة نصف قيمتها، إلى أن بلغت على منعطف العامين 1987-1988 ،أي خلال ثلاثة أعوام، أقل من راتب عاملة المنزل في أي بيت لبناني(بين 50 و100 دولار شهريا). أنجزت الترجمة بالسرعة المطلوبة ولم أحصل على نسختها المنشورة. كان ذلك أول عهدي بالنشر ، ولم تكن عبارة الملكية الفكرية تعني لي شيئاً، ولست أعلم ما إذا كان مركز الإنماء القومي سينشرها باسمي أو باسم سواي. ما كان يهمني هو أن أمرّن قلمي على الكتابة، ولا سيما على الترجمة التي أكسبتني الإقامة في فرنسا، في ذلك العام، ثقة الخوض في غمارها، بعد أن كنت قد أقدمت بجرأة على كتابة رسالتي للدراسات العليا باللغة الفرنسية، دون المرور بكتابة النص العربي، على عادة أمثالي من الطلاب اللبنانيين، خريجي المدارس الرسمية، الذين كانوا يتابعون دراساتهم الجامعية في فرنسا، ويوكلون إلى بعض المتمكنين باللغتين أن يترجموا لهم الأطروحات من العربية إلى الفرنسية .
ما إن انتهيت من ترجمة الكتاب حتى عرض علي صاحب الدار أن أعمل في قسم الصحافة داخل المركز، فصرت أكتب أربع مقالات في الاسبوع، ترسل كلها بالفاكس(كان ابتكاراً حديثاً في حينه) إلى القبس الكويتية، إلى جانب مقالات عديدة أخرى كان يحررها كتاب وصحافيون محترفون. خلال أشهر صرت كاتباً صحافياً متمرساً، وصار مطاع الصفدي يختار بعض مقالاتي وينشرها باسمه المستعار "المراقب العربي".
خلال عامين امتهنت الترجمة. بدأت بمقالات وأبحاث كان مركز الإنماء القومي ينشرها في مجلته الدورية، الفكر العربي المعاصر، ثم بكتاب لعالم الاجتماع ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، وقد نقلته إلى العربية عن ترجمة فرنسية للنسخة الإنكليزية، سرتني إشادة الدكتور رضوان السيد بها في مقالة له في جريدة الحياة، لأنه فضلاً عن قيمته الأكاديمية والعلمية، يجيد الألمانية؛ وبكتاب آخر للأستاذ التونسي عبد الوهاب بوحديبة، عنوانه الجنسانية في الإسلام ونشرت ترجمته في تونس ولم أحصل على نسخة من الترجمة إلا بعد سنوات عديدة، وهي نسخة فتحت لي الباب على دار جديدة للنشر صاحبها سالم زريقاني المثقف الكبير والناشر الأنيق الذي دعاني لأتابع عنده ترجمة إصدارات مختارة من الفكر العالمي، كان أبرزها كتاب، المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني، والجزء الأول من كتاب العوسج الملتهب وأنوار العقل، لجان غريش، والذي استكمل ترجمة أجزائه الباقية عز العرب لحكيم بناني؛ إضافة إلى مجموعة من الترجمات لم يسعف العمر مطاع صفدي لينشرها. بعد وفاته عرض سعود المولى نشرها، فاستلم المخطوطات ثم أضاعها.
في ربيع 1985 تحررت مدينة صيدا من الاحتلال وعدت إلى السكن في منزلي في عبرا، وإلى مزاولة عملي في التعليم في ثانوية صيدا الرسمية للبنات، وواظبت على القيام بمشوارين إلى بيروت كل ثلاثاء وخميس من كل أسبوع في العاشرة صباحا وأعود في الثانية بعد الظهر، ضمن الوقت الذي يسمح لي به دوامي في التعليم، لأكتب في مقر مركز الانماء القومي مقالتين في كل مشوار. استمر الدوام على هذه الحال إلى أن توقفت، لأسباب كنت أجهلها، عملية الضخ المنتظم للمقالات بين المركز والقبس. عندها عرض علي مطاع صفدي أن أتابع عملي في مركزه لكن في مجال الترجمة. كنت مستعداً للقبول بأي فرصة عمل وبأي عرض، نظراً لتدهور قيمة رواتبنا في الوظائف الرسمية. غير أن لعملي خلال تلك السنوات في مركز الإنماء القومي فضلاً كبيراً عليّ لأنه هو الذي نقلني من حقل الثقافة الشفوية على المنابر أو في قاعات التدريس إلى الكتابة، ومنحني الفرصة لأكون كاتباً وصحافياً ومترجماً في الوقت ذاته، كما منحني فرصة أخرى لا تقل أهمية، إذ بقي اسمي محفوظاً في قائمة النشطاء والعاملين في الحقل العام، تعويضاً عن الحظر الذي فرضته القيادة الحزبية على نشاطي الحزبي.
في حزيران 1986 برمجت دوامي الصيفي بشكل صارم، من الثامنة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهراً، على أن أكتب من الأطروحة خمس صفحات يومياً، على امتداد 100 يوم. في نهاية الصيف أنجزت كتابتها باللغة الفرنسية. كلما أنهيت فصلاً من فصولها أو ملزمة من ملازمها، يكون الدكتور ابراهيم عاصي، استاذ الأدب الفرنسي في الجامعة، على موعد لاستلام النص وإعادة قراءته وتصحيحه لغوياً، وتكون ابنة جيران الرضا، إيمان صباح الموظفة في الجامعة اليسوعية، في انتظاري لطباعته. انتهى الصيف وانتهيت من كتابة الأطروحة ومن طباعتها. أرسلتها مطبوعة، كلها دفعة واحدة، خلافا للآليات المتبعة التي تقضي بأن يطلع الأستاذ المشرف على الفصول ويجيز للطالب متابعة الكتابة أو القيام بالتعديلات اللازمة. حملها صديق العمر د.غازي اللقيس إلى أستاذي في السوربون. سافرت إلى فرنسا بعد أقل من شهر، ليقابلني أستاذي بعرضه السخي ذاك. قدمت إليه الطلب بتحويلها إلى دكتوراه على النظام الجديد وعدت أدراجي إلى لبنان، منتظراً أن يأتيني من أستاذي خبر، بعد أن يعرضها على قراء آخرين ويحدد لي موعداً للمناقشة .
في شباط من العام 1987، كنت في اجتماع للجنة المركزية عقد في منطقة عرمون أو بشامون، أعلمت كريم مروة بموعد سفري، وغادرت إلى باريس لمناقشة أطروحة الدكتوراه أمام لجنة تشكلت من أربعة مستشرقين، فرنسيين ومصري ومصرية. في اليوم التالي لوصولي قرأت على لوحة الإعلانات في السوربون إعلاناً عليه أسماء اللجنة ذاتها التي ستناقش رسالتي، ويتعلق بالتئامها بعد اسبوع لمناقشة رسالة أخرى. اغتنمت الفرصة وحضرت وطلبت إليهم، في نهاية المناقشة، أن يتفقوا على موعد. فتحوا مفكراتهم واتفقوا على الثلاثين من آذار. في الأول من نيسان حجزت بطاقة العودة إلى لبنان.
في غيابي بدأت سلسلة الاغتيالات التي طالت رموزاً في الحزب، من بينهم شيخنا أبو نزار، حسين مروه، والطبيب الصديق لبيب عبد الصمد وآخرون. بدأ "الرفاق" الأعزاء حملة تشهير منظمة اتهموني فيها بأنني سافرت من غير إذن الحزب وبأن سفري كان مقصوداً بدافع الهرب من الظروف الصعبة. هذا ما قصدته في قولي إن الحزب حرمني من مباركته شهادة الدكتوراه، أو أنها بدت كأنها ضد إرادته. صرت أفهم ماذا يفعل القهر بالبشر.
سلوك القيادة جعلني أكثر عناداً وإصراراً على تعلقي بالحزب وقضيته. اتجه تفكيري نحو البحث عن أسباب ما حصل، واستبعدت أي ردة فعل سلبية ضدها أو ضد الانتماء إلى الحزب. لكنني أخفيت خلف هدوئي الظاهر غضباً لم يهدأ إلا بعد انقشاع الغبارعن الحقائق. فقد أفادني استبعادي من المهام اليومية كثيراً لأنه جعلني أنظر إلى سلوك الحزب عن بعد، ومكنني من قراءة تجربتنا بعين نقدية. بدوت أكثر ممن اتهموني تمسكاً بيساريتي، وأكثر احتراماً لنضال الحزب وتضحياته ممن راحوا يساومون على تلك التضحيات مع النظام السوري وأدواته المحلية.
صمدت أمام الهجوم التكفيري المنظم واتهامي بالردة (الردة بالمعنى الديني) وعلى الهجوم التشهيري الشنيع، وذلك بمضاعفة نشاطي في العمل العام، من خلال سعيي الدؤوب لإقامة تجمع للأندية والجمعيات في الجنوب، ومشاركتي في محاضرات وندوات على مختلف المنابر وفي مختلف المؤسسات التربوية والثقافية والاجتماعية، فصرت ألتقي برفاق لي في نشاطات الأندية في النبطية وصيدا وصور. ساعدني على ذلك انتقالي من التعليم الثانوي إلى التعليم الجامعي وتأسيس جمعية ثقافية في صيدا، بالتعاون مع شلة من الأصدقاء والزملاء، باسم منتدى الفكر والثقافة، رئسها وأدار اجتماعاتها الأولى الدكتور يوسف جباعي. كنت حريصا في كل نشاطاتي تلك على تقديم نفسي كيساري أكثر تمسكاً بيساريته من أي وقت مضى.
مقطع من سيرة ذاتية