حركة اليسار الديمقراطي، الانشقاق الأول عن الحزب الشيوعي


محمد علي مقلد
2021 / 7 / 6 - 09:42     

أول انشقاق في الحزب:حركة اليسار الديمقراطي
...هذا المناخ من البلبلة والضياع الفكري والسياسي لم يوفر إطاراً مناسباً لمعالجة الأزمة. بدلاً من البحث عن الأسباب السياسية أغرقت هيئات الحزب في نقاش تنظيمي، وبدل الإجابة على سؤال لماذا حصل ما حصل غرقت القيادة ومعارضوها في الإجابة على سؤال من المسؤول عما حصل. وحده جورج حاوي حاول أن يعيد النقاش إلى مكانه الطبيعي، فحمّل نفسه العبء الأكبر وحمّل الآخرين في القيادة كلاً بحسب دوره ومسؤولياته، لكن محاولته لم تلق تجاوباً، إذ لم يكن أحد على مستوى جرأته في النقد والنقد الذاتي، ربما لأنه كان واثقاً من نفسه ومن حصانته في قواعد الحزب. بدأت تظهر أعراض الأزمة بأشكال شتى، وبرزت على السطح تباينات في التشخيص والمعالجة، وأول تعبير منظم عنها هو إعلان قيام حركة اليسار الديمقراطي كفريق معترض داخل القيادة خلال المؤتمر السابع.
تناول الاعتراض مسألة العلاقة مع سوريا، لكنه كان يضمر اعتراضاً على إدارة جورج حاوي مهندس هذه العلاقة ومدوزنها. المعترضون شكلوا أكثرية في المجلس الوطني في المؤتمر السادس، بحسب ما أفادني أحدهم، وقرروا إزاحة جورج حاوي بانقلاب ديمقراطي، غير أن البديل المقترح رفض أن يتولى المهمة إلا بالإجماع، لتنتهي الجولة بإعادة انتخاب جورج حاوي أميناً عاماً وانتخاب فاروق دحروج نائباً للأمين العام.
لم ألتق مع حركة اليسار الديمقراطي لأن موقفي النقدي من نهج القيادة قام على تشخيص وعلاج مختلفين، طرحتهما في المجلس الوطني مشروعاً سياسياً إنقاذياً للوطن أولاً وللحزب ثانياً، مشروعاً بدأ يتبلور في ذهني منذ اغتيال مهدي عامل الذي لم يقتل برصاص أعدائه من الإمبريالية والصهيونية والاستعمار، مشروعاً قوامه أولاً إعادة النظر بالتحالفات والأولويات والشعارات، وثانياً الخروج من منطق الحرب الأهلية، مع ما يعنيه ذلك من تركيز الجهد على استعادة الوحدة الوطنية وإعطائها الأولوية. في موازاة ذلك اقترحت أن ينخرط الحزب في ورشة نقاش فكري بغية إعادة الاعتبار للفكر الاشتراكي، وبانتظار ذلك، يتبنى الحزب مشروع الدولة، وهذا هو الأساس، كعمود فقري لاستعادة دوره الوطني.
بدأت طرح المشروع مع قيادة الحزب في الجنوب التي وافقت على إصدار وثيقة تحمل عنوان، في سبيل إعادة بناء الوطن والدولة، لكنها لم تعمل على توزيعها، كما أن القيادة المركزية لم تعرها اهتماماً، إلى أن أجرى معي الصحافي الصديق أحمد منتش مقابلة صحافية نشرها حيث يعمل في جريدة النهار تناول فيها موضوع الوثيقة. ما لفت نظر القيادة يومذاك مقدمة مهّد بها الصحافي للمقابلة ووصف فيها الوثيقة بأنها أهم وثيقة تصدر عن الحزب. هذا نص الفقرة من مقدمة الصحافي أحمد منتش: "تعتبر الوثيقة الأولى من نوعها في تاريخ الأحزاب الشيوعية والعقائدية، بل منذ تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني عام 1924، وقد تضمنت اعترافاً صريحاً بالأخطاء وبوجود أزمة فعلية تتلخص بـ: توزع الشيوعيين تيارات، فقدان الرابط السياسي بينهم، غياب المهمات، فقدان الثقة بقيادة الحزب. وأهم من ذلك جديد الوثيقة في المواقف والمفاهيم المتعلقة بالدولة والعمل الوطني والتحالفات ودور العوامل الخارجية الخ."
حسين حمدان، شقيق حسن، أي مهدي عامل، كان عضواً في المكتب السياسي، اكتفى بمعاتبتي، ربما لأنه لم يكن يملك حق التحقيق معي. لكن المحقق ذاته، كريم مروة، اتهمني بالإساءة إلى الحزب، ودليله أنني صنفت الوثيقة بأنها الأهم بين وثائق الحزب. وجرياً على العادة، تهمة باطلة لأن الإشادة بالوثيقة ليس جزءاً من متن المقابلة (مادح نفسه يقرئك السلام) بل هو تمهيد ومقدمة من صياغة الصحافي. لكنه أصر على إدانتي لأنني، بحسب قوله، سمحت للصحافي بنشرها قبل أن أطلع عليها. مرة أخرى يعاود الاستبداد الظهور. لكن، للأمانة، حفظ لي أهل العتب والإدانة موقفي "الشريف" في المقابلة، الذي دافعت فيه عن القيادة التاريخية ضد من اتهمها بالفساد.
في جولة ثانية، طلب مني نديم عبد الصمد، أن أطرح مشروعي في المجلس الوطني الذي كان يرئسه. حين وجه الدعوة للاجتماع لم يحضر من أعضائه التسعين سوى بضعة عشر رفيقاً. تلوت عليهم نصاً بعنوان أزمة الديمقراطية في مشروع الحزب وفي مشروع الحريري، تدور فكرته الأساسية حول عجز كل من الحزب ورفيق الحريري عن إقامة دولة ديمقرطية، الأول لأن الدولة التي يسعى إلى بنائها هي دولة البروليتاريا المحكومة بدكتاتورية الطبقة العاملة، والثاني لأن الدولة التي يبنيها هي دولة الميليشيات المفروضة عليه من جانب نظام الوصاية. بالرغم من أن النص مكتوب وتم نشره في اليوم التالي في جريدة النهار، إلا أن حراس الهيكل أصروا على تصنيف النص في خانة الدفاع عن دولة الحريري ومشروع رأس المال المتوحش.
طرحت مشروعاً سياسياً للإنقاذ، فيما كنت أدافع عن وجهة نظر في منتهى الوضوح في ما يخص الانتخابات النيابية، وقد سبقت الإشارة إليها. بين دورتي 1992 و1996، توفرت ظروف مساعدة لتحقيق ما دعوت إليه، أي إلى تجميع قوى المعارضة الشعبية في وجه المحادل الحزبية التي يتم تركيبها في مكاتب الأجهزة الأمنية، وذلك بعد خروج حبيب صادق من تكتل التحرير والتنمية، واستئناف نشاطه كمعارض يساري مستقل. غير أن قيادة الحزب استمرت على ميلها إلى استجداء مقعد نيابي من سائقي المحادل أو من نظام الوصاية. هذا سبب آخر للاختلاف مع قيادة الحزب. إذا كان السبب الأول ذا طابع نظري يخضع للنقاش ويحتمل الخطأ والصواب فالثاني لا يحتمل التسويات وتدوير الزوايا.
كان من الطبيعي أن أعمل إلى جانب حبيب صادق لأنه تبنى فكرة كنت قد طرحتها في الدورة الأولى بعد الطائف، فصار من الطبيعي أن يعاملني الراغبون بالجنّة البرلمانية كخصم سياسي لا كرفيق يحمل وجهة نظر مخالفة، وذنبه ذنبان، رأي مختلف وتعاون مع "الغريم" الانتخابي حبيب صادق. تزامن هذا التعارض في الموقف من الانتخابات مع بروز معارضات في القواعد الحزبية فكان من الطبيعي أن يتحلق المعترضون على نهج القيادة الانتخابي، على اختلاف أسباب اعتراضهم، حول حبيب صادق، في مشهد بدا فيه الشيوعيون فريقين، بداية في الجنوب ثم في كل لبنان، أحدهما يدافع عن نهج القيادة لا لأنه نهج صحيح بل لأنها قيادة ومن بديهيات التربية الحزبية أن القيادة دائماً على حق وأنها رمز وحدة الحزب، والآخر يضم عدداً من المعترضين، ولكل واحد منهم أسبابه، لكنهم تحلقوا، في الجنوب، مع يساريين آخرين حول حبيب صادق الذي تعاملت معه قيادة الحزب كخصم أو منافس لها في الانتخابات على الجمهور اليساري العريق في الجنوب، متهمة إياه بأنه حرم مرشح الحزب من النيابة مرتين، في دورة 1992 حين حل مكانه في اللائحة "الرسمية" وفي دورة 1996 حين عمل على تشكيل لائحة في مواجهتها.
نجحت قيادة الحزب في تصوير الخلاف السياسي وكأنه خلاف على مقعد انتخابي، في حين أن التباين في وجهات النظر يعود إلى أسباب أخرى، على رأسها موضوع التحالفات. حبيب صادق كان ذا موقف حاد من نظام الوصاية، ويُشهد له أنه لم يزر سوريا طيلة وجوده في الندوة النيابية، بينما كانت قيادة الحزب مصرة على الانخراط في جبهة الممانعة والعمل على توظيف الانتخابات لتعزيز علاقات التحالف، رغم كل الأثمان الباهضة التي دفعها الحزب من دماء قادته ومقاومته، تحت خيمة الممانعة إن لم نقل برصاصها.
لم أنخرط في حركة اليسار الديمقراطي لأنني لم أوافق على تحليلهم وتشخيصهم للأزمة، لكنني كنت أرى فيهم رفاقاً مناضلين في الحزب يحملون وجهة نظر مختلفة وكنت أدعم موقفهم الداعي إلى تنظيم هذا الاختلاف وتشريعه داخل الحزب. غير أنني كنت أنسق مع أعداد أكبر من المحتجين على نهج الحزب الذين اختاروا الابتعاد عن الأطر التنظيمية وشكلوا حالة انتظارية على ضفاف الحزب.
بين المؤتمر السادس والمؤتمر التاسع بلغت نسبة الذين غادروا صفوف الحزب أرقاماً قياسية، بعضهم وجد ضالته في حركة اليسار الديمقراطي، لكونها الإطار الوحيد الذي يقيم علاقات تنظيمية، واستمر الأمر على هذه الحال إلى أن عقدت الحركة مؤتمرها وانتخبت نديم عبد الصمد رئيساً والياس عطالله أميناً عاماً، معلنة أول انشقاق عن جسد الحزب في خريف2004
في اليوم التالي لانعقاده التقيت الأمين العام خالد حدادة واتفقت معه على ضرورة تحصين الحزب ضد الانشقاق، فعهد إليّ بكتابة نص لهذه الغاية وتعهّد بطباعته وتوزيعه وتنظيم النقاش حوله ليشكل مادة تثقيفية تعزز وحدة الحزب. كتبت النص واخترت له عنوان، اليسار بين الإنقاذ والأنقاض، ودفع به الأمين العام إلى مطبعة الحزب، التي تباطأت في طباعته لأن مديرها، وهو من مريدي الرفيق سعدالله مزرعاني، تذرع بأزمة الحزب المالية. بادرت إلى دفع التكاليف على أن يصدر النص عن دار الفارابي. خرج الكراس إلى النور بدون دار نشر، وأفدت بأن مدير دار الفارابي في حينه، هو أيضاً من غير فريق الأمين العام.
قلت في الكراس" إن أي انشقاق، إذا ما حمل الفرع صفات الأصل كما الغصن صفات الشجرة، هو تعبيرعن أزمة ولا يمكن أن يكون حلا لها، وغالبا ما حصلت الانشقاقات في التاريخ في ظل الأزمات واحتدام التناقضات، أي حين يعجز "الأصل" عن تقديم أجوبة صحيحة، أو على الأقل مقنعة، عن أسئلة الواقع والحياة. وإذا لم تكن الانشقاقات تجسيداً لقطيعة، بالمعنى الايجابي، أي تجاوزاً، تصبح تكراراً، والتكرار، إذا صح قول عن التاريخ منسوب إلى ماركس، غالبا ما يكون على شكل مهزلة".
كان يمكن أن ترفض المطبعة طباعته ودار النشر نشره اعتراضاً على مضمونه، لأنه يتضمن أفكاراً تخالف التوجه العام للحزب، ولا سيما ما يتعلق بالدولة. غير أن الرفض جاء بأحكام مسبقة حول الاصطفافات الحزبية القيادية التي انتخب خالد حدادة أميناً عاماً على غفلة منها، بل على غفلة منه أيضاً إذ غيّبته النتيجة في تلك اللحظة عن الوعي.
حركة اليسار الديمقراطي مضت بعيداً في تحميلها المسؤولية للنظام السوري، ولذلك وجهت لها في الكراس نقداً رفاقياً، قلت فيه "إن السيادة كانت تنتهك من قبل اللبنانيين قبل الدخول السوري وقبل الدخول الاسرائيلي والقوات المتعددة الجنسية، وظلت تنتهك بعد كل التدخلات، بالأدوات الداخلية التي كانت تستدعي التدخل، أو بالقوى الخارجية من خلال هذه الأدوات، وبناء عليه فإن مفتاح استعادة السيادة يبدأ من لبنان، من نقد جريء تقوم به القوى السياسية اللبنانية لسلوكها"
ثم استكملت الكلام عن الحل الوحيد الممكن بالقول " في الوضع الملموس داخل بلدان العالم الثالث، ونحن منه، بات واضحاً أن الخيار أمام الشعوب اليوم لم يعد خياراً بين التخلف والاشتراكية، أو بين الرأسمالية والاشتراكية، بل هو بين بناء الدولة الحديثة، دولة الحريات والديمقراطية، بالمعنى الرأسمالي للكلمة، وبين الحروب الأهلية. أي أن بناء الدولة - الأمة وصياغة وحدة وطنية هو السبيل الوحيد لمواجهة التحديات الخارجية التي تفرضها علينا آليات التوسع الرأسمالي . دليلنا على ذلك أن الدول التي نالت استقلالها في منتصف القرن الماضي مهددة اليوم بالعودة، على صعيد الدولة والمؤسسات السياسية، إلى مرحلة ما قبل الحضارة الرأسمالية، إي إلى تفتيت الدول القائمة والرجوع بها إلى مرحلة الدولة العشيرة أوالدولة القبيلة". وهذا ما أثبتته الأحداث بعد انفجار ثورة الربيع العربي.
في بداية عام 2004 انتخب خالد حدادة أميناً عاماً، وفي الأسبوع الأخير من العام ذاته قام بزيارة إلى سوريا على رأس وفد حزبي. كان النظام السوري بحاجة إلى مواكب من الوفود لتلميع صورته أمام الشعب اللبناني بعيد محاولة اغتيال مروان حمادة، وكان الحزب بحاجة إلى استجداء مقعد نيابي أو أكثر. زاد في الفضيحة اعتراف الوفد بأن الحزب كان قد طلب موعداً للزيارة قبل ثلاثة عشر عاماً، أي قبيل استقالة جورج حاوي من الأمانة العامة، ولم يستجب النظام السوري للطلب في حينه، وهو الذي حدد الآن موعد الزيارة وعيّن التوقيت. بين موعد الزيارة ومحاولة اغتيال مروان حماده أقل من شهرين.
مقطع من سيرة ذاتية