الماركسية، الكينزية، و أزمة الرأسمالية في ظل وباء #كورونا (2-2)

عمر الزعبي
2020 / 9 / 22 - 22:42     


ادم بوث – موقع النداء الاشتراكي
ترجمة عمر الزعبي
لا غذاء مجاني
مثل سابقيهم من الكينزيين التقليديين، يؤمن أنصار النظرية النقدية الحديثة بأنه يجب ان لا يكون هناك اية هبوط ولا اي داعي للتقشف و الميزانيات المضبوطة، حيث بإمكان الحكومات دوما التدخل لخلق النقد و صرفه. يقولون لنا بانه ما دامت الدول لها عملاتها “المستقلة”، من المستحيل ان تنفذ الحكومة من النقود لأنها تستطيع دائما ان تختار سداد اية ديون عن طريق “طبع” النقود. من الصحيح انه من الممكن خلق النقود من العدم، لكن القيمة والطلب لا يمكن اختراعهم. الدولة تستطيع ان تطبع النقود لكنها لا تستطيع ان تضمن ان لهذه النقود اية قيمة بدون اقتصاد منتج خلفه، النقد حامل للقيمة فقط بينما القيمة الحقيقية يتم خلقها في عملية الانتاج نتيجة جهد العمل المقبول اجتماعيا.
بالتالي، فإن الأموال التي تخلقها الدولة لن تكون ذات قيمة إلا بقدر ما تعكسه القيمة المتداولة في الاقتصاد، في شكل إنتاج وتبادل السلع. إذا لم يكن الأمر كذلك، فهذه وصفة للتضخم وعدم الاستقرار. فعلى سبيل المثال، وإذا ثبتنا كل العوامل الاخرى، وقامت الحكومة بطباعة ورقتي عملة مكان ورقة واحدة، فإن هذا يخفض قيمة العملة إلى النصف، وبالتالي ستتضاعف الأسعار في الاقتصاد. تعلم ملوك العصور الوسطى – ورعاياهم – ذلك بالطريقة الصعبة، عندما ارتفعت الأسعار وارتفع التضخم استجابة لانهيارات العملة المتتالية. في نهاية المطاف، لا يوجد لدى الرأسمالية غداء مجاني، حيث لا تملك الحكومات أية أموال خاصة بها. يتم إنفاق الدولة في نهاية المطاف من الضرائب أو من الاقتراض الذي لا يخلق طلبا لكنه بالكاد يحركه في الاقتصاد. فالضرائب اما ان تقع على الطبقة الرأسمالية مما يقلل حصة الاستثمار او على الطبقة العاملة فيقلل الاستهلاك وفي الحالتين ينخفض الطلب بدال من ان يخلق. اما الاقتراض الحكومي، فالأموال المقترضة اليوم يجب ان تسدد غدا، وبفائدة. وبعبارة أخرى، يمكن “تحفيز” الطلب اليوم من خلال الاقتراض الحكومي، ولكن فقط من خلال خفض الطلب في المستقبل.
يمكن للدولة أن تحاول تجنب الضرائب والاقتراض عن طريق طباعة النقود. لكنها لا تستطيع طباعة المعلمين والمدارس والأطباء والمستشفيات أو المهندسين والمصانع. إذا دفع الإنفاق الحكومي الطلب فوق ما يمكن توفيره، فإن قوى السوق ستدفع الأسعار إلى الأعلى – أي أنها ستولد التضخم. هذا هو الحد الأقصى لقدرة أي حكومة على إنشاء وإنفاق الأموال – القدرة الإنتاجية للاقتصاد: الموارد الاقتصادية المتاحة للبلد من حيث الصناعة والبنية التحتية والتعليم والسكان وما إلى ذلك. في الوقت نفسه، بينما يمكن للدولة أن تخلق المال، لا يمكنها ضمان استخدام هذه الأموال. ليست الدولة هي التي تخلق الطلب على النقود، بل احتياجات الإنتاج الرأسمالي. وهذا الإنتاج مدفوع في النهاية بالربح. تستثمر الشركات وتنتج وتبيع من أجل تحقيق الربح. حيث لا يستطيع الرأسماليون تحقيق الربح، فلن ينتجوا. الموضوع بهذه البساطة.
الرأسمالية و الطبقات
بالطبع، إذا لم يتم توفير احتياجات المجتمع وإنتاجها من قبل القطاع الخاص، فيمكن للحكومة أن تتدخل وتوفرها مباشرة من خلال القطاع العام. لكن الاستنتاج المنطقي لهذا ليس طباعة المزيد من المال، أو تزويد الجميع بـ “دخل أساسي عالمي”، بل إخراج الإنتاج من السوق من خلال تأميم العوامل الرئيسية للاقتصاد كجزء من خطة عقلانية ديمقراطية واشتراكية. ولكن لا يمكنك التخطيط لما لا تتحكم فيه، ولا يمكنك التحكم في ما لا تملكه. لكن الكينيزية تتجنب هذه المسألة الأساسية المتعلقة بالملكية الاقتصادية. في الواقع، فان التحليل الاقتصادي الكينزي يخلو تماما من قضية الطبقات. يبدو أنه يجهل حقيقة أننا نعيش في مجتمع طبقي، يتألف من مصالح اقتصادية متناقضة: مصالح المستغَلين المستغِلين.
في نهاية المطاف، طالما بقي الاقتصاد تحت سيطرة المصالح الكبرى والاحتكارات الخاصة، فإن أي أموال يتم ضخها في النظام ستدفع مقابل السلع – الغذاء والمأوى وما إلى ذلك – التي ينتجها الرأسماليون. بعبارة أخرى، فإن كل هذه الأموال ستنتهي في أيدي متطفلين يسعون للربح. هذه هي المشكلة الحقيقية مع المطالب الإصلاحية مثل الدخل الاساسي الشامل التي لا تعمل شيئا لتحدي سطوة الطبقة الرأسمالية. في نهاية اليوم، لا يقترح الكينزيون ولا اتباعهم من دعاة النظرية النقدية الحديثة / الدخل الاساسي الشامل تغييرًا جوهريًا في العلاقات الاقتصادية الحالية والديناميكيات الفاشلة التي ترشح عنها. تبقى الملكية الخاصة مصونة ومقدسة بحيث تبقى فوضى السوق منزهة. باختصار فإن استراتيجيتهم هي التي تحفظ الرأسمالية وتصلحها، بدلاً من الإطاحة بها.
يجب علينا معالجة جذور النظام الرأسمالي: الملكية الخاصة والإنتاج من أجل الربح. فقط من خلال الملكية المشتركة على وسائل الإنتاج وتنفيذ خطة اقتصادية اشتراكية يمكننا تلبية احتياجات المجتمع. لا يمكننا طباعة طريقنا إلى الاشتراكية.
الماركسية والكينزية
واليوم، حتى في أوقات “الازدهار”، يعمل الاقتصاد العالمي المحموم بحجم أقل بكثير من طاقته الإنتاجية، بحيث أصبحت هذه ” القدرة الزائدة ” من اعراض نظام تجاوز عمره. حتى في أوجها، يمكن للرأسمالية أن تستخدم بنجاح حوالي 80-90٪ من قدراتها الإنتاجية. ينخفض إلى 70 ٪ أو أقل في أوقات الركود. أما في فترات الكساد السابقة، انخفض الرقم إلى 40-50٪. لكن السؤال الذي لم يطرحه الكينزيون (من جميع المشارب) بتاتا، كيف انتهى بنا الأمر هنا في المقام الأول؟
يقول لاري اليوت، محرر الشؤون الاقتصادية فيصحيفة الغارديان : ” ان استخدام نظرية النقد الحديثة ( و الكينزية بشكل عام ) يشبه ضخ الهواء اطار مثقوب ، بمجرد ما انتفخ بالكامل ، لا داعي للاستمرار في الضخ” . لكن ما سبب الثقب في الأصل؟ لماذا لا يتم استخدام قدرتنا الإنتاجية الكاملة؟ لماذا أصبح الاقتصاد عالقًا في هذه الحلقة الهابطة من انخفاض الاستثمار والبطالة والطلب الراكد؟ لماذا يجب على الحكومة التدخل وإنقاذ النظام؟ لا يملك الكينزيون اجابة على هذا السؤال. قد يقولون بأن “القدرة الزائدة” هي نتيجة نقص الطلب الفعال. الشركات لا تستثمر لأنه لا يوجد طلب كافٍ على السلع التي تنتجها. لكن لماذا؟
على النقيض من ذلك، تقدم الماركسية تحليلاً علميًا واضحًا للنظام الرأسمالي وعلاقاته وقوانينه، ولماذا تؤدي في جوهرها إلى أزمات. هذه الأزمات في التحليل النهائي هي أزمات إفراط في الإنتاج. لا ينهار الاقتصاد بسبب انخفاض الطلب (أو الثقة) وحسب، ولكن لأن القوى المنتجة تتعارض مع الحدود الضيقة للسوق. هدف الإنتاج في ظل الرأسمالية هو الربح. ولكن لتحقيق الربح يجب أن يكون الرأسماليون قادرين على بيع السلع التي ينتجونها. لكن الرأسماليين يستخلصون الربح من ساعات العمل الغير مدفوع للطبقة العاملة حيث ينتج العمال قيمة أكبر مما يتلقونه على شكل أجور. الفرق هو القيمة الفائضة، التي تقسمها الطبقة الرأسمالية فيما بينها في شكل أرباح وإيجارات وفوائد. النتيجة هي أنه في ظل الرأسمالية، هناك إنتاج مفرط متأصل في النظام. إنه ليس مجرد “نقص في الطلب”. من المستحيل على العمال يتمكنوا من إعادة شراء جميع السلع التي تنتجها الرأسمالية. إن القدرة على الإنتاج تفوق قدرة السوق على الاستهلاك.
بالتأكيد يمكن للنظام أن يتغلب على هذه الحدود لفترة من الوقت، من خلال إعادة استثمار الفائض في وسائل الإنتاج الجديدة أو من خلال استخدام الدَين لتوسيع السوق بشكل مصطنع. ولكن هذه مجرد إجراءات مؤقتة “تمهد الطريق” على حد تعبير ماركس، “لأزمات أكثر شمولاً وأكثر تدميراً” في المستقبل. شهد انهيار عام 2008 تتويجا لمثل هذه العملية، ذروة تأخرت لعقود بفضل السياسات الكينزية وازدهار الاقتراض على حد سواء. لكننا نشهد الان ازمة جديدة أعمق لا يمكن للكينزيين ولا لأنصار نظرية النقد الحديثة ان يقدموا لنا مخرجا منها، فقط الماركسيون قادرون على ذلك. أقصى ما يستطيع الكينزيون تقديمه يشبه تقديم مرهم لمرض عضال، لكنهم لا يستطيعون تشخيص الحالة بشكل صحيح ولا يستطيعون تقديم علاج لها.
الاشتراكية أو البربرية
يرمي الرأسماليون اليوم كل ما لديهم في هذه المعضلة في محاولة يائسة للمحافظة على نظامهم من الانهيار. لكن ما يصرفونه للعمال من دعم للأجور وإنفاق حكومي اليوم، سوف يتم تحصيله من خلال التقشف غداً. لا شك أن دعوات الحركة العمالية إلى تدابير على غرار الكينزية مليئة بالنوايا الحسنة. ولكن كما يقول المثل القديم، فإن الطريق إلى الجحيم مرصوف بالنوايا الحسنة. ان المطالبات بهذه الإجراءات الكينزية ليست خاطئة فحسب بل انها ضارة لأنها تزرع الوهم وتمهد الطريق للكوارث وخيبات الأمل. علينا ان نصرخ كما صرخ الصبي الصغير في الرواية المشهورة: الامبراطور ليس لديه ملابس! من الواجب علينا ان نحذر رفاقنا العمال: لا تصدقوا الدجالين اللذين يقدمون الحلول السريعة لكم. ليس الان وقت المحتالين والدجالين!
لا ننتقد أنصار نظرية النقد الحديثة والكينزيين من نفس موقع المدافعين عن “السوق الحرة”. لا، إن انتقاداتنا تأتي من منظور ماركسي – من وجهة نظر ما هو جيد للطبقة العاملة العالمية ، ما هو ضروري لإلغاء الرأسمالية وتحرير الإنسانية. وصلت الرأسمالية الى طريق مسدود. لا يمكنها أن تقدم للمجتمع إلا البربرية. فقط بديل اشتراكي واضح للملكية المشتركة، وسيطرة العمال، والتخطيط الاقتصادي الديمقراطي يمكن أن ينير طريق البشرية الى الأمام.