رضوى عاشور في حوار قديم مع ناجي العلي


محمد نور الدين بن خديجة
2020 / 7 / 30 - 23:17     

رام الله - خاص بـ"منصة الاستقلال الثقافية":



نُشِرَتْ هذه المقابلة النادرة للمرة الأولى في مجلة "المواجهة"، التي تُصْدِرُها لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، العدد الخامس، القاهرة، أيلول (سبتمبر) 1985، قبل عامين من اغتيال ناجي العلي بكاتم صوت في لندن. وقد اختارت رضوى عاشور أن تترك المساحة كاملةً لحديث ناجي، فكان غياب الأسئلة حضوراً لها. وسيدرك القارئ الأسئلة التي وجّهَتْها له في سياق إجاباته.. وتنشر "منصة الاستقلال الثقافية" جزءاً كبيراً من نَصّ المقابلة الكاملة نقلاً عن كتاب "لكل المقهورين أجنحة: الأستاذة تتكلم"، الصادر عن دار الشروق المصرية العام الماضي.





أُجريت هذه المقابلة قبل 10 أشهر، ولكن للأسف لم نتمكن من نشرها قبل ذلك، كما أن العدد السابق من "المواجهة" كان مخصصاً لأحداث معرض القاهرة الدولي للكتاب. وإذ نعتذر للفنان الفلسطيني الكبير عن هذا التأخير، نرى أن توقيت النشر له الآن دلالةٌ خاصةٌ في ظل الأحداث الفاجعة التي دارت مؤخراً في بيروت، وفي المخيمات الفلسطينية تحديداً.



يُقَدِّم ناجي العلي عبر شخصيته وتجربته الحياتية ومواقفه ورسوماته نموذجاً مشرقاً للعلاقة التاريخية الحميمة والأصيلة بين الشعبين الفلسطيني واللبناني التي تحاول قوى مشبوهة تخريبها.



إن ناجي العلي ابن مخيم عين الحلوة ينتمي للجنوب اللبناني تماماً كما ينتمي لفلسطين، ووفاؤه لهذا الجنوب لا يُقارن إلا بوفائه لأرض فلسطين وللمقهورين في هذا العالم. ولكنّي أتساءل: "لماذا هذا الفصل؟! أليست هذه القضايا الثلاث قضيةً واحدةً يؤمن ويدافع عنها ناجي العلي؟!".



(رضوى عاشور)





س..............؟!

منذ زمنٍ بي رغبة للتواصل تحديداً مع من يعنونني في مصر، وأنا لا أعتبر هذا حديثاً بل أعتبره وصيّةً لك شخصياً ولكل نَفَسٍ طيبٍ يتحسَّسُ الهَمَّ الكبير، الهَمَّ الوطني، ليس فقط في فلسطين، فليست فلسطين وحدها هي المغتصبة، ولكن أيضاً كل الأرض العربية حيث حقوق الجماهير مغتصبة في رزقها وحرياتها وأحلامها.



من أين أبدأ؟ ربما منذ خروجنا من فلسطين إلى مخيم عين الحلوة بجنوب لبنان، ومن تلك النظرة في عيون أمهاتنا وآبائنا. لم يكن لديهم بيانات؛ ولكن الحزن في عيونهم كان لغةً تعلمنا وتملؤنا بالغضب الذي يعبّر عنه مرّات بالصوت ومرّات بالفعل. معظم أبناء وبنات جيل الخمسينيات تعرَّضَ لحالة قهر، وكنّا في مخيم عين الحلوة في لبنان نتطلع عبر سجننا الصغير هذا، ونستنجد بأي قوة خير. ولما قامت ثورة يوليو انتشينا واندفعنا إلى شوارع المخيم نهتف للثورة، ونكتب على الجدران نحييها. كنا عاجزين عن تقديم شيءٍ غير ذلك، ولكننا شاركنا بنفَسِنا وتحيّتنا.



وحين أسترجعُ هذه الصورة أفكر كم أننا نفتقدها الآن في وقتٍ صارت فيه المنطقة العربية بحيرةً أميركيةً عملياً، وضُربت الثورة الفلسطينية. يحاول المرء ليس تعزية نفسه ولكن الوقوف أمام تجربته، أشعر أن لا أحد يقف. تُكال لنا الضربات من كل الاتجاهات في قصفٍ ليس عشوائياً بل بقصفٍ سياسيٍّ مدروسٍ وموجَّهٍ، يُهْلِكوننا من كل الجهات.





س ..............؟!

ولِدْتُ في العام 1937 في قرية الشجرة بين طبرية والناصرة قضاء الجليل، ولجأتُ العام 1948 إلى أحد مخيمات الجنوب اللبناني، هو مخيم عين الحلوة، بالقرب من صيدا، وكغيري من أبناء المخيم كنت أشعر بالرغبة في التعبير عن نفسي فأمشي في المظاهرات، وأشارك في المناسبات القومية، وأتعرّض كما يتعرّض سواي للقهر والسجن. في تلك المرحلة تشكل عندي الإحساس بأنه لابد أن أرسم، وبدأتُ أحاول أن أعبّر عن مواقفي السياسية وهمّي وقهري من خلال رسومات على الجدران.



وكنت أحرص أن أحمل معي قلمي قبل أن أتوجه إلى السجن. وبالمناسبة كان أول من شجعني هو المرحوم غسّان كنفاني الذي مرَّ على المخيم للمشاركة في إحدى الندوات. وكان لدينا نادٍ بسيط أقمناه من الزنك. والتفتَ غسّان إلى الرسوم الكاريكاتيرية التي كانت على الحائط وتعرَّف عليّ، وأخذ مني رسمتين أو ثلاثاً ونشرها في "الحرية"، مجلة التقدميين العرب، التي كان يعمل فيها في ذلك الوقت.. ورغم أنني كنت قد حصلتُ على دبلوم في الميكانيكا والكهرباء، كنت أعمل بشكل موسميّ في البساتين، في قطف البرتقال والليمون، ولم يكن هناك عمل آخر متاح، ولم يكن مسموحاً لأي فلسطيني أن يكون موظف بلدية.



حاولت أن أتابع دراستي وأعبر عن نفسي بالرسم، فالتحقت بالأكاديمية لمدة سنة، إلا أنني في تلك المرحلة تعرضتُ للسجن ست أو سبع مرات. وعملتُ مدرّساً للرسم فترةً بسيطةً بالكلية الجعفرية في صُوْر، ثم أُتيحَت لي فرصة السفر إلى الكويت للعمل في مجلة "الطليعة" الكويتية، وهي مجلة للتقدميين الكويتيين.



في "الطليعة" كنت أعمل كصحفي ومخرج للمجلة وسكرتير تحرير. ثم بدأتُ أحتل مساحةً في المجلة أُعَبِّرُ فيها عن نفسها بلغة الكاريكاتير، وتدريجياً اتَّسَعَت هذه المساحة فأصبحتُ أُقَدِّم عدة رسوم، ثم من صفحةٍ كاملةٍ إلى صفحتين إلى أن اكتشفتُ أن العمل الأسبوعي لا يَفي بحاجتي، وأنني راغبٌ في التواصل مع الناس بشكلٍ يوميّ، فاخترتُ صحيفةً يوميةً. ولما لم يكن هناك انسجامٌ بين خَطّها وتفكيري اشترطتُ ألا يتدخل أحدٌ في عملي. وكنتُ قد بدأت أدرك دور الكاريكاتير. وكنتُ ألاحظ أن رسّامي الكاريكاتير في مصر (المدرسة القديمة) يستخدمون الحوار بكثرة مما لا يُعطي فرصةً للقارئ لإعمال ذكائه، فاتجهت إلى عكس ذلك ورحت أخلق رموزاً يصير تكرارها نوعاً من اللغة المشتركة بيني وبين القارئ.



عندما ذهبتُ إلى الكويت كان همّي أن أدّخر "قرشين" كأي شخص يتوجه إلى مجتمعٍ استهلاكيٍّ من هذا النوع، وأذهب بعد ذلك إلى دراسة الرسم في القاهرة أو في روما، ثم اكتشفت أن الكاريكاتير يرضيني، وأنه بدلاً من أن أقيم معرضاً كل عام أو عامين يصل إلى شريحة معينة من روّاد المعارض اقتنعتُ بدور الكاريكاتير وأجَّلَت طموحي الشخصي بالتعبير عن نفسي، وقلت: "حين ترجع البلاد، ولو كنتُ ما زلتُ على قيد الحياة، أكون قد تقدمتُ في العمر، فأجلس في ركني أعبّر عن نفسي بلغة التشكيل والألوان".



في الكويت عانيتُ كثيراً، وحياة الفنان في مجتمعٍ استهلاكيٍّ ليست مسألةً بسيطةً. لي أصدقاءٌ كثيرون كنّا نناضل معاً وسُجِنّا معاً. سنة واحدة في الكويت وأغرقهم المجتمع الاستهلاكي، "تسمحوا" (أي صاروا عديمي الإحساس). زال عنهم الإحساس بالواجب تجاه جماهيرهم ومخيماتهم. في تلك المرحلة ولِدَت شخصية "حنظلة" ويومها قدَّمَتْهُ للقُرّاء بشرحٍ وافٍ.. "أنا حنظلة من مخيم عين الحلوة، وعد شرف أن أظل مخلِصاً للقضية وفيّاً لها... إلخ". والحق أن هذا العهد كان عهداً أقطعه على نفسي. شخصية هذا الطفل الصغير الحافي هي رمز لطفولتي. أنا تركتُ فلسطين في هذه السن وما زلت فيه. رغم أن ذلك حدث من 35 عاماً، فإن تفاصيل هذه المرحلة لا تغيب عن ذاكرتي، وأشعر أني أذكر وأعرف كل عشبةٍ وكل حجرٍ وكل بيتٍ وكل شجرةٍ مَرَّت عليّ في فلسطين وأنا طفل.



إن شخصية حنظلة كانت بمثابة أيقونةٍ حَفِظَت روحي من السقوط كلما شعرتُ بشيءٍ من التكاسل أو بأنني أكاد أغفو أو أهمل واجبي. أشعر بأن هذا الطفل كنقطة ماءٍ على جبيني يصحيني ويدفَعُني إلى الحرص، ويحرُسُني من الخطأ والضياع. إنه كالبوصلة بالنسبة لي، وهذه البوصلة تُشير دائماً إلى فلسطين. وليس فقط إلى فلسطين بالمعنى الجغرافي، ولكن بالمعنى الإنساني والرمزي، أي القضية العادلة أينما كانت في مصر أو في فيتنام أو إفريقيا الجنوبية.



وأنا شخصياً، إنسان منحازٌ إلى طبقتي. منحازٌ للفقراء، وأنا لا أغالط روحي ولا أتملَّقُ أحداً. والقضية واحة ولا تحتمل الاجتهاد: الفقراء هم الذين يموتون، وهم الذين يُسْجَنون، وهم الذين يُعانون معاناةً حقيقيةً. هناك طبعاً من تاجَر بقضايا الفقراء، وهناك من يَمُرّ بمرحلة النضال مرور "ترانزيت"، ويطالب بعد ذلك بأن يصبح نجماً أبدياً. المناضل الحقيقي دائم العطاء يأخذ حقَّهُ من خلال حق الآخرين، وليس على حسابهم.



ويلاتُنا كثيرةٌ ومرارتُنا كبيرةٌ، وأنا لا أتحدث كفلسطيني فقط، ولكن كابن مخيم في لبنان، وأشعر أنني مدينٌ لأبناء مجتمعي. هناك كثيرون ضمن مواقع السلطة والمؤسسات لا يُرضيهم عملي. الأنظمة تحب أن يكون الفنان أو المثقف أو الصحافي أداةً من أدواتها، فيُعَلِّقوا له النياشين والأوسمة، ولكن بتقديري أن على الفنان أن يكون مخلصاً لجماهيره.



أنا من مخيم عين الحلوة، وعين الحلوة مثل أيّ مخيمٍ آخر. أبناء المخيّمات هم أبناء أرض فلسطين. لم يكونواً تجاراً ولا ملاكاً. كانوا مزارعين فلما فقدوا الأرض فقدوا حياتهم فذهبوا إلى المخيّمات. كبار البرجوازيين لم يأتوا للإقامة في المخيّمات، أبناء المخيّمات هم الذين تعرضوا للموت ولكل المهانة ولكل القهر. وهناك عائلات كاملة استُشْهدت في مخيّماتنا، وهؤلاء الفلسطينيون هم الذي يعنونني حتى حين أتغيّب عن المخيم بحكم ظروف عملي.





س ..............؟

كنت أعمل في الكويت حين صدرت جريدة السفير في بيروت. اتصل بي طلال سلمان، وطلب مني أن أعود إلى لبنان لكي أعمل بها. شعرتُ أن في الأمر خلاصاً، فعدتُ ولكني تألمت وتوجَّعَت نفسي مما رأيت. فقد شعرت أن مخيم عين الحلوة كان أكثر ثوريةً قبل الثورة. كانت تتوفر له رؤيةٌ أوضح سياسياً، يعرف بالتحديد مَنْ عدوُّه ومَن صديقُهُ. كان هدفه محدّداً: "فلسطين، كامل التراب الفلسطيني". لما عُدْتُ كان المخيم غابة سلاحٍ، صحيح، ولكنه يفتقد إلى الوضوح السياسي، وجدتُهُ أصبح قبائل. وجدت الأنظمة غَزَتْهُ، وعرب النفط غزوه، ودولارات النفط لوّثت بعض شبابه. كان المخيم رحماً يتشكل داخله مناضلون حقيقيون، ولكن كانت المحاولات لوقف هذه العملية. وأنا أشير بإصبع الاتهام إلى أكثر من طرف، صحيح هناك تفاوت بين الخيانة والتقصير، ولكني لا أعفي أحداً من المسؤولية (...) وهذا الوضع الذي أشير إليه يفسّر كثيراً مما حدث أثناء غزو لبنان.





س ..............؟

عندما بدأ الغزو كنتُ في صيدا. الفلسطينيون في المخيّمات شعروا أنه ليس هناك من يقودهم. اجتاحتنا إسرائيل بقوتها العسكرية، انقضَّت علينا في محاولةٍ لجعلنا ننسى شيئاً اسمه فلسطين. وكانت تعرف أن الوضع عموماً في صالحها، فلا الوضع العربي، ولا الوضع الدولي، ولا وضع الثورة الفلسطينية يستطيع إلحاق الهزيمة بها. والأنظمة العربية حيَّدَت نفسها بعد "كامب ديفيد".



في الماضي كانت الثورة الفلسطينية تبشِّر بحرب الأغوار، بالحرب الشعبية، العدو جاء باتجاهنا وكل قياداتها العسكرية كانت تتوقع الغزو. وبتقديري، ورغم أنني لست رجلاً عسكرياً، ولم أطلق رصاصة في حياتي، أنه كان من الممكن أن تجتاح إسرائيل لبنان بخسائر أكبر بكثير. وهنا تشعرين أن المؤامرة كانت واردة من الأنظمة، أقصد مؤامرة تطهير الجنوب والقضاء على القوة العسكرية الفلسطينية وفرض الحلول "السلمية"، وتشعرين أنه مقصودٌ أن تقدّمَ لنا هذه "الجزرة" لكي تركض وراء الحل الأميركي. هذا هو الوضع العربي والوضع الفلسطيني جزء منه. بتقديري أنه كان يمكن أن نسدد ضرباتٍ موجعةً لإسرائيل، ولكن مخيّماتنا ظلت بلا قيادة. كيف لأهالينا أن يواجهوا الآلة العسكرية الإسرائيلية، الطيران والقصف اليومي من البر والبحر والجو، بالإضافة إلى أن الوضع كان عملياً مهترئاً؟.. قيادةٌ هرمت، ومخيماتٌ من زنك وطين، اجتاحها الإسرائيليون وجعلوها كملعب كرة قدم، ومع ذلك وصل الإسرائيليون إلى بيروت وحدود صوفر، والمقاومة لم تنقطع من داخل المخيّمات، وبشهادات عسكريين إسرائيليين وشهادتي الشخصية.. اعتقلتُ أنا وأسرتي كما اعتُقِلَت صيدا كلها، وقضينا ثلاثة أو أربعة أيام "على البحر".



بعد أن تمّ الاحتلال كان همّي أن أتفقد المخيم لأعرف طليعة المقاومة والقائمين عليها. أخذتُ معي ابني، وكان عمره 15 سنة وذهبنا بالنهار. كانت جثث الشهداء ما زالت بالشوارع، والدبابات الإسرائيلية المحروقة على حالها عند أبواب المخيم لم يسحبها الإسرائيليون بعد. تقصّيت عن طبيعة المقاومين فعرفتُ أنهم أربعون أو خمسون شاباً لا أكثر. كان الإسرائيليون قد حرقوا المخيم، والأطفال والنساء كانوا في الملاجئ، وكانت القذائف الإسرائيلية تنفذ إلى الأعماق، وكان قد سقط مئات الضحايا من الأطفال في المخيم وفي صيدا. وبشكلٍ تلقائيٍّ عاهد هؤلاء الشباب أنفسهم وبعضهم أنهم لن يستسلموا وأنها الشهادة أو الموت. وفعلاً لم تستطع إسرائيل أن تأسر أيّ واحد من هؤلاء الشباب. بالنهار في ضوء الشمس كانت إسرائيل تنقَضُّ عليهم، وفي الليل يخرون بالـ "آر بي جي" فقط.



هذه صورة مما حدث في مخيم عين الحلوة، وأنا شاهد لكني أعرف أن هناك صوراً أخرى في مخيمات صور والبرج الشمالي والبص والرشيدية.



إن الناس في الملجأ وفي الشارع يدعون الله، يسُبّون الأنظمة وكل القيادات، ويلعنون الواقع ولا يبرّئون أحداً، ويشعرون أن ليس لهم إلا الله، ويتحملون مصيرهم.



جماهير الجنوب بما فيها جماهيرنا الفلسطينية "المعتّرة" (الفقيرة) هي التي قاتلت، وهي التي حملت السلاح وفاءً لهذا الشعب العظيم الذي أعطانا أكثر مما أعطانا أي طرفٍ آخر، وعانى وتهدّم بيته. لا بد من أن يقول المرء هنا إن مقاومي الحركة الوطنية اللبنانية قد جسّدوا روح المقاومة بما يقارب الأسطورة. وفي رأيي أن الإعلام العربي مقصّر في عملية توضيح روح المقاومة الحقيقية.



في عين الحلوة تبعثر الناس بين البساتين مع أطفالهم، أما إسرائيل فلمّت كل الشباب (أنا مثلاً انفرزت أربع أو خمس مرّات) ثم اعتقلت، ونقلتْ معظمهم إلى معتقل أنصار وهنا بدأ دور النساء. ولا أعتقد بإمكان أي فنان أن يجسّد ذلك الوضع الذي عاش في ظله أهالي الجنوب.



على الفور، بدأت الناس، والجثث في الشوارع، تعود إلى بيوت الزنك الذي انصهر، وتعمل مع أطفالنا على إصلاح البيت بالأحجار، بالخشب، تظلل أولادها من الشمس، تعمل كالنمل كي تعيد بِناء عُشَشِها التي تهدَّمَت. وكان شاغل إسرائيل والسلطة اللبنانية أيضاً أن تختفي هذه المخيّمات لأنها البؤرة الحقيقية للثورة، ولكن النساء والأطفال في "غيبة" الرجال في معسكرات الاعتقال أو المختفين من الرصد الإسرائيلي قاموا بإعادة بناء مخيم عين الحلوة.. شاهدتُ كيف كان الجنود الإسرائيليون يخشَون من الأطفال (...) كان الإسرائيليون يخشَون من دخول المخيم، وإن دخلوه فلا يكون ذلك إلا في النهار.



عندما تركتُ لبنان منذ أكثر من سنة، كان مخيم عين الحلوة قد عاد.. الحائط الذي ينهدم يُعاد بناؤه ويُكتب عليه "عاشت الثورة الفلسطينية"، و"المجد للشهداء"، وفي تقديري أن هذا العمل لم يكن بتوجيهٍ من أحد بل جاء تلقائياً، وكنوعٍ من الانسجام مع النفس. كان كبرياء الناس وكرامتهم يُمليان عليهم تلك المواقف، لأنه في حالات كثيرة كان الإنسان يتمنى الموت. الإسرائيليون أوصلونا إلى حالةٍ نفسيّةٍ من هذا النوع. كنا قد تجاوزنا مرحلة الخوف والهلع. وكان الخط الفاصل بين الحياة والموت قد سقط.





س ..............؟

أصيبت ابنتنا الصغيرة "جودي" من قصف عشوائي لجماعة سعد حدّاد، وكان ذلك في العام 1981 قبل الاجتياح. كنت نائماً وسمعت الصراخ ثم حملتُها وهي تصرخ، وأجرينا لها عمليةً جراحيةً، ولا نزال نعالجها.



ولكن مصيبتنا تتضاءل أمام مصائب الناس، فهناك عائلاتٌ فقدت خمسة وستة شباب من أبنائها وأصبح البيت خاوياً، همُّنا الشخصي لا يُذْكَر. وكان يؤرقني طوال الوقت إحساسي بالعجز عن الدفاع عن الناس، فكيف أدافع عنهم برسم؟ كنت أتمنى لو أستطيع أن أفدي طفلاً واحداً. إن ظروف الاجتياح من قسوتها، أفقدت الناس صوابهم.



مرةً وأنا عائدٌ إلى البيت مع ابني خالد وجدت رجلاً عارياً. كان الناس ينظرون إليه باستغراب، ناديت على وداد، زوجتي، طلبت منها أن تُنْزِلَ لي قميصاً و"بنطالاً". كان حجم الرجل كبيراً فأحضرتُ قميصاً من عندي، و"بنطلوناً" من عند جارنا وألبسناه. كان الرجل في وضعٍ مأساويٍّ جداً، حاولت أن أسأله ولكنه لم يتكلم. سألت عنه فعرفت أنه من صيدا، وأنه عندما استمر القصف عدة ليالٍ اضطُّر إلى الخروج ليُحْضِرَ لأولاده خبزاً أو أي شيء يأكلونه، على أمل أن يجد دكاناً مفتوحاً، لأن صيدا القديمة شوارعها مسقوفة، وبالإمكان أن يسير فيها الإنسان بقدرٍ نسبيٍّ من الأمان. لم يجد الرجل أي دكانٍ مفتوحٍ فعاد إلى بيته. ولكنه وجد البيت وقد تهدَّمَ على زوجته وأطفاله السبعة أو الثمانية؛ ففقد توازنه.



وعندما أخذَنا الإسرائيليون باتجاه البحر؛ مررتُ من أمام هذا البيت فوجدتُ لافتةً صغيرةً مكتوباً عليها بالفحم: "انتبه هنا ترقد عائلة فلان" (للأسف نسيت اسم الشخص). وهذه اللافتة هو نفسه كتبها، لأن الجثث كانت لا تزال تحت الردم. فَقَدَ الرجلُ عقلَهُ، وسار في الشارع عارياً.



هذه صورةٌ من صور المآسي وهي عديدة، كان البعض يسير أمام الدبّابات الإسرائيلية، ويهتف "تعيش الثورة، تسقط إسرائيل، يسقط بيغن"، في حالة فقدان للتوازن.. بجوار بيتنا هناك ساحة، جاءت جرافات كبيرة وتصورنا أن الإسرائيليين سيقيمون مواقع دبّابات، ولكنهم كانوا قد لملموا الجثث من الشوارع وأتوا بها لدفنها في هذا المكان الذي أصبح مقبرة جماعية.



كان من عاش هذه التجربة رأى حجم المأساة، البعض استطاع استيعابها والبعض الآخر فقد اتزانه. ومع ذلك لم يعد هناك خيارٌ. كانت المرأة تدافع عن زوجها، تعيد بناء بيتها، تؤمّن ماءها، تطمئن على الأولاد في أي معتقل، تخرج في المظاهرات، تطالب بالإفراج عن الرجال المعتقلين. وكانت إسرائيل تحصدهم حصداً بالرصاص. وهناك صديقة إيطالية صوّرت مشاهد النساء اللواتي سقطن برصاص الجنود واستشهدن، ولاحقها الإسرائيليون ومرّغوها في الوحل، لكنها استطاعت الهروب وجاءت إلى البيت عند وداد زوجتي، وغسلت الكاميرا ونشرت الصور التي التقطتها بمجلاتٍ غربية.



(...) بعد الاجتياح بقيت شهراً في صيدا، حاولت، مثل غيري أن أرمم البيت، وأن أواسي الناس وأعزيهم، أملأ الماء، أنقل أشياء للناس... إلخ، ولكني كنت أفكر ماذا أفعل، وانتهيتُ إلى ضرورة الذهاب إلى بيروت حيث جريدة السفير، وحيث كان بإمكاني أن أرسم.



مرّ وقتٌ طويلٌ ظنّ فيه الناس أني متّ إلى أن مرَّت إحدى البنات بصيدا، واكتشفت أني موجودٌ فأعطيتُها رسوماتٍ لي، كي يطمئنوا في "السفير"، ويتأكدوا أنني ما زلت حيّاً.



(...) وفي بيروت التقيت بالكاتبين الفلسطينيين حنا مقبل (رحمه الله) ورشاد أبو شاور، وكانا يُصدِران مجلةً اسمها المعركة، فصرتُ أرسم في "السفير" وفي "المعركة"، وأتساءل: ما الذي بإمكان المرء أن يفعله في مواجهة هذا القصف من الجهات الست (الجهات الأربع ومن الجو والسيارات المفخخة).. كان المواطن منا يشعر بالتقصير والعجز ويرحب بالموت.



(...) السفير قدَّمَت من شبابها، والشاعر علي فودة استُشْهِدَ وهو يوزّع مجلة "الرصيف" التي كان يصدرها. كان المسألة قدرية، القذائف تصل الأطفال في الملاجئ. وهكذا يشعر الإنسان أن بقاءه حيّاً مجرد صدفة، إذا جاءت القذيفة جاءت، وإن لم تأتِ فذلك مجرد صدفة، لم تكن هناك فرصة أمام أحد ليحزن أو يبكي. وأنا بكيتُ مرةً واحدةً بعد خروج المقاومة ومجزرة صبرا وشاتيلا.



لم يكن بكائي قهراً بقدر ما كان إعلاناً أني فلسطيني وأني أبكي الشهداء، وأرفض الوضع. كنت أشعر بالوحشة. كثيرٌ من أصدقائي الحميمين كانوا قد ذهبوا، وكنت أشعر أن البيوت من حولي فارغة. قبل ذلك كنت تلتقي في نفس تلك الشوارع بالمناضل المصري مع المناضل اللبناني مع المناضل الفلسطيني مع المناضل العراقي. والمرء يشعر بوجودهم، ويتحامى فيهم ويستظل بهم. ومع ذلك صار لبيروت بعد خروج المقاومة معزةٌ خاصة في نفسي!



س ..............؟

الرسم بالنسبة لي مهنة ووظيفة وهواية، ورغم أنني أعمل رسّاماً منذ عشرين عاماً، فإنني لم أشعر أبداً بالرضا عن عملي. أشعر بالعجز عن توظيف هذه اللغة التعبيرية في نقل همّي لأن همّي كبير، هل ترين كيف؟! والرسم هو الذي يحقق لي توازني الداخلي، هو عزائي ولكنه أيضاً يشكل لي عذاباً. أحياناً أقول أن هذا الكاريكاتير الذي أرسمه يجعل حظي أفضل من غيري. إنه يتيح لي إمكانية تنفيس همّي، وإن الآخرين قد يموتون كمداً وقهراً من ذلك الهمّ الذي يجثم على قلوبهم، وينفث سمّه اليومي فيهم. أنا أعرف أن الرسم يعزيني.



وأشعر أيضاً أن فن الكاريكاتير لغةُ تخاطبٍ مع الناس، لغةُ تبشيرٍ وهو للنقد وليس للترفيه، وأعتبر نفسي جرّاحاً من نوع ما. أرى أن حزني ومرارتي وسوداويتي التي أعبّر عنها هي حالةٌ نبيلةٌ ومشتركةٌ بيني وبين المواطنين الذين يحزنهم ويوجعهم هذا الواقع العربي.



(...) أشعر مرّات عديدة أنني أريد أن أكتب تعليقات وأحكي كثيراً، أصنع منشوراً، "مانفيستو"، أريد أن أؤذن في الناس، أن أوصل رسالتي بوضوحٍ، وبأي شكل، وأشعر أحياناً أن ذلك يتم على حساب فنّية الصورة، ولكني أشعر أنني لا أستطيع أن "أتمرجل" وأتعالى على القارئ. أحاول أن أستخدم أدواتي الرمزية، ولكني أيضاً مشغولٌ بقضية التواصي الواضح للشخص العادي والفقير، والذي يعنيني في المقام الأول.





س ..............؟

بالنسبة لأعدائي، لا أُفَرِّقُ بين عدوي الإسرائيلي وعدوي العربي، لا فرق أن يكون اسمه محمد أو إلياس أو كوهين. لست عنصرياً. لقد اتخذت موقفاً ضد حرب لبنان لأنها حرب "مفبركة" وترتيب بأدواتٍ لخلق كل هذه المصائب. الفقير الماروني وُظِّفَ ليقاتل من أجل طبقةٍ برجوازيةٍ مارونيةٍ ضالعةٍ في إسرائيل وأميركا وضالعة مع عرب أميركا، والفقير الفلسطيني أو الفقير المسيحي يموت وعلى بصره وبصيرته غشاوةٌ تجعله يفشل في تحديد أعدائه الحقيقيين. هذه القضايا أحاول شرحها، وألحّ عليها كثيراً.



المؤامرة على المنطقة مستمرة، وأدوات القمع تزداد، والقبيلة تكثر، وهذا لا يجب أن يجعل المرء يستسلم، بل لابد أن يستنفر قواه الذاتية، وهذا واجب كل القوى الديمقراطية، واجبها أن تشكل نسيجاً واحداً، ولا أعتقد أن هناك اختلافاً أساسياً بين المواطن المصري والمواطن التونسي مثلاً. هناك حقوق مهضومة وواقع تجزئة.





س ..............؟

ما هو واجب المثقف؟ هل يُنتَظر منه أن يركب دبابةً؟ ليس المطلوب منه سوى أن يظل ملتصقاً بهموم الناس ويعبر عنها. والديمقراطية بحاجة إلى شهداء أيضاً. وبتقديري أن هناك المئات من السلاطين الجائرين، وأن كلمة حق واجبةٌ وضروريةٌ، وعلى المرء أن يؤذِّن في الناس.



ورغم أنني شخصٌ غير مثقف، فإنني أحبّ قراءة الصفحات الثقافية في الجرائد وأتابع الظواهر الثقافية، وأظل قلقاً لأني أعرف أن المثقفين يتعرضون لكثيرٍ من الضغط والإغراءات، وأن هناك أموال نفطٍ أثَّرَت وما زالت على المئات منهم.



هناك ناسٌ تخسر روحها، -بلغة المسيح- وإن كسب الإنسان كل الدنيا وخسر نفسه فما هي قيمته؟! والمثقف الذي يُسْتَخْدَم لحساب الأنظمة وإسرائيل والإمبريالية، هل يُولَد من بطن أمه خائناً؟ إنه يبدأ بضميرٍ رَخْوٍ، ثم يقدم التنازل تلو التنازل ويتحول إلى أداةٍ من أدوات الإعلام الرسمي، ويفكر أنه ناجحٌ وكبيرٌ ومهِمٌ، وهو في الحقيقية مجرد صامولة، مسمار، أداة، لا شيء.





س ..............؟

منذ طفولتي وأنا متأثر بشخصية المسيح، ولقد قرأت التوراة والإنجيل والقرآن، وأحمل صليباً داخلي وحججتُ مرّتين. إن أول رسم كاريكاتير فكرت فيه هو أن أصلب نفسي، ليس أن أرسم نفسي مصلوباً، بل أن أذهب إلى الأمم المتحدة حاملاً صليبي، كنوعٍ من التعبير عن وضعنا وحقّنا المهضوم، كان عمري 13 أو 14 عاماً. البوذيون يحرقون أنفسهم احتجاجاً، وهذا نوعٌ من التعبير السياسي والعطاء.





س ..............؟

في الحرب، وأنا في الملجأ، قلتُ لزوجتي إنني نذرتُ نذراً؛ لو بقيتُ على قيد الحياة فسوف "أفضح" هذا الواقع العربي بكل مؤسساته وبكل أنظمته على حيطان العالم العربي كله، إن لم أجد جريدة. وما زلت عند نذري. عندي رغبة في الاستمرار وفي الوفاء بالنذر.. المعركة مفتوحةٌ، وما زال عندي أمل. وعندي إحساسٌ أنه لابد من الحصول على حقوقنا المهضومة مهما كان الثمن. وأشعر بالضعف أمام الناس البسيطة. أما النجوم فليس عندي نجوم. شيء طبيعي أن يكون المرء ثورياً وأن يكون محترماً، وليس طبيعياً في المقابل أن يركب على أكتافنا!