أناركيات الممارسة العملية


سامح سعيد عبود
الحوار المتمدن - العدد: 5621 - 2017 / 8 / 26 - 11:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الأناركية النقابية:
شهد أوائل القرن العشرين نشوء حركة الأناركية النقابية كمدرسة مستقلة من الفكر الأناركي تركز أساسا على الحركة العمالية أكثر من سابقاتها من المدارس الأناركية. وتعتبر الأناركية النقابية الاتحادات والنقابات والتعاونيات العمالية كقوة ثورية كامنة للتغيير الاجتماعي، الذي سوف يستبدل الرأسمالية والدولة بمجتمع جديد محكوم ديمقراطيا من قبل العمال. وتبحث الأناركية النقابية عن إزالة النظام الاحتكاري الطبقي، وإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، باعتبار هذه الملكية هي سبب نشوء الطبقات الاجتماعية.
تتميز الأناركية النقابية بثلاثة مبادئ أساسية: تضامن العمال، العمل المباشر، والإدارة الذاتية لمنشئات العمل من قبل العمال، كما يظهر أحيانا ذكر لمصطلح الإضراب العام كممارسة ثورية جوهرية لتحقيق الهدف النهائي.
رودولف روكر أحد أهم الأصوات في الأناركية النقابية، حيث قام بكتابة أبحاث مهمة تشرح وجهات نظره حول أصل الحركة، ولماذا يعتقد أنها ذات أهمية لمستقبل العمال نشرها في كتابه 1938 تحت عنوان “الأناركية النقابية”: مع أنَّ نشوء هذه المدرسة تزامن على الأكثر مع نضال العمال في أوائل القرن العشرين خاصة في فرنسا وإسبانيا، فما زال هناك العديد من الحركات الأناركية النقابية فعالة إلى اليوم. إلَّاأنَّ بعض الأناركيين المعارضين لها يحاولون إخراجها من دائرة الأناركيين.
تعارض الأناركية النقابية العمل المأجور، والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وترى أنها تؤدي إلى الانقسامات الطبقية.
يعتقد الأناركيون النقابيون أنَّ العمل المباشر فقط، وهو العمل الذي يتركز على تحقيق هدف مباشر سوف يسمح للعمال بتحرير أنفسهم، في مقابل رفضهم العمل غير المباشر، مثل انتخاب ممثلين للعمال لمؤسسات الحكومة التشريعية والتنفيذية وعلاوة على ذلك، يعتقد الأناركيون النقابيون أنَّ منظمات العمال النقابية والتعاونية، يجب أنْ تقوم على أساس الإدارة الذاتية الديمقراطية المباشرة. ولا ينبغي أنْ يكون الزعماء أو “وكلاء الأعمال”والبيروقراطيون بديلا عن العمال في إدارتها، ويجب أنْ يكون العمال قادرين على اتخاذ جميع القرارات التي تؤثر عليهم بأنفسهم. وأن تسعى النقابات الأناركية للقضاء على نظام العمل المأجور، لا الإبقاء عليه بالاقتصار على تحسين شروطه.
جمعية العمال العالمية، هيَ اتحاد النقابات الأناركية الدولية المكون من مختلف النقابات العمالية الأناركية من مختلف البلدان، وأهم المنظمات المشاركة فيه التعاهدية الوطنية للعمل الإسباني التي لعبت ولا تزال تلعب دورا رئيسيا في الحركة العمالية الإسبانية. وكانت أيضا قوة هامة في الحرب الأهلية الإسبانية. وهناك العديد من المنظمات الأناركية النقابية التي تنشط اليوم، بما في ذلك SAC في السويد، وUSI في إيطاليا، متحدون في عدد من هذه المنظمات عبر الحدود الوطنية من خلال العضوية في جمعية العمال العالمية.
لا تستبعد الأناركية النقابية وغيرها فروع الأناركية، فغالبا ما تشترك الأناركية النقابية مع الأناركية الشيوعية أو الجمعية في أفكارهما. ما يميزها هو ما يقترحه أنصارها باعتبار منظمات العمال الاقتصادية والاجتماعية وسيلة لخلق أسس المجتمع الأناركي غير الهرمي داخل النظام الحالي، وإحداث ثورة اجتماعية من أسفل إلى أعلى، أما النظم الاقتصادية الأناركية، فالأناركية النقابية غالبا ما تأخذ شكل إما نظام اقتصادي أناركي جمعي أو نظام اقتصادي أناركي شيوعي.
عموما فإنَّ الأناركيين الشيوعيون ينتقدون بعض جوانب الأناركية النقابية أو السينديكالية التي تعتبر الإدارة الذاتية لأماكن العمل من قبل العمال أساسية كأهداف للحركة الأناركية، كما أنها ضرورية كوسائل لتحقيق الثورة الاجتماعية حيث تحافظ على العلاقات الاقتصادية التي تقوم على مكافأة الجهد والتبادل.
كما لا تسعى الأناركية النقابية إلى إلغاء النقود في حد ذاتها. يقول رالف شابلن أنَّ“الهدف النهائي من الإضراب العام فيما يتعلق بالأجور هو إعطاء كل منتِج المنتَج الكامل من عمله. إنَّ الطلب على أجور أفضل يصبح ثوريا فقط عندما يقترن ذلك مع المطالبة بتوقف استغلال العمل”.
بالإضافة إلى ذلك، ينظر النقابيون الأناركيون إلى الدولة باعتبارها مؤسسة لاضطهاد العمال. وهم يرون أنَّ الغرض الأساسي للدولة هو الدفاع عن الملكية الخاصة، وبالتالي نشوء واستمرار الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حتى حين تنكر مثل هذا الدفاع فهيَ تمنع مواطنيها من القدرة على التمتع بالاستقلال المادي والحكم الذاتي الاجتماعي فتخضعهم لها بدلا من خضوعهم لرأسالمال. وعلى النقيض من (الماركسية اللينينية على سبيل المثال)، تنكر الأناركية النقابية أنَّه يمكن أنْ يكون هناك أيُّ نوع من دولة للعمال، أو دولة تعمل في مصالح العمال، خلافا لتلك الدولة التي للرأسماليين. وهو ما يعكس الفلسفة الأناركية التي تستمد منها الإلهام الأساسي، حيث أنَّ الأناركية النقابية تتبنى فكرة أنَّ السلطة تفسد في حد ذاتها من يمارسها مثلما تستعبد وتستغل من تمارس عليهم.
الأناركية بدون صفات:
نشأت “الأناركية دون الصفات”، كأحد ردود الفعل ضد الانقسامات الحادة داخل الوسط الأناركي، وهيَ دعوة للتسامح بين الفصائل الأناركية المختلفة، اعتمدها لأول مرة فرناندو تاريدا ديل مارمول في عام 1889 ردا على“المناقشات المريرة” حول النظرية الأناركية في ذلك الوقت. ودعت “الأناركية دون الصفات”، للتخلي عن الأناركيات الموصوفة (أيْ الجمعية، الشيوعية، التبادلية، الفردية)، وسعت إلى التأكيد على فكرة مكافحة السلطوية، وهيَ الصفة المشتركة لدى جميع مدارس الفكر الأناركي.
فالأناركية دون الصفات، مذهب يرفض أيَّ نعوت إضافية، أو وصفية للأناركية، مثل الشيوعي، أو الجمعي، أو المتنافع، أو الفردي أو النقابي، وهو المفهوم الذي يتخذه كثير من الأناركيين ببساطة باعتباره الموقف الذي يؤدي للتسامح والتعايش بين المدارس الأناركية المختلفة بدلا من تصارعها.
تؤكد الأناركية دون الصفات على الانسجام بين مختلف الفصائل الأناركية وتحاول توحيدهم حول المعتقدات المشتركة فيما بينهم لمكافحة الاستبدادية..ويرى أنصارها أنَّ أنواع الأناركية المختلفة قدمت “أساليب مختلفة فقط من الاقتصاد، والإمكانيات العملية والتي حتى الآن لم يتم اختبارها، وأن الهدف الأول هو ضمان الحرية الشخصية والاجتماعية للبشر، بغض النظر عن الأساس الاقتصادي الذي يمكن أنْ يتحقق”.
فولتاريني دي كليري أيضا أناركية دون صفات، وقد عرفت في البداية نفسها باعتبارها أناركية فردية، حتى تبنت في وقت لاحق شكلا من أشكال الأناركية الجمعية، في حين رفضت تحديد نفسها بعد ذلك مع أيٍّ من المدارس المعاصرة. وقالت:“ أفضل شيء للعمال والعاملات العاديين يمكن القيام به لتنظيم صناعتهم للحصول على المال معا، هو أنْ ينتجوا معا، تعاونيا بدلا من انقسامهم بين صاحب عمل وعاملين....والسماح لهم بعلاقات ودية في كل مجموعة، دعونا كلنا نستخدم ما نحتاجه من المنتج، ونودع الباقي في المخزن العام، ونتركه للآخرين الذين يحتاجون إلى تلك البضائع كلما دعت مناسبة”. وعلقت قائلة:“إنَّ الجمعية والشيوعية على حد سواء تتطلب درجة من الجهد المشترك والإدارة التي من شأنها أنْ تمهد الطريق أمام مزيد من التنظيم يتسق تماما مع الأناركية المثالية، في حين أنَّ الفردية وتبادل المنافع والمصالح، يبقوا على الملكية، التي تنطوي على تطوير ظرف خاص لا يتوافق على الإطلاق مع مفهوم الحرية”، على الرغم من أنها لم تصل إلى حد شجب هذه الميول ووصفها بأنها ليست أناركية. “لا يوجد شيء لا أناركي في أيٍّ من [هذه الأنظمة] حتى عنصر الإلزام لا يدخل ويلزم الأشخاص غير الراغبين في البقاء في المجتمع بالترتيبات الاقتصادية التي لا يوافقون عليها”. وكان إريكو مالاتيستا مؤيدا آخر للأناركية دون الصفات، مبينا أنَّ“ليس من الصواب بالنسبة لنا، على أقل تقدير، الوقوع في الفتنة لمجرد أكثر من فرضيات”.
وظهر بعد ذلك اتجاه التوليف الأناركي كبديل تنظيمي عن اتجاه الأناركية البرنامجية الذي لا يقبل بالتعددية الفكرية داخل المنظمات الأناركية، وهو يضم الأناركيين من اتجاهات مختلفة وفقا لمبادئ الأناركية دون الصفات. وفي عشرينيات القرن 20 وجد هذا النموذج رواده الرئيسيين في فولين وسيباستيان فور. وهو المبدأ الرئيسي الكامن وراء الاتحادات الأناركية المتجمعة حول الأممية العالمية المعاصرة للاتحادات الأناركية.
الأناركية البرنامجية:
خلصت مجموعة ديلو ترودا المكونة من الأناركيين الروس المنفيين في باريس، والتي ضمت نيستور ماخنو، إلى أنَّ الأناركيين بحاجة إلى تطوير أشكال جديدة من التنظيم ردا على هياكل التنظيم البلشفية، باعتبار أنَّ افتقادهم للتنظيم الجيد كان سببا في هزيمتهم أمامها. ولذلك أصدروا بيانهم التاريخي في 1926، دعوا فيه إلى (مشروع) المنهج التنظيمي للاتحاد العام للأناركيين، وأيدوا تكوين مجموعات دعاية برنامجية تشمل اليوم حركة التضامن العمالي في أيرلندا، واتحاد شمال شرق أمريكا الشمالية الأناركي الشيوعي.
الأناركية البرنامجية هو اتجاه داخل الحركة الأناركية الأوسع قائمة على النظريات التنظيمية الواردة في البرنامج التنظيمي للاتحاد العام للأناركيين (مشروع) ديلو ترودا. واستندت الوثيقة على تجارب الأناركيين الروس في ثورة 1917، والتي أدت في النهاية إلى انتصار البلاشفة على الأناركيين، والمجموعات الأخرى من الجماعات ذات التفكير المماثل. فقد حاول البرنامج معالجة وتفسير فشل الحركة الأناركية أثناء الثورة الروسية. ولذلك أصدروا هذا الكتيب المثير للجدل داخل الحركة الأناركية التي رأى فيه الكثيرين تراجعا أمام المنتصر وتماهيا معه، ولذلك واجه البرنامج كلا من الثناء والنقد من الأناركيين في جميع أنحاء العالم.
كثير من البرنامجيين (أو البلاتفورميين نسبة للبلاتفورم أو لمسودة البرنامج التنظيمي للاتحاد العام للشيوعيين التحرريين الذي كتبه ماخنو، وعدد من رفاقه في 1926 كنتيجة لتجربتهم في الثورة الروسية) يشيرون إلى أنفسهم كشيوعيين لاسلطويين (أناركيين) رغم أنَّ عددا من الشيوعيين اللاسلطويين (الأناركيين) لا يشعرون براحة من بعض أجزاء وثيقة البرنامج التنظيمي مثل مسألة “المسؤولية الجماعية” التي دعمها ماخنو لكن عارضها مالاتيستا.
أدت البرنامجية لظهور انتقادات شديدة من العديد من القطاعات في الحركة الأناركية في هذا الوقت بما في ذلك بعض الأناركيين الأكثر تأثيرا مثل فيولين، وإريكو مالاتيستا، ولويجي فابري، وكاميلو بيرنيري، وماكس نيتاليو، وألكسندر بيركمان، وإيما غولدمان وغريغوري ماكسيموف. لكن مالاتيستا، بعد معارضته في البداية للبرنامجية، وصل في وقت لاحق إلى اتفاق مع البرنامجية مؤكدا أنَّ الخلاف في الرأي يرجع أصلا إلى الارتباك اللغوي: “أجد نفسي في اتفاق أكثر أو أقل مع طريقتهم في تصور المنظمة الأناركية (الذي يبتعد جدا عن الروح السلطوية الذي بدا أنَّ“البرنامج” يحملها) وأؤكد اعتقادي أنَّ وراء الاختلافات اللغوية التي أدت للجدال تكمن حقا مواقف متطابقة”. وقدم سيباستيان فور وفيولين نصين لهما كردين على البرنامج، واقترح كل منهما نماذج مختلفة، هي الأساس لما أصبح يعرف باسم تنظيم التوليف، أو ببساطة التركيبية، فيولين نشر في سنة 1924، ورقة تدعو إلى“توليف الأناركية” وكان أيضا قد كتب مقالا في الموسوعة الأناركية حول نفس الموضوع، وكان الهدف الرئيسي من وراء التوليف أنَّ الحركة الأناركية في معظم البلدان تم تقسيمها إلى ثلاثة توجهات رئيسية: الأناركية الشيوعية، والأناركية النقابية، والأناركية الفردية، وهكذا فمثل هذا التنظيم يمكن أنْ يحتوي على الأناركيين من هذه النزعات الثلاثة بشكل جيد للغاية. أما فور في نصه “التوليف بين الأناركيين”، فكان رأيه أنَّ“هذه التيارات ليست متناقضة لكنها متكاملة، ولكل منها دور في الأناركية: الأناركية النقابية تطرح قوة منظمة للتغيير هيَ المنظمات الجماهيرية النقابية، وهيَ أفضل وسيلة لممارسة الأناركية، ووضعها على المحك العملي، الشيوعية التحررية تقترح مجتمع المستقبل على أساس توزيع الثمار وفقا لاحتياجات كل شخص،الأناركية الفردية بمثابة نفي الظلم والتأكيد على حق الأفراد في تنمية ذواتهم، والسعي لإرضائهم في كل شيء، ولقيَ برنامج ديلو ترودا في إسبانيا أيضا انتقادات قوية من ميغيل خيمينيز، أحد الأعضاء المؤسسين للاتحاد الأناركي الأيبيري (FAI)، لخصه على النحو التالي:
نظرا للتأثير الكبير جدا للماركسية فيه، فإنه يقسم ويختزل بشكل خاطئ الأناركيين بين الأناركيين الفرديين والأناركيين الشيوعيين، وأنَّه يريد توحيد الحركة الأناركية على طول خطوط الأناركية الشيوعية، أما هو فيرى الأناركية باعتبارها أكثر تعقيدا من ذلك؛أنَّ الميول الأناركية لا يستبعد بعضها بعضا كما يرى البرنامجيون، وأنَّ كلا من الفردانية والآراء الشيوعية يمكن أنْ تستوعبها الأناركية النقابية. وكان سيباستيان فور له اتصالات قوية في إسبانيا، وحتى أنَّ اقتراحه كان أكثر تأثيرا في الأناركيين الإسبان من برنامج ديللوترودا على الرغم من التأثير الأناركي الفردي في إسبانيا كان أقل قوة مما كان عليه في فرنسا، والهدف الرئيسي كان هناك دمج الأناركية الشيوعية مع الأناركية النقابية.
الأناركية المتمردة:
هي نظرية ممارسة أناركية ثورية، واتجاه داخل الحركة الأناركية يؤكد على التمرد العنيف في الممارسة الأناركية. وينتقد المنظمات الرسمية مثل النقابات والاتحادات والأحزاب العمالية التي تستند على برنامج سياسي، والمؤتمرات الدورية التي تحدد مواقف الحركة وتوجهاتها. وبدلا من ذلك، يدعو الأناركيون التمرديون إلى منظمات سرية غير شرعية، وجماعات ألفة صغيرة العضوية. ويركز الأناركيون التمرديون في الهجوم على المؤسسات الحكومية والرأسمالية وأعمال التخريب، والانخراط في الصراع الطبقي الدائم، ورفض التفاوض أو المساومة مع الأعداء الطبقيين..ورافق هذا الاتجاه المناهض للإصلاحيين توجهات معادية للتنظيم، وأعلن أنصارها أنفسهم أنهم مع التحريض بين العاطلين عن العمل لمصادرة المواد الغذائية، وغيرها من المواد، وللإضراب لنزع الملكية، وفي بعض الحالات، أعمال “الإرهاب”.
في عام 1876، في مؤتمر برن لجمعية العمال الدولية، ناقش الأناركي الإيطالي إريكو مالاتيستا فكرة أن الثورة “تتكون من الأفعال أكثر من الكلمات”، وكان الإجراء العملي هو الوسيلة الأكثر فعالية في الدعاية، وأعلن في نشرة اتحاد جورا:“يعتقد الاتحاد الإيطالي أنَّ حقيقة تمردية، متجهة إلى تأكيد المبادئ الاشتراكية التي كتبها الفعل، هي الوسيلة الأكثر فاعلية للدعاية”.
ورثت الأناركية المتمردة المعاصرة آراء وتكتيكات مكافحة التنظيمية واللاشرعية القديمة في الحركة الأناركية نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وينتقد “الأناركيون التمرديون”، النقابات العمالية الأناركية، والاتحادات الأناركية، ويدعون لتنفيذ أعمال المقاومة العنيفة في مختلف النضالات. والمنظرين الهامين للأناركية التمردية ولفي لاندشتريشر وألفريدو ماريا بونانو، وله مؤلفات من بينها “الفرح المسلح”و”التوتر الأناركي”. ويمثل هذا الاتجاه في الولايات المتحدة في مجلات مثل العصيان المتعمد.
لكن يلاحظ عموما أنَّ عنف التمردية الحديثة أقل دموية بكثير من التمردية القديمة، وجماهيري جماعي أكثر منه فردي بطولي، موجهة للإضرار بالأشياء لا بالأشخاص، فالعنف لديهم لا يتعدى تدمير واجهات الشركات الزجاجية للشركات والبنوك، ومؤسسات الدولة، وتعطيل المرور، وحماية المظاهرات من قمع الشرطة، أو ممارسة أشكال استعراضية تهكمية أثناء التحركات الجماهيرية في الشوارع والمياديين كقنابل الألوان، واستفزاز وانهاك رجال الشرطة القمعية، وغيرها مما لا يلحق أذًى بأيِّ إنسان.
الأناركية السلمية ومناهضة العسكرية:
الأناركية السلمية هيَ الاتجاه الذي يرفض العنف في النضال من أجل التغيير الاجتماعي، ولها وجود قوي في الحملات المتلاحقة لنزع السلاح من العالم، وعلى رأسها السلاح النووي، وتتقدم الصفوف في معارضة الحروب، وظهرت في هولندا وبريطانيا، والولايات المتحدة، قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية”. وترفض تماما استخدام العنف بأيِّ شكل من الأشكال لأيِّ غرضٍ من الأغراض، ورائدها الرئيسي هنري ديفيد ثورو، الذي من خلال عمله العصيان المدني أثر على حد سواء في كل من ليو تولستوي والمهاتما غاندي في تبنيهما المقاومة اللاعنفية.
كان استخدام العنف دائما مثيرا للجدل في الأناركية. ففي حين أنَّ العديد من الأناركيين خلال القرن الـ19 تبنوا دعاية الفعل العنيفة السابق الإشارة إليها عند مناقشة الأناركية التمردية، فقد عارض ليو تولستوي وغيره من دعاة الأناركية مباشرة العنف كوسيلة للتغيير. مستندا على أنَّ الأناركية يجب أنْ تكون بطبيعتها لاعنفية، لأنها بحكم التعريف، معارضة للقهر والقوة، وأنه لما كانت الدولة عنيفة بطبيعتها، فيجب أنْ تكون الأناركية مسالمة بطبيعتها بالمثل. وفلسفته تعتبر مصدر إلهام كبير لغاندي، زعيم الاستقلال الهندي وداعية السلام الذي عرف نفسه باعتباره أناركيًا.
وكان لفرديناند نيوفنهويس أيضا دور فعال في تأسيس الاتجاه السلمي داخل الحركة الأناركية، وفي فرنسا في ديسمبر 1902 كان جورج يفتو واحدا من مؤسسي رابطة ضد العسكرة الفرنسية، جنبا إلى جنب مع زملائه هنري بيلي، وبراف جافال، وألبرت ليبرتاد وإميل جانفو. وأصبحت رابطة ضد العسكرة القسم الفرنسي للجمعية الدولية ضد العسكرة (AIA) التي تأسست في أمستردام في عام 1904.
يعتبر معظم الأناركيين معارضتهم للنزعة العسكرية متأصلة في فلسفتهم الأناركية. وأخذ بعض الأناركيين المبدأ لأبعد من ذلك، واتبعوا اعتقاد ليو تولستوي في اللاعنف (مع ذلك فإنَّ الأناركيين السلميين ليسوا بالضرورة أناركيين مسيحيين كما كان تولستوي)، ويدعون إلى المقاومة غير العنيفة باعتبارها الطريقة الوحيدة لتحقيق ثورة أناركية حقا.
غالبا ما يصور الأدب الأناركي الحرب كنشاط تسعى عبره الدولة للحصول على السلطة، وتوطيد السلطة، سواء محليا أو في أراضٍ أجنبية. ولذلك يشارك كثير من الأناركيين الرأي مع راندولف بورن أنَّ“الحرب هي تضحية لصالح صحة الدولة” كما أنَّ السلام هو مرضها. ويعتقد أناركيون آخرون أنهم إذا دعموا الحرب فإنهم يدعمون الدولة في الواقع، ومن ثم نشأ نفور الأناركيين الآخرين من بيتر كروبوتكين رغم مكانته بينهم، عندما أعرب عن دعمه البريطانيين ضد الألمان في الحرب العالمية الأولى، اعتقادا منه أنَّ سلطوية الألمان أشد وطأة من سلطوية الإنجليز.
يرفض الكثير من الأناركيين في الحركة الحالية السلمية الكاملة، وبدلا من ذلك يفضلون الدفاع عن النفس، وممارسة العنف أحيانا ضد القوات القمعية والإجراءات الاستبدادية باعتباره عنفا دفاعيا. ويشكك معظم الأناركيين في إمكانية الفوز في نزاع مسلح مباشر مع الدولة، ولذلك يهتمون في الغالب بالتنظيم الاجتماعي الاقتصادي الأناركي من هامش وباطن المجتمع الحالي من أسفل لامتلاك القدرة المادية على إسقاطها بدون الاضطرار لممارسة العنف في مواجهتها.
أناركية ما بعد اليسار:
أناركية ما بعد اليسار هيَ تيار ظهر مؤخرا في الفكر الأناركي يشجع على نقد علاقة الأناركية بالسياسة اليسارية التقليدية. ويسعى أناركيو ما بعد اليسار إلى التحرر من قيود الأيديولوجيا في العموم، ويقدمون أيضا نقدا للمنظمات اليسارية و نقد الأسس الأخلاقية للأناركية تأثرا بأعمال ماكس شتيرنر، والماركسية الأممية الوضعية، وتتميز حالة الأناركية ما بعد اليسار بالتركيز على التمرد الاجتماعي، ورفض التنظيم الاجتماعي اليساري.
انخرطت المجلات الأناركية: مثل الرغبة المسلحة، و الأناركية الخضراء في تطوير أناركية ما بعد اليسار. أما الكتاب الفرديين المرتبطين بهذا الاتجاه فمنهم حكيم باي، وبوب بلاك، وجون زرزان، وجيسون ماكوين، وفريدي بيرلمان، ولورانس جاراش والشبكة المعاصرة للتعاونيات CrimethIncهيَ الشارحة لوجهات نظر أناركية ما بعد اليسار.
ادعت حركة أناركية ما بعد اليسار أنَّها تسعى لتنأى بنفسها عن “اليسار” التقليدي - الشيوعيين والاشتراكيين والديمقراطيين الاجتماعيين، وما إلى ذلك - والتحرر من قيود الأيديولوجية بشكل عام. ويقول الأناركيون ما بعد اليساريين إنَّ الأناركية قد ضعفت عن طريق التصاقها الطويل بالحركات “اليسارية”، وقضايا الأسباب الواحدة (المناهضة للحرب، المناهضة للأسلحة النووية، وما إلى ذلك). وتدعو لتركيب الفكر الأناركي، والحركة الثورية المكافحة للسلطوية خارج الوسط اليساري على وجه التحديد. المجموعة الهامة والأفراد المرتبطين بأناركية ما بعد اليسار تشمل، مجلة الفوضى: مجلة الرغبة المسلحة ورئيس تحريرها جيسون ماكوين، بوب بلاك، حكيم باي وغيرهم.
ما بعد الأناركية:
ما بعد الأناركية هى الخطوة النظرية نحو توليف نظرية الأناركية الكلاسيكية، والفكر ما بعد البنيوي، مستفيدة من الأفكار المتنوعة بما في ذلك أفكار ما بعد الحداثة، والاستقلالية الماركسية، وأناركية ما بعد اليسار، والأممية المواقفية، وما بعد الاستعمارية.
وقد نشأت مرحلة ما بعد الأناركية كمصطلح من قبل شاول نيومان، والذي حصل فورا على اهتمام شعبي بسبب كتابه "من باكونين إلى لاكان"، للإشارة إلى الخطوة النظرية نحو توليف نظرية الأناركية الكلاسيكية والفكر ما بعد البنيوي. وبعد استخدام نيومان للمصطلح، فقد أخذ في الحياة من تلقاء نفسه، مع مجموعة واسعة من الأفكار بما في ذلك ما بعد الحداثة، والاستقلالية الذاتية، وحالة الأناركية ما بعد اليسار، والمواقفية، وما بعد الاستعمار، والزاباتية. و ترفض ما بعد الأناركية فكرة أنَّه ينبغي أنْ يكون هناك مجموعة متماسكة من المذاهب والمعتقدات. وعلى هذا النحو فإنَّه من الصعب، إنْ لم يكن من المستحيل القول بأيِّ درجة من اليقين ما الذي ينبغي أو لا ينبغي أنْ يصنف تحت عنوان الأناركية. المفكرون الرئيسيون الذين يرتبطون مع مرحلة ما بعد الأناركية يشملون شاول نيومان، تود مايو، لويس كول، جيل دولوز، فيليكس جيوتار وميشيل أونفراي.