أوراق مطر مسافر للأديبة نسب أديب حسين

بطرس دلة
الحوار المتمدن - العدد: 4236 - 2013 / 10 / 5 - 12:53
المحور: الادب والفن     

الكاتبة نسب اديب حسين ابنة الرامة ليست ظاهرة جديدة على الساحة الادبية . فقد أصدرت روايتها الاولى "بعنوان الحياة الصاخبة" عام 2005، كما أصدرت مجموعتها القصصية الاولى "مراوغة الجدران" عام 2009 وكانت قد أنشأت متحفًا عن قريتها الرامة الجليلية على اسم والدها الدكتور أديب حسين, كما نشرت العديد من المواد الادبية في الصحف المحلية الى جانب عدد من القراءات النقدية لكبار الأدباء من امثال محمود شقير وجميل السلحوت ويحيى يخلف وغيرهم .
هذه المجموعة من القصص القصيرة والتي صدرت هذا العام 2013 عن دار الجندي في القدس والتي يديرها الدكتور سمير الجندي, تختلف عما عهدناه عند كتاب القصة القصيرة المحليين, فهي تحلق في سماء الكلمة وفي رحلة معمقة ممتعة، تبحث عن خبايا نفوس شخوصها فتعيش معهم ماضيًا مضى وحاضرًا لا يستطيع الانفلات من ذلك الماضي ويعيش على ذكريات الماضي بما فيها من معاناة ومشاكل. فلا تنسى أنّها فلسطينية الانتماء تتماهى مع قضايا شعبنا العربي الفلسطيني فيمضها الشوق الى يوم يتحرر فيه هذا الشعب من عبودية المحتل او من صلفه ومنعه من حق التحرر واقامة دولة فلسطين العتيدة اسوة بباقي شعوب العالم , خاصة لأن جميع قضايا اللاجئين قد وجدت حلولا لها أمّا قضية اللاجئين الفلسطينيين فلم تجد لها حلا منذ خمسة وستين عاما !!! فأين العدالة الدولية وأين الضمير الانساني ؟؟؟
تضم هذه المجموعة إحدى وعشرين قصة قصيرة. وفي تعريفه للقصة القصيرة يقول الصديق الاستاذ محمد هيبي أبو المعتصم والذي يعد كتابة رسالة البحث للقب الثالث الدكتوراة , يقول ما يلي:
"القصة القصيرة هي فن أدبي نثري سردي لا بد أن يكون قصيرًا نسبيًا بحيث تمكن قراءته دفعة واحدة وليس على مراحل. ولا بدّ أن تُحدث تأثيرًا وانطباعًا في نفس القارئ أو المتلقي بحيث يجعله يتعاطف أو يتساءل، أو كليهما معًا، ولا بدّ كذلك أن يخضع لقواعد ما كنت لأقول "صارمة" ولكن تحافظ على الأقل على الحبكة بعناصرها الخمسة الاساسية وهي :
الزمان، المكان، الشخصية (الشخصيات)، الحدث (الاحداث) والراوي.
هذه العناصر لا يمكن لأية حبكة قصصية أن تستغني عن واحد منها، كما أنّه لا بدّ من تجديد كمّيّ ونوعي لكي لا نعدم التمييز، بينها (أي القصة القصيرة) وبين أمثالها من فنون القص المختلفة وعلى رأسها الرواية".
يجب أن نذكر هنا أيضًا أنّ هذا الفن لا يأخذه العرب عن أدب الغرب كما قد يدعي البعض وذلك لأنّ له جذورا عميقة في أدبنا العربي كما في مقامات بديع الزمان الهمذاني مثلا وفي قصص ألف ليلة وليلة الشهيرة، وقصص أيام العرب عن الغزو والفتوحات العربية وغيرها.
المؤلفة الأخت نسب أديب حسين تصور في هذه القصص موضوع معاناة الانسان الفلسطيني في ظل الاحتلال الى جانب معاناة قلب المرأة أو العاشقة وحبها وأحلامها. انّ لها عينا فاحصة ازاء ما تلمسه من قضايا ومشاكل حياتية يعيشها أبطالها، وهي لا تستطيع أن تغمض عينيها وهي ترى التمييز الفاضح والصارخ ضد الانسانية وضد الانسان الفلسطيني لمجرد كونه فلسطينيًا!
عند قراءة هذه المجموعة وجدنا أنّ المؤلفة تضع نفسها في مكانة الراوية حيث تتفنن في أسلوب اشرد وابحث عن الكلمات التي تحمل أكثر من معنى, فتضفي عليها هالة من السمو لتصبح سهلة الهضم الى جانب بعض التغريب أو التعتيم في بعض القصص لتجعل القارئ يلهث خلف معاني النصوص في كل قصة من جديد.
هكذا وجدتني في القصص الأولى أعود لقراءة كل قصة من جديد بسبب القفزات النوعية التي تمارسها الكاتبة بين الجملة والأخرى. إنّها أي المؤلفة تحلق في هذه القصص خاصة القصص الأولى، وتوصل القارئ من حيث لا يدري الى أهدافها الايجابية، فهي ملتزمة كل الالتزام في كتابة الأدب المقاوم، الأدب الذي يأخذ بيد القارئ العادي فيحوّله الى قارئ ناقد و/أو ناقم على أوضاع يعيشها ابطال هذه القصص. إنّها تحاول بشكل متواصل الكشف عن خبايا نفوس أبطالها لتصل بهم الى عالم أكثر حياة وأكثر جمالا بالرغم من المعاناة التي يعيشها أبطالها .
في قصتها الاولى "احتمالات قليلة ... مسافات اقصر" تحاول الكاتبة البحث عن عنصر المفاجأة بعد تأزيم الموقف بين العجوز التي صعدت الى الحافلة وبين الشاب الذي لم يقف ولم يعرض عليها الجلوس مكانه! بعد هذا التأزيم تكتشف العجوز او نكتشف نحن أنّ ذلك الشاب ذو عاهة، وهو بحاجة الى من يسنده عندما يترجل من الحافلة فتمدّ له العجوز يد المساعدة عندما تكتشف أنّه مصاب بعاهة لا تمكنه حتى من الوقوف والترجل من الحافلة وحده !
وإمعانًا من الكاتبة في التشفي يكتشف الشاب أنّ العجوز إياها هي الطبيبة التي سوف تعاينه لتقدم له الدواء ! وعلى الرغم من أنّها حاولت ان تطمئنه عن حالته الصحية وان تلك الحالة قابلة للشفاء الا انه لم يكن ينصت لها بكل حواسّه لأنّ شيئا ما كان يقلق باله ويشغله في غرفته التي في البيت .
وتضيف الكاتبة أنّه كان على تلك العجوز (الطبيبة) أن تكتشف ما ترسب في عظامه من حرائق تنهشه ببطء وتجعله عاجزًا أكثر منها. هنا يكمن عنصر القوة في هذه القصة! لأنّ هذه النهاية لم تكن متوقعة البتّة! فكيف اهتدت اليها الكاتبة وبهذه المفارقة القوية؟!
عنصر السخرية ( الايرونيا ) :-
في قصتها الثانية "هواجس عند مدامع المدينة"، تصل الكاتبة الى السخرية في مقارنتها بين العصافير والآدميين إزاء الجدار الفاصل الذي أقامته سلطات الاحتلال الاسرائيلي ليقسم المدن الى أقسام ويمنع التواصل فيما بينها لتحولها الى سجون واسعة او كانتونات تضيق الخناق على السكان الفلسطينيين. فإذا ما ارتفع صوت المؤذن في المدينة أو القرية العربية أية شكوى سيتقدم بها أحد المستوطنين اليهود الى محكمة العدل العليا لتفرض السجن على الريح، التي يجب ألا تحمل صوتا عربيا الى هنا او هناك – والمقصود هو صوت الأذان! وتضيف ساخرة في الصفحة المقابلة عن الجدار الفاصل فتقول (ص-27 ): "هل تأذى وطن العصافير؟ هل تنام في جهة وترحل الى الجهة الأخرى في الصباح؟ هل يستوقفها الجدار ويطالبها بإبراز الهوية؟ هل تبذل جهدًا أكبر كي تعبره أم أنّه مجرد بناء قائم لا يعنيها؟؟!! " ضمير الغائبة هنا يعود الى العصافير التي لا تعرف حدود البشر لأنّها مزودة بالأجنحة التي تهزأ من الجدران كل الجدران حتى جدران السجون !! وعندما تلتقي بطلة القصة بالأطفال اليهود يتأرجحون تتمنى ان تنظر الى السماء وتعبّ الهواء... وأن تكون كما كانت في طفولتها تتمنى ان تحملها الارجوحة بعيدا لتطير... لتطير وتكون كما هي العصافير" (ص- 27).
هكذا إذن تخرج البطلة في هذه القصة عن النمط النموذجي للقصة وتترك المجال واسعًا أمام خيال القارئ! فهل تتماهى مع أمنيتها ام لا؟! أعتقد أنّ الكاتبة قد زودت القارئ بكل العناصر التي تقيد توجهه وتفكيره ليسير باتجاه واحد نحو التماثل مع ما تريد بطلة هذه القصة وكذلك المؤلفة، تريد أن تتأرجح في الهواء وتنطلق بعيدًا وعاليًا الى أن تتحقق الامنيات؟
هي اسمال ذاكرة :
إنّ انتقاء أسماء القصص لدى الاخت نسب حسين فيه الكثير من القوة والايحاء. إنّها تطلق على قصصها أسماء غريبة وغير مألوفة لجمهور قرائنا فتأخذ القارئ الى تقصّي المعاني وبقوة. فالقصة هنا على دراميتها بدت فيها ملامح قسوة الكاتبة التي دفنت أحاسيس بطلتها بعنادها! إنّه- أي فتى الاحلام – يحبها حقًا وليس من حقها أن تعاقبه مع أنّها تكنّ له كل الحب في داخلها, فأي قلب حديدي هذا الذي ينبض في صدرها ويتمنع على الحبيب؟؟!! لقد بذل هذا الحبيب قصارى جهده كي يبين لها مقدار حبه لها وتعلقه بها ! فهل كانت على موعد مع حبيب آخر يسكن قلبها وكانت قد يئست من مصارحته لها بحبه الحقيقي؟؟! إنّها فتاة ينبض قلبها بالحب الجارف ولكنّها تدوس على قلبها وتحطم حبها وكأنّ الحب قد بات ثانويًا لديها وهو ليس سوى ذكريات هي أسمال بالية مطلقة بعنادها فهجرته وكسرت قلبها.
القصة التالية بعنوان "جدائل الالحان والحروف" تنحو فيها الكاتبة نحوًا مغايرًا! وتنهيها نهاية طبيعية حيث يطرق الحب باب قلب البطلة ويقرب البعيد لتعيش معه اجمل ساعات وايام عمرهما ! لذلك فان عنوان القصة فيه روعة ونهايتها السعيدة اكثر روعة !
شجرة الزنزلخت :-
في هذه القصة مجموعة من التعابير الفنية التي تتقنها الكاتبة كقولها (ص – 46)
"وصرتُ كلما أعود أجد الشجرة تكبر ومعها يكبر وطن جديد للعصافير"! إنّها أي المؤلفة تخرج من جديد على النمط النموذجي للقصة القصيرة, فشجرة الزنزلخت مؤنسنة – أي تصبح إنسانة – لها ذكريات حبيبة الى قلب بطلتنا, إلا أنّ منشار الجار كان أقوى من كل الذكريات! وليس مهمًا إذا كان هذا الجار عربيًا أو مستوطنًا. فالهدف من هذه المقابلة هو إظهار وحشية الانسان ازاء حنان وعطف الشجرة التي لا تنسى ملاعب الصبا تحت أغصانها ولا رقصة العصافير فوق وبين اغصانها ! اما المحتل الذي يمثله الجار هنا فليس له قلب يشفق على تلك الشجرة !
في قصة "وميض عند الهاوية" (ص– 48) تتحدث الكاتبة عن المستوطنين الذين يدوسون بأقدامهم الهمجية طرابين اللوز والحبق مقابل حساسية بطلة هذه القصة ومشاعرها الشفافة كمعلمة إزاء تلميذها! إنّه الالتزام من جديد فهل تستطيع التحرر منه؟ ولذلك فهي تؤكد تمسكها بالأرض الفلسطينية وبحق العودة الذي هو أحد الثوابت الفلسطينية التي لا تنازل عنها .
التناصّ :-
التناص هو أن يعود الكاتب أي كاتب الى قول أو مثل أو فكرة أو عبارة في إحدى الكتابات الكلاسيكية الشهيرة التي قد يكون تأثر بها فيعيد استعمالها بشكل أو بآخر. والمؤلفة في هذه المجموعة تتأثر بقصيدة الشاعر محمود درويش" لن تأتي". إنّها تتخيل الشاعر أو الحبيب يقفُ مقابلها مع انّه مرّ عليها زمن لم تر عينيها في عينيه، ولم يبق في تلك اللحظة القصيرة الفارقة متسع لفواصل زمنية صغيرة، وهكذا تضيف (ص-53) "استدار... راح يضيع همس العبارة وراح وهج من عينيه يستبيح الابيات".
هذا هو الحب الحقيقي الذي تعيشه فتاة مراهقة تسحرها كلمات الشاعر الشفافة.
قوة الكلمة :-
في قصتها "خيمة " تقارن الكاتبة بين خيمة المستوطن وخيمة اللاجىء في مخيم اللاجئين! وتلجأ الى كلمة " سليخا" (هكذا بلفظ الخاء بدلا من الحاء) لتؤكد أنّ صاحبة الخيمة الأخرى يهودية وهكذا تقلب مضمون الخيمة والقصة بكلمة واحدة هي "سليخا" اي عذرًا! وليفهم القارئ البعد الحقيقي بين الواقع المرغوب والواقع القائم !
ذروة القصص " شتاء آخر دونك " ( ص – 74 ) :-
أعتقد أنّ هذه القصة هي أجمل ما في هذه المجموعة لسببين:
الأول لأنّها خفيفة وقصيرة، والثاني لأنّها جميلة السرد يضاف الى ذلك انّها قد تكون واقعية جدًا، أو أنّ الكاتبة عاشت احداثًا أو إحدى صديقاتها قد مرّت بمثل تلك التجربة. فالبطلة الراوية هي فتاة عاشقة ولكنّها حزينة، ينتابها البكاء حتى في المكان العام أي في المقهى عندما تجلس وحيدة تشرب قهوتها فتسقط دمعتها الحرّى في فنجان القهوة، ويتساءل جلاس المقهى عن سبب بكائها. هنا في هذه اللحظات تشعر الكاتبة الراوية أنّ الانفجار أصبح ممكنًا، لأنّه لا احد في ذلك المكان سيحاول لملمة شظاياها أو إيقاف دويّها، كما أن لا احد يقيد أو يحكم على كلماتها الداخلية بالصمت حتى وإن سمع صداها .. اخيرًا نكتشف أنّها مخطوبة لأسير محكوم بالأسر مؤبدين!! فبات الجميع يفهم معنى أن تجلس فتاة وحدها في ركن من أركان المقهى تشرب قهوتها بفنجان واحد وحيد فتسقط دمعتها في قهوة الفنجان.
هنا أقول : أيتها العاشقة المميزة! عالمك خيالي لا سقف له، فيه عبقرية هي توأم الجنون! تهيمين في مساحات البوح على مدى حدود اللانهاية مع فارس احلامك، تغازلين الصمت على صهوة الكلام، هكذا وهكذا فقط ترتوي الجداول حبًا، بشرًا، املا وجلّنار، يهبط عليك الوحي فتشتعلين كاشتعال النار في الهشيم اليابس في غمرة المطر المسافر عامًا بعد عام. إنّها النار الأزلية التي تهزّ الكيان فيغسلك الشوق لتتنشفي بالنور الذهبي وتزدادين تألقًا بأجملِ الكلمات التي لا تنتهي إلا بالدمعة الساخنة عندما تخرج تلك الكلمات بإحساس ما بعده إحساس! ويظل فارس الاحلام قابعًا وراء الاسلاك فتعرفين حينئذ أنّ الألم والوجع هما سيمفونية ربيعية مثيرة للأحلام تساعدك على الانعتاق من لا زمكانية المكان! فهل يأتي الدفء من البرد وأمام روّاد المقهى؟!
أنت تعشقين الحرف وتجعلين منه سيّدًا لأحلامِك وأنا أريد أن أهديك شيئًا من عطر النيناريتشي لتتعطري به ولكن لا تتنشفي لأنّه سيبقى الى أبد الآبدين. أنت ايتها الاديبة الواعدة تسيرين مع المطر المسافر في دروب الكلمة المكتوبة. لديك موهبة واعدة كما كتب معالي وزير الثقافة السابق يحيى يخلف، وأنا أتفق مع الأديبين الكبيرين جميل السلحوت ومحمود شقير بأنّه سيكون لك شأن كبير في الابداع القصصي في المستقبل. حقق الله الاماني .
لك الحياة !

د. بطرس دلة