ألاغتراب والعلاقة الجدلية بين الاقتصادي والسياسي بالمفهوم الماركسي


خليل اندراوس
2010 / 6 / 24 - 15:00     

توصّل ماركس في كتابه "الايديولوجيا الالمانية" (1845م)، الى تحديد الاشكالية الجديدة لاعادة انتاج الشروط الاجتماعية للانتاج واشكاله التاريخية. فالظواهر التاريخية هي اشكال متنوعة ومعقدة ومترابطة بشكل جدلي للصراع الطبقي. ومجموع الصراعات الطبقية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والايديولوجية مرتبطة بشكل جدلي مع تطور وسائل الانتاج وعلاقات الانتاج.
وكتاب ماركس "بؤس الفلسفة" "يمتاز بخاصية نظرية فلسفية لان ماركس في هذا الكتاب يؤكد بان الصراع الطبقي الذي يخوضه رأس المال يوميا في الانتاج وعلاقات الانتاج ضد العمل المأجور، هو الذي يجعل العمل وقيمته الزائدة انتاجا للربح ولتراكم رأس المال. وهو الذي يثوّر العمل والطبقة العاملة ويخلق التناقص الجدلي بين الملكية الخاصة وتطور وسائل الانتاج، ونضال الطبقة العاملة اليومي يضع النمط العام لأفق النضال السياسي المستجد والمتطور دائما والذي لا يستهدف الوصول الى سيطرة طبقية جديدة، بل يستهدف الغاء العمل المأجور من خلال الغاء الملكية الخاصة على وسائل الانتاج، و"استبدال المجتمع المدني السابق بمستجد يتنافى مع وجود الطبقات وتناقضها". (بؤس الفلسفة).
ولان ماركس اعتمد دائما على التحليل والجدل، لذلك كان دائما يبتعد عن رواسب التنبؤات المطلقة، لذلك رأى بالصراع الطبقي صراعا سياسيا من اجل الغاء "السلطة السياسية بمعناها الحصري" التي هي "الخلاصة الرسمية لتناقض المجتمع المدني" (كتاب بؤس الفلسفة).
لا شك بان احداث مرحلة 1848 الثورية قدمت لماركس من خلال الفهم المادي للتاريخ، امكانيات التحليل الجدلي النظري لنمط الانتاج الرأسمالي في سياق فهم الدائرة السياسية والتي تعمل تبعا لمجتمع طبقي استغلالي، بشكل دولة تخدم الطبقة البرجوازية المستغلة لباقي طبقات وشرائح المجتمع البرجوازي وخاصة الطبقة العاملة.
منذ ذلك التاريخ يأخذ "البيان الشيوعي" اهميته الفعلية فهو ينجح في استخدام هذه المعرفة في المادية التاريخية في تحليل نقدي جدلي للعلاقة بين الاقتصاد والسياسة، وتمثل النصوص التاريخية لماركس في الجريدة الرينانية الجديدة، وكتابه 18 من برومير لويس بونابرت، قفزة نوعية في وضع مخطط لنظرية علاقة السياسي/ الاقتصادي الماركسية. ففي هذه المؤلفات اوضح ماركس امتياز الشكل السياسي للدولة بثناية اساسية فهو يمثل من جهة اكثر المؤسسات السياسية ارتباطا بسيطرة الطبقة البرجوازية، موسعا القواعد التي تجعل هذه الطبقة قادرة على ان توحد حولها شتى المصالح (الصراعات الطبقية في فرنسا). وتسمح الدمقراطية السياسية، من جهة اخرى، ولهذا السبب نفسه، للبروليتاريا بتطوير الصراع الطبقي الذي يتميز به، نمط الانتاج الرأسمالي وتصبح بفضل ذلك افضل ميدان للثورة". (المرجع نفسه- الصراعات الطبقية في فرنسا).
وحول العلاقة بين الاشكال السياسية واشكال الاستغلال تؤكد الماركسية بانه ليس هناك رابط منتظم آليًّا، بين السيطرة الطبقية البرجوازية وشكل هذه السيطرة السياسي. بل هذه العلاقة جدلية متغيرة. فالدمقراطية والبرجوازية تتطوران معا، طالما ان الدمقراطية تضمن الجوهر الاقتصادي لسلطة البرجوازية. فالبرجوازية كطبقة تمتلك السلطة والسيطرة الاقتصادية والسياسية، ومن اجل انقاذ مصالحها الطبقية، تستطيع ان تغير اشكال سيطرتها السياسية بان تعهد بسلطتها الى ممثلين يمكنهم ايضا معاكستها سياسيا وتعليمها بقسوة اين تكمن مصلحتها. يجب على البرجوازية ان تفقد تاجها بالضرورة، ان هي شاءت المحافظة على سوقها المالي (ماركس- برومير لويس بونابرت).
فالدولة في بنيتها لا يمكن ان تكون واقعا ثابتا، بل شكل الدولة يحتمل تغييرات هي نتاج ورهان الصراع الطبقي السياسي. ففي نمط الانتاج الرأسمالي توجه الطبقة المسيطرة، بطريقة دائمة، بمهمة تطوير الدولة وتغييرها، بحيث يمكن للدولة ان تضع قواعد المجتمع، وتدرج في نشاطها كل المجتمع بتناقضاته وصراعاته الطبقية الاقتصادية. لذلك نقول بان ماركس، قد اشار، قبل لينين، الى ان الصراع الطبقي السياسي هو التعبير المركز والمكثف عن الصراع الطبقي الاقتصادي. ولهذا الصراع اولوية بالنسبة للبرجوازية، ذلك انها وحدها، التي تسمح للدولة باحتواء المجتمع، في الوقت الذي تتعارض فيه معه، وذلك وفق طرق تتطلب تخصصا ومركزه خارقين لآلتها (18 برومير.. ص100 حول البيروقراطية الحديثة). فالجمهورية البرجوازية هي الشكل السياسي الذي يسمح، في ظل ادارة الدولة، بتوحيد شتى شرائح الطبقات المسيطرة، فهي تقدم ميدانا لتركيب مصالحهم، وتوحد الطبقة المسيطرة في وجه الطبقات المسيطر عليها. ولكن في نفس الوقت الجمهورية الدمقراطية البرجوازية هي الشكل السياسي الاكثر ملاءمة لتطوير وترسيخ البرجوازية الصناعية، لذلك في نفس الوقت هي الاكثر قابلية لتشجيع انطلاق الطبقة العاملة (الصراعات الطبقية في فرنسا)، فكما كتب ماركس تسمح سيطرة البرجوازية المعممة للبروليتاريا "برفع ثورتها الى مصاف الثورة القومية" و"باستئصال الجذور المادية للمجتمع الاقطاعي" وبتمهيد الميدان الوحيد الذي يمكن ان تقوم فيه ثورة بروليتارية. وهذه هي العلاقة الجدلية بين الطبقة البرجوازية والبروليتاريا في الدولة البرجوازية "الدمقراطية".
ومن هذا المنطلق فان الطبقة العاملة هي جوهريا، وتاريخيا القوة الاجتماعية الاكثر استفادة من النظام الدمقراطي، ويجب عليها ان تتمكن من جعل الميدان الدمقراطي ميدانا يسمح باعادة تركيب الطبقات المتوسطة حول نفسها، وهي الطبقات التي عرفت البرجوازية كيف توحدها حتى الآن.
وبهذا المعنى استخلص ماركس العبرة من فشل 1848 الذي لحق بالحركة العمالية "يجب على الطبقة البروليتارية ان تتمكن من تطوير صراعها الطبقي من جديد، بفرضها ايضا الميدان الدمقراطي الذي يسمح بتحريك جميع الفئات الاجتماعية غير البروليتارية، وبفك تبعيتها للدولة البرجوازية. وتبرز آنذاك، في خطوطها الاساسية سياسة متكاملة من التحالفات اللازمة حتى تكتشف هذه الطبقات او الفئات انه لا يسعها النضال من اجل مصالحها الخاصة، ولا تفتح لنفسها افقا الا بادراكها للرابطة التي توحد بين الربح الرأسمالي واشكال الاستغلال التي تطالها". (18 برومير ص 130). واكد على ضرورة التحالف مع الفلاحين بحيث "تحقق الثورة البروليتارية" بذلك اللحن الجماعي الذي يصبح بدونه العزف المنفرد في جميع الامم الفلاحية، نشيدا "جنائزيا".
ومن وجهة النظر هذه يجب اعادة تقويم التناقض بين البروليتاريا والدمقراطية: اذا كانت البروليتاريا حاملة لنسق جديد ومستقل للتنظيم الاجتماعي الذي يمر عبر زوال الدولة كدائرة منفصلة ومستقلة، فان هذه الرسالة التاريخية تحدد بشكل مفارق، المصلحة العضوية للبروليتاريا في التطوير المطابق والملائم للاشكال السياسية الدمقراطية حتى استنفادها التاريخي. تجعل الدمقراطية السياسية، المتعلقة باعادة انتاج السيطرة البرجوازية، من الممكن، بشكل متناقض توحيد ميول شتى الاهداف التي تنبع من الحاجات المادية للطبقات غير الرأسمالية وغير البروليتارية، وذلك حول البروليتاريا نفسها.
يبلغ التوحيد السياسي للطبقة العاملة مع هذه الطبقات ذروته، في ميدان الدمقراطية الدستورية: هذا ما يثبته تدمير هذا الاطار الدمقراطي من قبل البرجوازية نفسها، عندما تخشى من رؤيته يعمل في اتجاه المصلحة السياسية للبروليتاريا (الصراعات الطبقية في فرنسا ص 68- 168).
حياة ماركس الغنية بالكفاح الصلب والمثابر والطويل، جعلته على اتصال مباشر بالواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ووصل الى موقف واضح يؤكد بان الوقائع اقوى من الافكار، وانها أي الوقائع لا تتغير لمجرد ان الافكار تريد لها ان تتغير، ولذلك كان عليه ان يقلب المذهب الهيغلي وان يكيف الفكرة مع الواقع لا الواقع مع الفكرة، وبهذه النقطة انفصل ماركس عن الهيغليين الشباب ومضى يكتسب مبادئ العمل من الواقع نفسه، وذلك بتأسيس علاقات اوثق، واعتماد متبادل جدلي بين الافكار والوقائع، بين الاقتصاد والسياسة.
لقد قام هيغل برد القانون الى المنطق، وبدل ان ينمّي فلسفة القانون من الواقع الاقتصادي الاجتماعي السياسي، جعلها تنبثق من الفكرة المطلقة والاخلاقيات التي تحدد تنظيم الاسرة والمجتمع والدولة. فجاء ماركس وأكد بان هذا التصور هو نتيجة لقلب العلاقات القائمة بالفعل بين المجتمع والدولة. وأكد ماركس بان الدولة ليست هي التي تحدد التنظيم الاجتماعي بل التنظيم الاجتماعي هو الذي يحدد شكل الدولة. كما أكد ماركس بان المجتمع هو الموضوع والدولة هي المحمول او الشكل، وأكد بان جوهر المجتمع البراجوازي الطبقي هو الملكية الخاصة، والوظيفة الهامة للدولة هي الدفاع عن مصالح الملكية الخاصة للطبقة المسيطرة البرجوازية وحقوقها.
لقد نظر ماركس للانسان باعتباره كائنا اجتماعيا، وللدولة والمجتمع باعتبارهما تعبيرين ونتاجين للنشاط الانساني العيني ومن هذا المنطلق بحث ماركس اسباب اغتراب الانسان في المجتمع الطبقي البرجوازي وأكد زيف الدمقراطية الليبرالية البرجوازية، واعتبرها دمقراطية شكلية محض عاجزة عن القضاء على ذلك الاغتراب ، وأكد بان اغتراب الانسان لا يمكن ان يزول الا بقيام دولة عقلانية مؤسسة على الحياة الجمعية يتم فيها القضاء على التعارض بين المجتمع والدولة، وتصبح فيها المصلحة الخاصة والمصلحة العامة واحدة وتتحقق فيها بالفعل الحياة الجمعية، أي تتحقق الماهية الحقيقية للانسان (ماركس، انجلز- الاعمال الكاملة- أصول الفكر الماركسي- اوغست كورنو)
وأكد ماركس على اهمية كشف النقاب عن اغتراب الطبيعة الانسانية في واقع المجتمع الطبقي البرجوازي، كما أكد بان النظام القائم المبني على الملكية الخاصة والانانية والنزعة الفردية يخلق تعارضا بين المجتمع والدولة. وتكون الدولة بالنسبة للمجتمع مجالا مثاليا وتجسد بشكل وهمي خالص الماهية الانسانية، أي الحياة الجمعية. ونتيجة لهذا يعيش الانسان حياة مزدوجة فهو يعيش في المجتمع حياة خاصة كفرد اناني وهذه هي حياته الخاصة، وهو يعيش في الدولة حياة تتفق مع طبيعته الحقيقية، لكن هذه الحياة حياة وهمية تماما.
لقد وضع ماركس مشكلة الاغتراب في المستوى الاقتصادي- السياسي والاجتماعي مع وجود تمايزات طبقية تنشأ في ظل الرأسمالية. وقال ان قهر الاغتراب ومعه التعارض بين المجتمع والدولة وبين الاحوال الجمعية للحياة، لا يمكن ان يتم الا نتيجة تغير حاد في المجتمع. والقوة المحركة في التاريخ هو الصراع الطبقي، وبان التغيير سيكون من عمل الثورة الاجتماعية التي تنشأ من صراع الطبقات وتقوم بها البروليتاريا. وهكذا اصبحت فلسفة ماركس، فلسفة العمل ليس فقط على المستوى النظري والتجريد بل على المستوى الاقتصادي السياسي الاجتماعي، والتقدم من خلال الثورة الاجتماعية يجب ان يحدث نتيجة تعارض العناصر المتناقضة ونتيجة لتوسيع رقعة الصراع الطبقي، كما ينص الجدل وعندها فقط يمكن القضاء على التناقض بين المجتمع والدولة، والقضاء على اغتراب الطبيعة الانسانية في الدولة،
ألانسان وانعتاقه والذي لن يحدث الا بالتغيير الثوري للمجتمع والقضاء على الملكية الخاصة لوسائل الانتاح.
وتبذل في الفترة الاخيرة وبعد الازمة الاقتصادية للعالم الرأسمالي محاولات مختلفة لاصلاح المجتمع من خلال خطوات تقديم الدعم المالي للبنوك والشركات المختلفة، وهناك من ينادي بتأميم البنوك وحتى ساركوزي اعلن بان ما يسمى بالسوق الحرة بدون مراقبة قد انتهى زمنها، وتقوم بعض الدول باصلاحات جزئية في تنظيم العمل وظروف العمل وزيادة اجور العمال، كما حدث في اسرائيل في الفترة الاخيرة، غير ان هذه الاصلاحات غير ذات تأثير لانها تستبقي العمل المغترب الذي تخلقه الملكية الخاصة، مصدر هذه الازمات جميعا. فالمطلوب القضاء الكامل على العمل المغترب ويتم ذلك عن طريق النفي الجدلي الكامل للنظام الطبقي، ليحل محله نظام جديد، نظام المجتمع الشيوعي.

ألمراجع:

ماركس ونقده للسياسة
اندريه توزيل
سيزار لوبوريني
اينين بالبيار
أصول الفكر الماركسي اوغست كورنو