فؤاد النمري: ماركسي مزيف وستاليني حقيقي
جورج حداد
2008 / 11 / 18 - 10:11
ردا على رد فؤاد النمري على مقالتي عن ثورة اكتوبر:
لست على معرفة شخصية، لا قديمة ولا جديدة، بفؤاد النمري. ولهذا فإن مناقشتي له، او الاصح ردي عليه، ليس فيها او فيه اي ظل لاي مسألة شخصية. اي انني لا اتناول لا من قريب ولا من بعيد فؤاد النمري الشخص، بل فؤاد النمري الكاتب، اي فقط بالوجه الذي يطل هو فيه ككاتب، بملء ارادته وكامل حريته. وارى من الضروري ايراد هذه الملاحظة، لاننا نقرأ في سيرة حياة الرجل، المنشورة في موقع "الحوار المتمدن" انه كان من الشيوعيين الاردنيين الذين تعرضوا للاعتقال في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وانا كمعتقل سابق، وفي الفترة ذاتها، لا بد لي من ان اعطي الرجل حقه واعبر له عن احترامي على هذا الصعيد. وفي الوقت نفسه اقول مع القائلين: كم من المناضلين السابقين انحرفوا عن جادة الصواب، وتحولوا اما الى مثقفين هامشيين، او مرتزقة، او حتى الى اعداء وعملاء للامبريالية والصهيونية. وليسمح لي القارئ ان اقدم مثالا معبرا جدا هو المصير المأساوي لما يسمى "جيش تحرير كوسوفو" الذي انتهى الى قيادة المافيوتي والمجرم هاشم تاجي، رئيس وزراء كوسوفو الحالي: لقد نشأ "جيش تحرير كوسوفو" بوصفه الذراع او الجناح العسكري لتنظيم الباني يساري متطرف (ستاليني ـ ماوي) معاد لما كان يسمى "التحريفية التيتوية". وقد استطاعت المخابرات الاميركية والاسرائيلية ان تخترق هذا التنظيم، من خلال استغلال انحرافه الستاليني بالتحديد، وان تحوله بالتدريج الى اداة عميلة للامبريالية والصهيونية، والى عصابة مافياوية تمارس احط وابشع الجرائم المعادية للانسانية. ومؤخرا تناقلت الانباء ان كوسوفو اصبحت مركزا للسوق السوداء للمتاجرة بالاعضاء البشرية للصربيين والغجر الذين يتم اختطافهم. وان هذه التجارة اصبحت اهم من تجارة المخدرات. ويتم بيع الاعضاء المستأصلة ونقلها بالطائرات الى الزبائن الاغنياء في مختلف البلدان. ولا عجب ابدا ان يبلغ اي ستاليني (مهما كان تاريخه النضالي السابق) أسفل درجات الانحطاط، وان يتحول خريجو "المدرسة الستالينية" الى تجار مخدرات ورقيق ابيض وحتى الى "تجار" بالاعضاء البشرية. فهذه "التجارة" هي استمرار طبيعي للنظرة الحيوانية الوحشية الى المخلوق البشري التي قامت عليها "فلسفة" انشاء "معسكرات العمل والموت" للمعارضين والمشبوهين في عهد ستالين. وهذه "الفلسفة" الوحشية هي التي انتجت ايضا البولبوتية التي ابادت ملايين الكمبوديين استنادا الى "التعاليم الثورية الستالينية". ولا يخفف ابدا من جريمة بول بوت والبولبوتيين انهم لم ينحدروا ـ كهاشم تاجي وعصابته ـ الى مستوى عملاء مباشرين للامبريالية الاميركية. ولكن البولبوتيين وغيرهم من الستالينيين، بجرائمهم المعادية للانسانية، وجهوا طعنة نجلاء الى المبادئ الانسانية للاشتراكية العلمية، وساهموا في تحطيم الثورة الاشتراكية في كمبوديا، وفي روسيا، وفي البانيا الخ، من داخلها. يا لعظمة "المدرسة الستالينية"!!!
ونعود الى الاستاذ فؤاد النمري. ليسمح لنا القارئ ان نقول اننا ـ وبكل حسرة صادقة ـ نضع في خانة "الضمير المستتر" المناضل السابق فؤاد النمري، ونناقش فؤاد النمري "الكاتب الستاليني" المبتذل ليس الا.
آخذ فيما يلي مقتطفات من نصوص للاستاذ فؤاد وبالاخص من نصين هما: الاول هو مقالته المعنونة: "ماذا عن أسباب انهيار الإتحاد السوفياتي العظيم ؟!"، والمنشورة في "الحوار المتمدن" - العدد: 2427 بتاريخ 7/10/2008 . والثاني هو كتابه "من هو ستالين ؟ وما هي الستالينية" الذي يمكن الاطلاع عليه على موقع:
www.geocities.com/fuadnimri01
واعتمد في مناقشتي على تلك المقتطفات، دون ان اذكر اهي من المقال او من الكتاب، واي صفحة الخ. والاستاذ فؤاد نفسه سيكون شاهدا على صدق وحرفية استشهاداتي من كتاباته.
ولما كنت احد ابناء الشعب البسطاء وغير المتعلمين، كما وصفني احد تلامذة النمري او المعجبين به المدعو عبدالغني مصطفى (راجع مقال: شيوعي ويكره الإتحاد السوفياتي!!؛ عبد الغني مصطفى ؛ الحوار المتمدن - العدد: 2451 - 2008 / 10 / 31 )، وليست لي طبعا استاذية النمري وهذا العبد ـ الغني، سأرد بطريقة تبسيطية ـ تشريحية، نقطة نقطة، وان كانت هذه الطريقة المبسطة لا ترتقي الى مستوى الإحاطية البرجعاجية للاستاذ النمري. وألفت نظر القارئ انني سأشير اليه فيما يلي بلقب "الاستاذ" من باب التبسيط:
- I -
في مناقشته لبعض الكتاب الذين شاركوا في ملف "ثورة اوكتوبر"، وانا واحد منهم، يقول الاستاذ:
"العشرة الذين كتبوا حتى اليوم في ملف "ثورة أكتوبر وانهيارها" لا علاقة لهم بالماركسية على الإطلاق . كي تكون شيوعياً لا بدّ من أن تكون ماركسياً بداية . فإن كنت قاصراً عن أن تكون ماركسيا حقيقياً ملمّاً على الأقل بالقواعد الأساسية للماركسية، ومع ذلك تصر أن تكون شيوعياً تعلقاً بالعدالة والمساواة ـ قبل أن تدرك أنهما من مفردات الفكر البورجوازي ـ فعليك عندئذٍ أن ترضى بدور المقلد لمرجعية ماركسية تثق بقدرتها، وبغير ذلك فلن تكون إلا عدواً للشيوعية حتى وأنت تدبج أبلغ عبارات المديح للشيوعية وللماركسية ولثورة أكتوبر. العشرة غير البررة الذين كتبوا حتى اليوم في الملف إياه ليسوا إلا أعداء للماركسية وللشيوعية ولثورة أكتوبر وللبلاشفة دون أن يعلموا ذلك ؛ وحبذا لو علموا فطهّروا أنفسهم من سوءات الفكر البورجوازي الوضيع التي كانت وحدها قد قوّضت الإتحاد السوفياتي العظيم".
وفي غير هذا النص من كتابات الاستاذ، وربما في كل كتاباته، فإنه يشكك دائما بوجود ماركسيين عرب غيره. وفي هذا النص، لا يحتاج المرء لان يكون عليما علم عبدالغني مصطفى (مثلا)، حتى يدرك ان الاستاذ، وبكل تواضع العالم الجليل، يرشح ضمنا نفسه باعتباره "المرجعية الماركسية الموثوق بقدرتها" التي على الاخرين "تقليدها". اي ان الاستاذ لا يرى غضاضة ان يطبق على الماركسية بعض آليات الفكر الشيعي، التي تقول بما يسمى "الاجتهاد والتقليد". ولعل هذا الاكتشاف "العلمي" يعود للاستاذ وحده ويجوز له تسجيله في موسوعة غينيس، كما في سجلات الشهر العقاري كما يسميه اخوتنا المصريون. فتهانينا لـ"الامة الماركسية" (بالاذن من: الامة اليهودية، والامة المسيحية، والامة الاسلامية)، بظهور آية الله العظمى فؤاد النمري قدس الله سره.
وان كنت شخصيا لا اؤمن بمرجعية الاستاذ، ولا اي استاذ مثله، الا ان واجب الاحترام لعلو المقام يقتضي ان نضع الكمامات ونلبس القفازات الحريرية حينما نتوجه بحديثنا او نتلمس طريقنا لمناقشة كل ما يقوله الاستاذ.
- II -
ولكن في وقت "يستعبط" فيه الاستاذ الجميع، وينعى وجود فكر ماركسي عربي، غير فكره المتنمر، يحق لنا ان "نستعبط شوي زيادة" وان نتساءل: وهل ان "فكر" الاستاذ ذاته هو فكر ماركسي متطور، ام فكر ستاليني منحط؟!
لنعد الى بعض اقواله ومنها:
"القاصرون عن إدراك أسس الماركسية وهم دائماً من ذوي الأصول البورجوازية الوضيعة لا يملون من ترداد مقولة بورجوازية تافهة تناقض حركة التاريخ وتزعم أن ما يحرك التاريخ هو نضال الإنسان الأبدي من أجل الحرية . لو كان الأمر كذلك لما افترق الإنسان أصلاً عن مملكة الحيوان وتغرّب في رحلة الأنسنة التي بدأت بالإرتهان إلى عملية الإنتاج ولن تنتهي؛ فالحيوانات تتمتع بالحرية المطلقة دون أن تدرك ذلك فلماذا افترق عنها الإنسان ورهن حريته للإنتاج؟ لم أسمع قط أن أحداً من المشتبكين مع الإنتاج بات يحلم كيف يتحرر؛ كلهم يحلمون ليل نهار كيف يحسنون إنتاجهم وأسباب عيشهم، والحرية بمعناها البورجوازي الشائع ليست من بين همومهم الكثيرة المختلفة. التاريخ إنما هو صراع الطبقات، والطبقات تتصارع ليس من أجل الحرية، كما يعتقد غير الماركسيين وغير الديموقراطيين، بل من أجل ارتهان أقوى وأشد وثوقاً لعملية الإنتاج، من أجل الإستغناء عن وسائل إنتاج عفا عليها الزمن واستبدالها بوسائل أخرى جديدة أكثر جدوى".
وفي مقالة " القراءة اللينينية لتاريخ الحركة الشيوعية" يقول ايضا: "من المعروف تماماً أن أولى القواعد الذهبية في العلوم الماركسية هي أن الصراع الطبقي هو المحرك الوحيد للتاريخ".
في هذه السطور القليلة يكشف الاستاذ حقيقته تماما. هل هذه هي الماركسية، او الاشتراكية العلمية؟ ام انها نظرية العبودية والقنانة، نظرية الوحشية الرأسمالية، النازية والستالينية، التي تضع الحيوان (الاقوى جسديا، والاقل شكوى وتذمرا، والاقل وعيا) في مرتبة الحرية وبالتالي فوق مستوى الانسان، والتي تجعل الانسان (ونعني به الانسان العامل) في مرتبة العبودية وخدمة الآلة والانتاج (وطبعا: خدمة المالكين)، وليس العكس؟
وبهذه التخريجات الماركسية المزيفة، فإن الاستاذ لا يفعل سوى ان يقوم بدعاية "مجانية" او "غير مجانية" لتقدمية الرأسمالية. وهو ما ينطبق عليه تماما توصيف "الاشتراكية البرجوازية" الوارد في "البيان الشيوعي".
- III -
ولنقارن كلماته بكلمات "البيان الشيوعي ذاته". (راجع: "بيان الحزب الشيوعي" لماركس وانجلز، منشور في "الحوار المتمدن" بتاريخ لم يمر عليه الزمن). يقول "البيان":
"والبرجوازية لا تستطيع البقاء بدون أن تُـثـوِّر باستمرار أدوات الإنتاج، وبالتالي علاقات الإنتاج المجتمعية. بخلاف ذلك، كان الحفاظ على نمط الإنتاج القديم، بدون تبديل، الشرط الأول لبقاء كل الطبقات الصناعية السالفة. وهذا الانقلاب المتواصل في الإنتاج، وهذا التزعزع الدائم في كل الأوضاع المجتمعية، والقلق والتحرك الدائمان، هذا كله يميّز عصر البرجوازية عمّا سبقه من عصور.
"والبرجوازية، بالتحسين السريع لكل أدوات الإنتاج، وبالتسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات، تـشدّ الكل حتى الأمم الأكثر تخلفا إلى الحضارة. والأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثـقيلة التي تـدك بها الأسوار الصينية كلها، وتـُرغم البرابرة الأكثر حقدا وتعنتا تجاه الأجانب على الإستسلام، وتجبر كل الأمم، إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك، على تـبنّي نمط الإنتاج البرجوازي، وترغمها على تقـبّـل الحضارة المزعومة، أي على أن تصبح برجوازية. وبكلمة هي تخلق عالما على صورتها".
ويقول البيان ايضا:
"والصناعة الحديثة حوّلت المشغل الصغير للمعلّم الحرفي البطريركي إلى فبركة كبيرة للرأسمالي الصناعي. وجموع العمال المحشورة في الفبركة تنظَّم تنظيما عسكريا. فالعمّال، جنود الصناعة البسطاء، يُوضعون تحت رقابة تراتبية كاملة، من ضبّاط وصفّ ضبّاط. وهم ليسوا عبيد طبقة البرجوازيين ودولة البرجوازيين فحسب، بل هم أيضا، في كل يوم وكل ساعة، عبيد للآلة، ولمراقب العمل، وخصوصا للبرجوازي صاحب الفبركة نفسه، وهذا الإستبداد، كلما أعلن بمزيد من الصراحة أنّ الكسب هو هدفه، إزداد دناءة وبشاعة وقسوة".
"ومن وقت إلى آخر ينتصر العمال لكن انتصارهم هو إلى حين. والنتيجة الحقة لنضالاتهم ليست في النجاح المباشر بل في اتّحاد العمل المتعاظم باستمرار. وهذا الاتحاد يعززه نمو وسائل المواصلات التي تبتدعها الصناعة الكبرى، والتي تربط بين عمّال مختلف النواحي. والحال لا بُدّ من الرابط لجعل النضالات المحليّة والمتعددة، ذات الطابع الواحد في كل مكان، تتمركز في نضال وطني، في نضال طبقيّ. غير أنّ كل نضال طبقي هو نضال سياسي. والإتحاد الذي اقتضى سكان بلدان القرون الوسطى قرونا لتحقيقه، نظرا إلى طُرقاتهم البدائية، تحقّـقه البروليتاريا العصرية في سنوات قليلة بفضل السكك الحديدية.
"وانتظام البروليتاريين في طبقة، وبالتالي في حزب سياسي، تنسفه مجددا وفي كل لحظة المزاحمة بين العمال أنفسهم؛ لكنه ينهض مرارا وتكرارا اقوى وأمتن وأشدّ بأسا، ويستفيد من الإنقسامات في صفوف البرجوازية، فينتزع الإعتراف على وجه قانوني ببعض مصالح العمال، مثل قانون العمل عشر ساعات (يوميا) في انكلترا.
"وعموما فإنّ صدامات المجتمع القديم تدفع بطرق شتى بتطور البروليتاريا قدُما. فالبرجوازية تعيش في صراع دائم: في البدء، ضدّ الأرستقراطية، ثم ضدّ تلك الأقسام، من البرجوازية نفسها، التي تتناقض مصالحها مع تَقدُّم الصناعة، ثم بصورة دائمة ضدّ برجوازية جميع البلدان الأجنبية. وفي كل هذه الصراعات تجد البرجوازية نفسها مضطرة إلى الإستنجاد بالبروليتاريا، وطلب معونتها، وبذلك تَجرّها إلى المعترك السياسي. وهكذا فإنّ البرجوازية نفسها هي التي تزوّد البروليتاريا بعناصرها التثقيفية أي بالأسلحة التي ترتدّ عليها.
وإضافة إلى ذلك وكما رأينا قبلا، فإن أقساما بكاملها من الطبقة السائدة تنحدر، بفعل تَقدُّم الصناعة، إلى البروليتاريا، أو تتهدد على الأقل بأوضاعها المعيشية. وهذه الأقسام تمدّ البروليتاريا أيضا بطائفة من العناصر التثقيفية.
"وأخيرا، عندما يقترب الصراع الطبقي من الحسم، تتخذ عملية التـفسّخ داخل الطبقة السائدة، وداخل المجتمع القديم بأسره، طابعا عنيفا وحادا، إلى حد أنّ قسما صغيرا من الطبقة السائدة يَنسلخ عنها وينضمّ إلى الطبقة الثورية، إلى الطبقة التي تحمل بين يديها المستقبل. ومثلما انتقل في الماضي قسم من النبلاء إلى البرجوازية، ينتقل الآن قسم من البرجوازية إلى البروليتاريا، لا سيما هذا القسم من الإيديولوجيين البرجوازيين، الذين ارتفعوا إلى مستوى الفَهم النظري لمُجمل الحركة التاريخية.
"ومن بين جميع الطبقات، التي تُـناهض البرجوازية اليوم، فإنّ البروليتاريا وحدها هي الطبقة الثورية حقا. فالطبقات الأخرى تنهار وتتلاشى أمام الصناعة الكبيرة، والبروليتاريا هي نِتاجُها الخاص.
"فحتى الآن كانت الحركات كلها إمّا حركات أقليات، وإمّا لمصلحة الأقليات. والحركة البروليتارية، هي الحركة القائمة بذاتها، للأغلبية الساحقة، في سبيل الأغلبية الساحقة. والبروليتاريا، الفئة الدنيا في المجتمع الراهن، لا يمكنها أن تنهض وتنتصب، بدون أن تنسف البنية الفوقية كلها للفئات التي تؤلّف المجتمع الرسمي .
"والهدف الأول للشيوعيين هو الهدف نفسه لكل الأحزاب البروليتارية الأخرى: تشكّل البروليتاريا في طبقة، إسقاط هيمنة البرجوازية، واستيلاء البروليتاريا على السّلطة السياسية.
"فالعمّال لا وطن لهم. فلا يمكن أن يُسلب منهم ما لا يملكونه. وبما أنه ينبغي على البروليتاريا أن تستولي، أولا، على السلطة السياسية، وأن تنصّب نفسها طبقة قومية، وأن تتـقوَّم كأمّة، فإنّها ما تزال وطنية، لكن ليس قطعا بالمعنى البرجوازي للكلمة".
"ولكن، دعونا من اعتراضات البرجوازية على الشيوعية.
"فقبلا رأينا أنّ الخطوة الأولى في ثورة العمّال هي ترفيع البروليتاريا إلى طبقة سائدة والفوز بالديمقراطية.
"وعلى أنقاض المجتمع البرجوازي القديم بطبقاته وتناقضاته الطبقية، يحلّ مجتمع جديد تكون فيه حرية التطور والتقدم لكل عضو شرطاً لحرية التطور والتقدم لجميع الاعضاء".
"فالبرجوازيون الإشتراكيون يريدون شروط حياة المجتمع الحديث، (لكن) بدون النضالات والأخطار الناجمة عنها بالضرورة. إنّهم يريدون المجتمع القائم منقى من العناصر التي تثوِّره وتهدمه. إنّهم يريدون البرجوازية بدون البروليتاريا. وبالطبع تتصور البرجوازية العالم الذي تسود فيه كأفضل العوالم. واشتراكية البرجوازيين تصوغ من هذا التصوّر المعزّي نصف مذهب أو مذهبا كاملا. وهي، بدعوتها البروليتاريا إلى تحقيق مذاهبها والدخول إلى أورشليم الجديدة، تطالب في الحقيقة فقط بأن تتشبّث (البروليتاريا) بالمجتمع الراهن، على أن تنفض عنها تصورات كراهيتها لهذا المجتمع.
"فاشتراكية البرجوازيين لا تبلغ تعبيرها المُلائم إلاّ عندما تسمى مجرد تعبير بياني. فحرية التجارة، لمصلحة الطبقة العاملة، والحماية الجمركية، لمصلحة الطبقة العاملة، والسجون الإنفرادية، لمصلحة الطبقة العاملة: هذه هي الكلمة الأخيرة والوحيدة الجادة، التي تقصدها اشتراكية البرجوازيين.
"فاشتراكية البرجوازية لا تكمن إلاّ في الإدعاء القائل إنّ البرجوازيين هم برجوازيون - لمصلحة الطبقة العاملة".
"فهم (الشيوعيون) يناضلون لتحقيق الأهداف والمصالح المباشرة للطبقة العاملة، لكنهم في الوقت نفسه يمثلون، في الحركة الراهنة، مستقبل الحركة. ففي فرنسا ينضم الشيوعيون إلى الحزب الإشتراكي - الديمقراطي، ضدّ البرجوازية المحافظة والراديكالية، بدون أن يتخلوا عن حق اتّخاذ موقف نقدي من الجُمل الرنانة والأوهام التي خلفها التقليد الثوري.
"وفي سويسرا، يساندون الراديكاليين، بدون أن يَغيب عن بالهم أنّ هذا الحزب يتكوّن من عناصر متناقضة، متَّسم (مُؤلَّف) من إشتراكيين وديمقراطيين بالمفهوم الفرنسي للكلمة، وقسم من برجوازيين راديكاليين.
"وفي بولونيا (بولندا) يساند الشيوعيون الحزب الذي يجعل من الثورة الزراعية شرطا للتحرر الوطني، أي ذلك الحزب الذي بثّ الحياة في انتفاضة كراكاو عام 1846.
"وفي ألمانيا يُناضل الحزب الشيوعي مع البرجوازية كلما قاومت البرجوازية مقاومة ثورية، النظام الملكي المطلق، والملكية العقارية الإقطاعية، والبرجوازية الصغيرة الضيقة الأفق.
"وباختصار يُساند الشيوعيون، في كل مكان، كل حركة ثورية ضد الأوضاع المجتمعية والسياسية القائمة".
هذا العرض في "البيان الشيوعي" يقصد به الحراك التاريخي للبرجوازية. وهو عرض للحراك، وليس تأييدا له. بل على العكس، ان كل اهمية "البيان الشيوعي" هي الدعوة الى تقويض البرجوازية وسلوكها.
و"البيان" يؤكد ان مهمة البروليتاريا ليس هو التبشير بتقدمية الرأسمالية، بل النضال للقضاء عليها.
وبكلمات اخرى فإن دعاية النمري للتقدم التكنولوجي والانتاجي، على حساب الحرية الانسانية، ليست سوى "اشتراكية برجوازية" كما يسميها "البيان الشيوعي"، وهي تتناقض على خط مستقيم مع دعوة "البيان الشيوعي" للنضال ضد التمييز الطبقي وضد المجتمع الطبقي وضد البرجوازية والرأسمالية.
وهذا طبعا ليس رأيي فقط، بل رأي غالبية الشيوعيين والماركسيين الصادقين. وأورد فيما يلي مقطعا من مقالة "بمناسبة الذكرى 160 لصدوره - البيان الشيوعي: قراءة إيكولوجية"، للباحث ثامر الصفار، منشورة ايضا في الحوار المتمدن - العدد: 2200 - 2008 / 2 / 23 ، حيث يقول:
"ان من يقرأ البيان الشيوعي لا بد ان يدرك ان اطراء الحضارة البرجوازية الذي احتل الصفحات الاولى منه لم يكن سوى مدخل لدراسة التناقضات الاجتماعية التي ولدتها الرأسمالية والتي ستؤدي في المآل الاخير الى سقوطها. ولا يمكن لاي منا ان يدعي بان ماركس وهو يعرض شخصية الرأسمالي "البطل"، او عند احتفائه بتطور تقسيم العمل، والمنافسة، والعولمة وغيرها، في القسم الاول من البيان، كان خاليا من موقف نقدي. ففي الفقرات اللاحقة يوضح ماركس وانجلز، باسلوب ديالكتيكي، الجانب الاحادي لمثل هذه التطورات. اذ نجدهما يدركان ارتباط توليد الثروة بزيادة فقر القسم الاعظم من السكان. ويدركان ايضا ان " اخضاع قوى الطبيعة للانسان" قد ارتبط بالاغتراب عن الطبيعة الذي يجسد نفسه في الانقسام بين المدينة والريف، وهو انقسام ملازم للرأسمالية. ثم يواصل البيان، ولو بايجاز شديد، ليعالج هذه المسألة ضمن الخطة ذات النقاط العشر في القسم الثاني من البيان. وقد توجب على ماركس وانجلز، ان يبذلا اهتماما كبيرا، ضمن كتاباتهما اللاحقة، لمعالجة التناقضات الايكولوجية ضمن نقدهما للحضارة الحديثة للمجتمع الرأسمالي".
- IV -
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن الغرور المفرط للاستاذ يدفعه لأن يقع هو نفسه ضحية لغروره، حيث يعتقد فعلا ان لا احد غيره يقرأ او يفهم ما يقرأ، فيحاول بسذاجة او ما يمكن تسميته بخبث ساذج ان يمرر علينا فكرة "أن الصراع الطبقي هو المحرك الوحيد للتاريخ"، من اجل ان يبرر "تقدمية الرأسمالية"، اولا، ووحشية الستالينية، ثانيا.
صحيح ان "البيان الشيوعي" قال بهذا المفهوم لتوصيف وادانة المجتمع الرأسمالي، لا للدفاع عنه. ولكن الفكر الماركسي عاد فطور هذا المفهوم، ووضعه في سياقه التاريخي الانساني العام، سياق النضال الابدي، الذي يعطيه ثامر الصفار صفة "الايكولوجي"، من اجل الحرية الانسانية، التي يسخر منها الاستاذ العظيم.
ان انجلز، الصديق الوفي لماركس وشريكه في وضع اسس الماركسية يعرّف "الحرية" (للاسف لا اذكر في اي كتاب او نص له) بأنها "فهم الضرورة". وبهذا التعريف لـ"الحرية" بوصفها "فهم الضرورة" يمتاز الانسان عن الحيوان، بأن يصبح (الانسان، لا الحيوان كما يقول الاستاذ) "حرا". فالحيوان هو خاضع للقوانين العمياء للطبيعة ويتكيف بها، ولذا فهو ليس "حرا"، الا بمقدار ما هو "لا يعي" عبوديته للطبيعة العمياء. فقطيع الجواميس او الحمر الوحشية في سعيه الى مرعى آخر، يضطر المرة تلو المرة ان يعبر نهرا مليئا بالتماسيح التي تفترس منه، ولكنه يعبر كل مرة كسابقتها، دون ان يفكر لا في طريقة لتجنب المرور في النهر ذاته ولا لقتل او ابعاد التماسيح ولا في بناء جسر فوق هذا النهر الخ. والتماسيح ذاتها تموت اجيال كاملة منها من الجوع اذا ـ لاي سبب كان ـ لم تعبر الجواميس والحمر الوحشية النهر لتقتات عليها التماسيح. فكيف يكون الحيوان حرا الا في انه لا يعي انه "عبد" مرتهن لقوانين الطبيعة العمياء، لانه لا يمتلك القدرة على "فهم الضرورة". اما العمل (الذي حول القرد الى انسان) فهو الطريق لتحرير الانسان من حيوانيته، اي لتحريره من قوانين الطبيعة العمياء. اي ان العمل هو "فعل تحرير" وليس فعل "رهن حرية للانتاج" اي "فعل عبودية"، فالانتاج هو في خدمة الانسان وليس العكس. اما الطبقات المالكة فهي التي تقلب العمل من فعل "تحرير" الى فعل "ارتهان" و"عبودية". وجوهر الصراع الطبقي بين المالكين والكادحين، وفي الرأسمالية بين البرجوازية والبروليتاريا، هو ان الكادحين يناضلون لجعل الانتاج في خدمة الانسان ـ العامل؛ في حين ان المالكين "يناضلون" لجعل الانتاج والمنتجين في خدمة "الحيوان" ـ المستهلك (اي المالك الاستغلالي ـ غير العامل)، اي في خدمة المالكين: الاسياد مالكي العبيد، والاشراف والنبلاء مالكي الفلاحين الاقنان، والبرجوازيين والرأسماليين الذين يمتلكون وسائل الانتاج والوسائل الاقتصادية والمالية و"يمتلكون" بالتالي المنتجين البروليتاريين والفلاحين والحرفيين وكل العاملين في المجتمع الرأسمالي المتوحش، من خلال امتلاك نتاج عمل هؤلاء المنتجين. وبشكل ما هذا هو "الاساس النظري" للستالينية في بناء "معسكرات العمل حتى الموت" للمعارضين. وحتى الهتلريين كانوا يكتبون على مداخل "معسكرات الاعتقال والموت" النازية العبارة الديماغوجية الشهيرة "العمل يحرركم". ومن "الطبيعي" جدا لكل الستالينيين، بمن فيهم استاذنا المحترم، ان يقفوا في معسكر "الحيوان" ـ المستهلك غير العامل (معسكر الاسياد والاقطاعيين والرأسماليين والامبرياليين)، ضد معسكر "الانسان" ـ العامل (معسكر العبيد، والاقنان، والبروليتاريا والفلاحين والشعوب المستعمرة والمظلومة) الذي يناضل من اجل الحرية.
ونتساءل بحسرة: هل يجهل الاستاذ هذه الحقائق الوجودية والتاريخية؟
اذا عدنا الى العبد ـ الغني المصطفى فإن "الاستاذ" ليس جورج حداد واشباهه؛ اي انه ليس اميا وجاهلا؛ وهو طبعا "يعرف" ولكنه "يتجاهل". والافظع انه يستخدم المفرداتية (Terminology) الماركسية ذاتها، لتشويه وقتل الماركسية وتحويلها الى اداة ايديولوجية بيد اعدائها: الرأسماليين والامبرياليين والصهاينة. وهذه هي "الستالينية الاصلية او النموذجية". فبعد ان قام ستالين والبيروقراطية السوفياتية الفاسدة والمتسلطة بالاشتراك مع الصهاينة بقتل لينين العظيم، قاموا بتحنيط جثمانه وتحويله الى مومياء، ثم كتبوا للمجرم والخائن المأفون يوسف ستالين عددا من المحاضرات نشروها باسمه تحت عنوان "اسس اللينينية"، ليجعلوها "مرجعا" و"حاجزا" يحل محل كتابات لينين ذاتها، وبذلك اصبح ستالين "حاجزا" بين اللينينية والحزب والطبقة والشعب، اي اصبح هو "المرجع" و"المجتهد الاكبر" لاجل قتل الماركسية ـ اللينينية بواسطة المفرداتية (Terminology) الماركسية ـ اللينينية ذاتها. فصار الستالينيون يطلـّعون الحمار الى المئذنة او ينزّلونه الى القبو او القبر ساعة يشاؤون وكيفما يشاؤون. وصارت ماركسيتهم ـ لينينيتهم (اي ستالينيتهم) كجراب الحاوي. وقديما فعلت روما الشيء ذاته: قتلت المسيح على الصليب؛ ثم حولت الصليب الى ايقونة لا للمسيحية الحقيقية التي ارادها المسيح، بل للمسيحية ـ الصليبية ومحاكم التفتيش والمحارق و"صيد الساحرات"!!!.
- V -
وليسمح لنا الاستاذ ان نصحح بعض المغالطات التي يطرحها لا عن جهل، لا سمح الله، بل عن سابق تصور وتصميم، علها "تمرّ" على الرعاع والجهلة والاميين من خلق الله العاديين امثالنا.
طبعا ان الاستاذ يسمع بالمناضلة الشيوعية الالمانية (البولونية اليهودية الاصل) روزا لوكسمبورغ، التي قتلها الرأسماليون والخونة الاشتراكيون الدمقراطيون مع كارل ليبنخت و15 الف عامل شيوعي قتلوا في برلين خلال ثورة 1919 في المانيا. لنترك روزا لوكسمبورغ، ومن وراء قبرها المجهول، ترد على الاستاذ في بحث لها بعنوان "المجتمع البدائي وانحلاله"، المنشور في موقع "الحوار المتمدن" بتاريخ لم يمر عليه الزمن، ويمكن لاي كان الاطلاع عليه. تقول روزا لوكسمبورغ:
"تعود معرفتنا بالأشكال الاقتصادية الأكثر قدما وبدائية، إلى فترة ما تزال يسيرة من الزمن. فحتى عام 1847 كان ماركس وانجلز يكتبان في «البيان الشيوعي»، أول نص كلاسيكي من نصوص الاشتراكية العلمية، بأن «تاريخ كل مجتمع حتى أيامنا هذه هو تاريخ الصراع الطبقي»، ولكن في نفس الوقت الذي كان فيه خالقا الاشتراكية العلمية يعلنان فيه هذا المبدأ، بدأت الاكتشافات الجديدة تكذبه آتية من كل جانب. إذ أن كل عام كان يحمل أفكارا، حول الوضع الاقتصادي في أقدم المجتمعات البشرية، كانت ما تزال مجهولة حتى وقت قريب، وهذا ما كان يدفع إلى الاستنتاج بأنه كانت ثمة، في الماضي وبدون أدنى ريب، فترات طويلة من الزمن لم تكن قد عرفت الصراع الطبقي، وذلك لسبب بسيط هو انه لم تكن ثمة بعد أية تمايزات بين الطبقات الاجتماعية، أو بين غني وفقير... كما لم تكن هناك أية ملكية خاصة".
وبعد سنوات من كتابة "البيان الشيوعي"، فإن فريدريك انجلز نفسه (و"نأسف" لأن فريدريك انجلز "لم يلحق" ويقرأ فؤاد النمري والا ربما كان غير رأيه واصبح احد تلاميذه او "مقلديه"!!!)، كتب بحثه المميز المعنون "دور العمل في تحول القرد الى انسان"، الذي يقول فيه: "إن جميع أساليب الإنتاج الماضية لم تبتغ إلا بلوغ أقرب نتيجة مفيدة، فورية، للعمل. فكانت تترك جانباً تماماً النتائج البعيدة، النتائج التي لا تظهر إلا فيما بعد، التي لا تؤثر إلا بفعل التكرار والتراكم التدريجيين. فقد كانت الملكية العامة البدائية للأرض توافق من جهة مستوى من تطور الناس يحد أفقهم، على العموم بما كان الأقرب، وتفترض من جهة أخرى بعض فائض من الأرض يمكن التصرف به ويدع بعض المجال لتخفيف العواقب الوخيمة المحتملة التي قد تنجم عن هذا الاقتصاد البدائي. وحين استـُنفد هذا الفائض من الأرض، تداعت الملكية العامة أيضاً. وأسفرت جميع أشكال الإنتاج العليا التالية عن تقسيم السكان إلى طبقات مختلفة ومن ثم إلى تعارض وتضاد الطبقات السائدة والطبقات المسودة، المظلومة".
من هذين الاستشهادين من انجلز وروزا لوكسمبورغ يظهر تماما ان قول الاستاذ "إن الصراع الطبقي هو المحرك الوحيد للتاريخ" هو تأكيد غير صحيح. ولا أعتقد ابدا ان الاستاذ حينما كتب هذه الكلمات لم يكن يعرف انها غير صحيحة.
وهذا يعني ببساطة ان الاستاذ يريدنا ان نصدق ما لا يصدقه هو نفسه، اي انه يريد ان "يستهبلنا" و"يجلـّط" علينا... لا باسمه فقط (تقدس سره!) بل، وباسم الماركسية، التي يريدها ان تكون ـ على الطريقة الستالينية ـ ألعوبة بين يديه. وهذا يؤكد تماما ان هذا الاستاذ هو "ماركسي!!" فعلا، ولكن بصفة اكثر تحديدا فهو "ماركسي مزيف". فهو يعرف تمام المعرفة ان المجتمع الطبقي هو مرحلة "لاحقة"، و"عابرة"، في التاريخ الانساني، وبالتالي فإن الصراع الطبقي هو المحرك التاريخي الرئيسي في المجتمع الطبقي تحديدا، ولكنه ليس المحرك الوحيد؛ كما يعرف ان المحرك الاول، والاساسي، في المجتمع البشري ليس هو التناقض الطبقي؛ اذ ان الصراع الوجودي، الصراع بين الانسان والطبيعة هو العامل الدائم في الوجود الانساني، قبل المجتمع الطبقي، واثناءه، و"بعده". وان الصراع الطبقي ما هو سوى "استمرار" ومظهر ثانوي للصراع الوجودي للانسان، و"افتراقه" التدريجي عن الحيوان الذي كانه. اي ان اصحاب العمل ـ المنتجين، هم انصار "الانسان"، واصحاب وسائل الانتاج ـ غير المنتجين، هم انصار "الحيوان" او الاستمرار في "حيْونة" الانسان.
فالاصل في وجود الانسان هو وجوده كانسان، ومن ثم وجوده كمجتمع طبقي. فالوجود الانساني هو ظاهرة طبيعية سابقة على تحوله الى مجتمع طبقي. وطالما ان الوجود الانساني اللاطبقي هو "سابق" على المجتمع الطبقي، فإنه حتما سيكون "لاحقا" له، بحكم التطور الديالكتيكي للطبيعة والمجتمع الانساني كجزء لا يتجزأ منها.
اي ان "الانسان" هو:
اولا ـ كائن موجود (كما يقول الفلاسفة) او مخلوق (كما يقول اللاهوتيون) كانسان، وكجماعة انسانية بدائية تربطها رابطة الدم و"الجيرة" الجغرافية؛
ومن ثم، ثانيا ـ هو موجود كمجتمع طبقي.
والاستاذ يعلم تماما (ولكنه يتجاهل علينا ويريد ان يستهبلنا) بأن الانسان هو ذو تاريخين، او تاريخ مركـّب: تاريخ طبيعي، وتاريخ اجتماعي.
والتاريخ الطبيعي للانسان هو سابق على تاريخه الاجتماعي، ومستمر معه، و"بعده". وكما ان العمل لعب دوره الاساسي النوعي في "وجود الانسان" (اي تحول القرد الى انسان، كما يقول انجلز والعلوم الطبيعية ـ الانسانية)، فإنه ـ اي العمل ـ لعب دوره الاساسي لاحقا في وجود المجتمع الانساني. وفي مرحلة متقدمة فإن (لا "العمل" بحد ذاته، اي العمل كجوهر وجودي)، بل "تقسيم العمل" لعب دوره في وجود المجتمع الطبقي.
اي ان وجود الانسان مر بثلاث مراحل هي:
ـ1ـ تبلوره كانسان ـ عامل (اي "افتراقه" او "اختلافه النوعي" عن الحيوان).
ـ2ـ تبلوره كانسان اجتماعي ووجوده كمجتمع انساني.
ـ3ـ تبلوره كانسان ـ طبقي، وكانسان ـ فرد في مجتمع طبقي.
- VI -
والسؤال الذي ينبغي للمفكر، ولكل انسان واع، الاجابة عليه هو: ما هو المجتمع الانساني الاول الذي بلوره التاريخ الانساني، قبل ظهور المجتمع الطبقي، ومن ثم الصراع الطبقي؟
ـ انه المجتمع "الانساني" البدائي، وبكلمات اكثر تحديدا: المجتمع الشيوعي البدائي.
اي ان الانسان الاول (بفطرته الطبيعية قبل بداية تقسيم العمل والتقسيم الطبقي وظهور الملكية الفردية والطبقات المالكة والمميزة والطبقات المحرومة، اي قبل ظهور الطبقات والصراع الطبقي) كوّن او تكوّن كمجتمع لا تقسيم فيه ولا تمييز فيه. كانت الرابطة الوجودية للانسان هي رابطة الدم الضيقة (العائلة) ثم الواسعة (العشيرة والقبيلة) ثم الاوسع (وحدة او اتحاد العائلات والعشائر والقبائل في منطقة جغرافية معينة). وكان الكل يعملون معا كل شيء: يذهبون الى الرعي معا، يذهبون الى الصيد معا، يزرعون معا، يحيكون وينسجون ويصنعون الاحذية والسلال الخ معا، ينصبون الخيام معا، يرتحلون معا، يجلسون للراحة والطعام معا، الاولاد يتربون معا، الخ الخ الخ. وتعبير "معا" هنا يعني ان كل فرد كان يعمل كل من الاعمال المتعددة، في اوقات مختلفة، او ان مختلف الافراد كانوا يتناوبون عمل مختلف الاعمال في اوقات مختلفة، او عمل مختلف الاعمال في اوقات واحدة، دون تمييز، ودون "تقسيم" و"تخصص"، ومن ثم "تبادل"، حيث ان نتاج العمل كله، وعمل كل فرد، كان يعود للجميع ولكل فرد بدون تمييز. وبما ان الانسان لا ينتج "الاشياء" و"المزروعات" و"الحيوانات المدجنة" فقط، بل و"ينتج نفسه" ايضا، فقد نشأت بالضرورة "العائلة"، التي كانت هي ايضا عائلة "انسانية" بدائية مشتركة، تتميز بالمساواة التامة بين المرأة والرجل، ومن ثم بتعدد الزوجات وتعدد الازواج في الوقت ذاته. ولم يكن لا الزوج "يمتلك" الزوجة او الزوجات؛ ولا الزوجة "تمتلك" الزوج او الازواج. وكان الاولاد ينسبون، بشكل انساني ـ طبيعي، الى امهاتهم. وتلك هي مرحلة "المجتمع الامومي" (المطريرخي، قبل المجتمع البطريرخي، الابوي، الذي ألغي فيه تعدد الازواج، وبقي تعدد الزوجات، وذلك في عصر الانتقال الى الملكية الفردية وتقسيم العمل والتقسيم الطبقي للمجتمع). وكانت تلك هي الشيوعية البدائية المرتبطة بفطرة الانسان الاول.
اي ان الانسان الاول، ومن ثم الانسان ـ كإنسان ـ هو مفطور على الشيوعية، ولو لم يكن ـ اي هذا الانسان ـ قد قرأ "البيان الشيوعي" او سمع به، او حتى ـ وهذه ربما تكون مصيبة! ـ لم يكن قد قرأ فؤاد النمري او سمع به، او على الاقل قد قرأ او سمع بـ"العبد ـ الغني" مصطفى. والاعتراف بهذه الحقيقة لا يعني ابدا الاعتراف بماض ولى الى غير رجعة. بل ان هذا "الماضي" يعيش معنا وفينا كل لحظة. (علم الطب الحديث يدرس كل ظاهرة طبية في "ماضيها" و"تاريخها"). والفطرة الانسانية ترافق الانسان في المجتمع الطبقي ذاته وفي اعلى درجاته. اي انه يوجد دائما محركان للفعل الانساني: الفطرة الانسانية التي تتجسد فيها طبيعة الانسان الاولي (النازع الى الالفة والتعاطف والتضامن والتراحم بين البشر)، والصراع الطبقي الذي هو مسار آلية مصالح مادية فردية ـ فئوية ـ طبقية.
والعامل الثاني ـ اي الصراع الطبقي ـ هو خاضع للعامل الاول، اي الفطرة الانسانية. فالانسان الاولي، الانسان الفطري، هو مفطور على التآخي الانساني والتضامن والتعاضد وحب الخير وحب العدالة ونصرة الضعيف والمظلوم. والطبقات المحرومة والمستغلة هي "مدفوعة" لان تناضل من اجل جميع المظلومين والضعفاء؛ اما الطبقات المالكة والاستغلالية فتفعل العكس. مثلا: الطبقات المالكة والظالمة تدعم التمييز ضد المرأة وضد الاطفال وضد الضعفاء وضد الاقليات وضد الاجانب وضد الاغيار، من اجل استغلال عمل المرأة وعمل الاطفال وعمل الضعفاء والاغيار؛ اما الطبقات المحرومة والمظلومة فتناضل ضد التمييز ضد المرأة والاطفال الخ، اولا كشكل من اشكال النضال ضد الظلم بحد ذاته واعتبار المرأة والطفل والعجزة والمرضى والمعاقين اعضاء في الجماعة الانسانية، وثانيا من اجل مسألة زيادة الاجور وما اشبه. والفطرة الانسانية ضد الظلم ولاجل المساواة والعدالة الاجتماعية هي المرتكز الاساسي لجميع الحركات النضالية والتحررية، وعلى رأسها الحركات الشيوعية غير "المعقدة" بترهات كترهات فؤاد النمري الذي يتحفنا بسخريته الممجوجة من "العدالة الاجتماعية" والنضال من اجل الحرية.
- VII -
ولا بأس من تقديم بعض الامثلة الواقعية:
ـ1ـ في مأثوراتنا الشعبية ان أما او أبا لها او له عدة ابناء سئلت او سئل "من أحب ابنائك إليك؟". فكان الجواب: "مريضهم حتى يشفى، صغيرهم حتى يكبر، غائبهم حتى يحضر". لو اخذنا بالنظرة "الطبقية" الى هذا الجواب لوجدناه جوابا غير "عقلاني" وغير "علمي" وطبعا غير "ستالينو ـ نمروي"، لانه غير "انتاجي" وغير "ريعي" وغير "صراعوطبقي". ولكن من وجهة النظر "الانسانية" البدائية فهذا هو الجواب الصحيح. اي ان نظرة الام او الاب (اي رأس العائلة) الى جميع الابناء هي نظرة متساوية، بل هي تنحاز ايجابيا، بشكل انساني بدائي، الى الصغير والضعيف والغائب. وهذا طبعا ينعكس في علاقة الابناء بعضهم ببعض. وحتى ايامنا هذه، اذا اخذنا اي عائلة بدائية، رعوية او فلاحية، في اي ريف معزول، فإننا نجد ان الجميع يعملون معا، ومن المعيب لاي من افراد العائلة ان لا يعمل، ولكن اذا كان احد افراد العائلة مريضا او به عاهة (اعمى او ما اشبه) فلا يتم نبذه، بل يحظى بالتعاطف والرحمة، ولا احد يكرهه على عمل ما لا يستطيعه، بل يهتمون به اكثر من الصحيح المعافى؛ اما القوي فيطلب اليه القيام بالاعمال الاكثر مشقة، وهو يقوم بها بكل طيبة خاطر بل وباعتزاز دون ان يتكبر على اخيه الضعيف او المريض او الاعمى، ودون ان يطلب شيئا اضافيا لنفسه فوق ما يحتاجه بشكل طبيعي مقبول من الجميع. هذه الروح التضامنية للمجتمع البدائي هي هي الفطرة الشيوعية للانسان الاولي. وهي ما يسميها بعض اخوتنا الدينيين بأنها فطرة دينية. ولكن اذا تجردنا عن الاسقاطات الدينية او الفلسفية على الواقع المعاش، فإننا نكتشف ببساطة ان الانسان مفطور على ما يمكن تسميته "حب بني جنسه" او "حب الانسان لاخيه الانسان". ونحن نقول إن هذه هي الفباء الشيوعية؛ وهذا طبعا اذا سمح لنا الاستاذ فؤاد النمري، وامتنع عن السخرية من "شيوعيتنا البدائية" او الانسانية، لمجرد انه هو وستالينه المجرم المأفون لا يؤمنان بالانسان والانسانية، بل يؤمنان فقط بالحيوان او الانسان المحَيْوَن المربوط الى الآلة كحمار الناعورة.
ـ2ـ نسمع من سيرة الانسان البسيط العظيم المرحوم الشيخ امام الذي غنى للفقراء ومصر الشعب والثورة وغيفارا، انه حينما كان مع الشاعر الثوري احمد فؤاد نجم اطال الله عمره هاربين من وجه السلطة، كانا يختبئان في بعض الاحياء الشعبية الفقيرة، وذلك لا ليوم او يومين، بل لشهور وسنوات، فاذا جاءت الشرطة الى رأس الشارع الذي يقيمان فيه، يخبرهما الاهالي فورا فينتقلان من بيت الى بيت، ولا تظفر بهما الشرطة. فما هي الحوافز التي كانت ولا تزال تدفع الفقراء في حي شعبي او احياء شعبية كاملة لحماية الثوريين والمتمردين على السلطة الظالمة؟ هل ان هؤلاء الناس قد قرأوا "البيان الشيوعي" او "أسس اللينينية" لستالين او قرأوا فؤاد النمري؟
ـ طبعا كلا؛ بل ان هؤلاء الناس يتصرفون بفطرتهم الاجتماعية الانسانية المعادية للظلم والمناصرة للعدالة الاجتماعية والمناضلة لاجلها. وهذه هي الشيوعية الحقيقية، التي علينا تطويرها من وضعها الانساني الاولي، البدائي، الخام، الى وضعها الانساني الواعي.
فالشيوعية ليست مستوردة او دخيلة على المجتمع الانساني، بل هي اي الشيوعية موجودة في فطرة الانسان والجماهير الشعبية. والحزب الشيوعي لا يصنع الشيوعية، بل يعيد صياغة الشيوعية الفطرية في بناء اجتماعي ـ فكري ـ تنظيمي واع، يواجه تنظيمات الطبقات الظالمة وعلى رأسها قوات الاحتلال والدول والحكومات والاحزاب العميلة.
ـ3ـ اذا درسنا تلك الظاهرة الانسانية العظيمة "المنسية"، ونعني بها ظاهرة ظهور الديانة المسيحية في الشرق العربي، فسنجد انه حينما استفحل الظلم والاستبداد العنصري ـ الطبقي للامبراطورية الرومانية واعوانها من الطغمة المالية ـ الكهنوتية اليهودية، فإن الفطرة الانسانية المعادية لهذا الظلم كانت هي التربة الخصبة التي انتشرت فيها المسيحية انتشار النار في الهشيم. فالعائلات والعشائر والقبائل الفقيرة التي تبعت يوحنا المعمدان في فلسطين ووادي الاردن حينما طرح فكرة الخلاص ومجيء المخلص، ـ هذه الجماهير، وعلى رأسها يوحنا المعمدان نفسه، لم تكن تفكر ـ اذا فكرت ـ فقط في "الخلاص الابدي" بعد الموت، بل كانت تفكر في الخلاص من السلطة الجائرة القائمة، ولهذا فإن حركة يوحنا المعمدان كانت تعبيرا عن فطرة الانسان في مواجهة الظلم والطموح الى العدالة الاجتماعية التي يسخر منها فؤاد النمري ويعتبرها افكارا برجوازية وضيعة. وبين فترة يوحنا المعمدان ثم فترة ظهور المسيح، وبعد اعدام الاثنين، على يد الاستبداد الهمجي الروماني ـ اليهودي، ظهرت الجماعات المسيحية الاولى، الاسينية وغيرها، التي كانت تعيش حياة شيوعية بدائية حقيقية. وكل غني او مالك كان يريد الانتساب الى احدى تلك الجماعات المسيحية الشيوعية البدائية، كان عليه ان يبيع كل ما يملك ويسلم ما يملك للجماعة كي يسمح له بالالتحاق بها والعيش كأي فرد آخر فيها. وحينما فرت العائلة المقدسة من فلسطين الى مصر عبر غزة وسيناء، لحماية الطفل يسوع من القتل، فإن الفقراء الذين اخفوا العائلة المقدسة الهاربة وآووها واطعموها وساعدوها على الهرب والاختباء لم يكونوا بعد مسيحيين او مسلمين الخ، بل كانوا اناسا فقراء فطريين وقفوا بفطريتهم ضد الظلم الذي تجسده الامبراطورية الرومانية ودولتها واليهود المتعاونين معها. واذا كان النهضويون المسيحيون العرب في الازمنة المعاصرة، هم اول من طرح فكرة او مشروع الوحدة القومية العربية، بوجه السلطنة العثمانية وبوجه الاستعمار الغربي، فلأنهم كانوا يدركون تماما ان المسيحية الشرقية (بدءا بيوحنا المعمدان وعيسى المسيح وتلامذته، الذين ضحوا بحياتهم) كانت حركة مناضلة ضد روما والطغمة المالية ـ الكهنوتية اليهودية؛ وأن هذه الحركة هي اول من جمع ووحد الجماهير الشعبية في بلاد كنعان وما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية ووادي النيل وشمال افريقيا على قاعدة النضال ضد الظلم القومي والطبقي ولاجل العدالة الانسانية ـ الاجتماعية؛ وهذا النضال للمسيحية الشرقية الاولى هو الذي بوتق وحدة تلك الجماهير الشعبية في ما اصبح يعرف بالقومية العربية والامة العربية.
ـ4ـ في العصور الوسطى، وبشكل خاص في العهدين المملوكي والعثماني، تعرض المسيحيون اللبنانيون المعزولون في الجبال الوعرة والمجدبة لخطر الموت جوعا وبردا في حر الصيف وقر الشتاء؛ واستنادا الى تقاليد الشيوعية المسيحية القديمة، نشأت حركة رهبانية واسعة في الجبال اللبنانية، فكان الرهبان (ابناء الفلاحين الفقراء والمعدمين وبعض اخوتهم الميسورين) يحفرون الصخور ويبنون الاديرة في اعالي الجبال الوعرة، التي لا يستطيع الوصول اليها الا النسور والمعزى ورعاة المعزى، وكان يطلع من كل بيت (عائلة) راهب او راهبة او اكثر؛ وكان هؤلاء الرهبان يقومون بصلواتهم الى الله العلي القدير، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا يعيشون على الكفاف (كسرة خبز او بضع حبات زيتون وراس بصل او لحسة زيت او لحسة دبس في اليوم)، الا انهم مقابل هذا "الترف" كانوا يعملون من الفجر الى النجر، 14 ـ 15 ـ 16 ساعة في اليوم، في تفتيت الصخور وتجليلها وزراعتها وجني الزرع وتجميع الغلال وعصر الزيتون والعنب وصنع الدبس والخمور وتجفيف الثمار وملء جرار "القورمة"، من اجل مساعدة العائلات البائسة في القرى ومدها بما يبقي الناس على قيد الحياة. وحركة الرهبنة في الجبال اللبنانية هي التي انقذت لمئات السنين المسيحيين اللبنانيين في تلك الجبال من الفناء. ليس في نيتنا طبعا التقليل من اهمية العامل الديني لدى هؤلاء الناس، الايمان بالمسيح والخوارق السماوية وغيرها من المعتقدات. ولكن ـ وهذا رأينا المتواضع على الاقل ـ ان الشعور الفطري للانسان، بكره الظلم والاستبداد، والتعلق بالعدالة الانسانية، وحب الانسان لاخيه الانسان (الاقريين فالابعدين)، اي الشعور الشيوعي الفطري، الضارب بجذوره في اعماق التاريخ الانساني وفي اعماق النفس البشرية، ـ هذا الشعور كان اهم محرك لحركة الرهبنة المسيحية اللبنانية في القرون الوسطى التي كان لها الفضل الاول في انقاذ المسيحيين اللبنانيين من الفناء في الجبال دون ان يدري بهم احد!!!.
ـ5ـ ولنعد الى تجربة الثورة الروسية، منذ ثورة 1905، الى ثورة شباط 1917، الى ثورة اوكتوبر الاشتراكية العظمى. كيف اكتسب البولشفيك ثقة الجماهير الشعبية الكادحة والمظلومة، الروسية والآذرية والطاجيكية والارمنية وغيرها وغيرها؟ هل كان المناضلون البلشفيك يذهبون الى تلك الجماهير ليعبئونها صفوفا سبارطية منتظمة على المليمتر، تحت الرايات الخفاقة للمادية التاريخية والحتمية التاريخية، والشعارات البراقة والخطب الرنانة حول الصراع الطبقي ودكتاتورية البروليتاريا وحسنات الصناعة الرأسمالية الحديثة والتكنولوجيا الالمانية واليابانية الراقية وأفضليات ان يعيش الانسان عبدا مرتبطا بالآلة المتطورة على ان يعيش حرا في مضرب بدو؟!!! هل كانوا يجمعون الناس ليقرأوا عليهم "الرأسمال" لكارل ماركس او ما اشبه ذلك؟ هل هذا ما كان يدعو اليه المناضلون البولشفيك؟ ام انهم كانوا يتحدثون مع الناس عن الظلم والفقر والجوع والمرض واستنزاف العمال والفلاحين حتى آخر قطرة عرق ودم في عروقهم، والاضطهاد والعبودية والمنافي والاذلال الانساني وفقدان الحريات والعدالة الاجتماعية، وموت الملايين على الجبهات في وحول الخنادق تحت جنازير الدبابات الالمانية المتطورة، من اجل ان يزهو ويتطاوس قيصر هنا وقيصر هناك، ومن اجل ان تتغندر قيصرة واخواتها وبناتها امام غزل رجال الحاشية المخملية ويتمتعن بفحولة راسبوتين وغيره من العشاق؟ طبعا ان المناضلين البولشفيك كانوا يتحدثون بهذه "اللغة الانسانية" المتخلفة والوضيعة (بالقاموس "النمري")، لانهم كانوا لينينيين "متخلفين" ولم يكن لهم علم "الماركسية الميكانيكية المزيفة والمشبوهة" الفاشستية ـ الهتلرية ـ الستالينية التي أوتيها امثال ستالين وبيريا، الذين ـ للاسف الشديد ـ ينضم اليهم ويدافع عنهم مناضل سابق مثل فؤاد النمري.
- VIII -
ان المجتمع البشري بدأ كمجتمع لاطبقي، شيوعي بدائي؛ ثم تحول الى مجتمع طبقي؛ والحتمية التاريخية (historical determinism) تسير ليس باتجاه تأبيد الرأسمالية المتطورة، كما يستنتج من كلمات الاستاذ، بل باتجاه "العودة" الى المجتمع اللاطبقي، الشيوعي، انما الراقي والواعي.
وبسبب انقسام المجتمع، ووجود الطبقة البرجوازية، مالكة الرأسمال، ووجود النظام الرأسمالي القائم على استغلال الطبقة العاملة والكادحين، وابشع اشكال النظام الرأسمالي: الامبريالية والاستعمار القائمين على استعباد ونهب شعوب بأكملها وممارسة الاضطهاد والظلم "الوجودي" ضدها، عبر التمييز العنصري والقومي والاتني والديني الخ. انطلاقا من هذا الواقع التاريخي، فإن النضال ضد الرأسمالية والامبريالية والاستعمار، وفي الحساب الاخير النضال لاجل بناء المجتمع الشيوعي، يسير على خطين متوازيين ومترابطين هما:
ـ النضال الطبقي ضد الاستغلال النسبي والمطلق للبروليتاريا والكادحين؛
ـ والنضال الانساني لاجل الحرية والكرامة والعدالة الانسانية، اي تحرير جميع الشعوب والجماعات المستعبدة والمظلومة.
ولا يمكن بأي شكل من الاشكال الفصل بين النضال الطبقي لاجل تحرير الطبقة العاملة من الاستغلال الطبقي؛ والنضال الانساني، لاجل تحرير جميع البشر وجميع الشعوب من التمييز والظلم والاستعباد. وكل فصل بين النضال الطبقي ضد الاستغلال والنضال الانساني لاجل الحرية والعدالة الانسانية انما يصب في خدمة الرأسمالية والامبريالية والاستعمار.
لنتصور مثلا ان حزبا شيوعيا اوروبيا او اميركيا يناضل لاجل زيادة الاجور وتحسين مستوى المعيشة ورفع مستوى الانتاج وبناء "الاشتراكية" في اوروبا او اميركا، وفي الوقت نفسه يدير ظهره لمسألة استعمار الشعوب الاسيوية والافريقية، او مسألة العنصرية داخل اوروبا واميركا بالذات. هل يمكن تصديق "شيوعية" مثل هذا الحزب؟
وبالمثل، فإنه لا يمكن ان نتصور حزبا "شيوعيا" يقوم ببناء الاشتراكية عن طريق اقامة معسكرات العمل الاجباري العبودي كما كان يفعل ستالين. لا شك ان هذا الاسلوب ربما يقود الى تطوير الانتاج ورفع مستوى الانتاجية عبر ادخال تكنولوجيا ارفع مستوى والوصول الى انتاجية عمل اكبر؛ ولكن اذا كان ثمن التطوير التكنولوجي والانتاجي، هو اذلال وتحقير وحَيْونة الكائن الانساني فان الذي يفعل ذلك لا يتقدم نحو بناء مجتمع شيوعي، بل يتقدم نحو بناء مجتمع فرعوني عبودي، نازي او ستاليني او صهيوني.
واذا اردنا تطبيق هذه النظرية "الطبقية ـ الآلوية ـ الانتاجية" للاستاذ الاعظم فؤاد النمري على القضية الفلسطينية: هل يمكن ان نتصور ان نختزل هذه القضية في النضال لاجل زيادة اجور ومستوى معيشة العمال الفلسطينيين، في اسرائيل كبرى ستكون بلا شك ارقى من اي دولة عربية قائمة او مفترضة، مقابل التخلي عن النضال لاجل تحرير فلسطين، التي، غداة تحريرها المفترض، ستكون بلا شك ادنى مستوى درجات ودرجات من اسرائيل الحالية بكل المقاييس التكنولوجية والآلية "النمرية".
وأنا أتساءل بالكثير من الحيرة: الا يعرف الاستاذ فؤاد النمري هذه الحقائق التاريخية والعلمية؟
ـ انني متأكد انه يعرفها تمام المعرفة؛ ولكنه يتجاهلها ويزدريها، ويريد ان يفرض علينا قراءة الماركسية ليس بعين شيوعية، بل بعين رأسمالية؛ اي تماما مثل النصاب او المحتال الذي يقرأ كتب القانون لا من اجل الدفاع عن القانون وتطبيقه، بل من اجل ان يعرف كيف يتحايل اكثر على القانون؛ او اللص الذي يقرأ قانون العقوبات والروايات البوليسية من اجل ان يتعلم "تحسين" طرق اللصوصية. والاستاذ هو "مضطر" ان يوقع نفسه في هذه الورطة الفكرية، لانه يعتقد، او يدعي ويتظاهر انه يعتقد، ان ستالين هو "شيوعي" مخلص؛ ونظرا لمعرفته التامة بجرائم ستالين، فهو "مضطر" ان يبرره ويبرئه من جرائمه، فيجد نفسه "مضطرا" لان يقع في هذه المطبات الفكرية التي لا تليق بمثقف مثله، حتى لو كان مثقفا برجوازيا، فكيف اذا كان "شيوعيا" كما يدعي.
- IX -
من الثابت تاريخيا ان ستالين، قاتل او المشارك الرئيسي في قتل لينين، كان متاجرا، بل اكبر متاجر باللينينية، وبنى مجده "الفكري" عليها. ولكنه طبعا كان دجالا محترفا ولا علاقة له باللينينية الا كوسيلة للتضليل ولاخفاء شخصيته الحقيقية، كدكتاتور متوحش، على الطريقة الهتلرية ذاتها، وكخادم حقيقي للنظام الامبريالي العالمي وللصهيونية، على طريقة هتلر ذاته. ويأتي الاستاذ فؤاد النمري ويميط لنا اللثام او القناع، من حيث يدري او لا يدري، عن حقيقة الستالينية، وعن انها كانت تتبنى اللينينية كعملية كذب لا اكثر. فالاستاذ ينكر بوضوح اهمية ثورة اكتوبر 1917 بقيادة لينين، ويطرح لينين ارضا ويدوس عليه، ويضع ستالين فوقه تماما. لنقرأه يكتب:
"يمكننا القول بكل امانة وثقة ان الثورة الاشتراكية الحقيقية لم تكن هي انتفاضة اكتوبر 1917 التي نقلت السلطة الى ايدي البلاشفة ومكنتهم من بناء الهياكل السياسية والادارية للدولة بل هي التحولات الاجتماعية العظيمة التي انجزها الحزب الشيوعي بقيادة ستالين خلال فترة قياسية 1926 ـ 1931."
و"دهاة الرأسمالية كانوا قد نجحوا بإرشاد من خروشتشوف في تركيب عقار مقاوم للإشتراكية. توصل هؤلاء الدهاة إلى قاعدة تقول.. "إكره ستالين تكره الإشتراكية" وهذه قاعدة سليمة مائة بالمائة حيث أن البشرية عبر تاريخها الطويل لم تعرف إشتراكية غير تلك التي بناها ستالين في الإتحاد السوفياتي . السيد جورج حداد يكره ستالين أكثر من هتلر ومن تشرتشل وأضرابهما من أعداء الإنسانية لكنه يكسر القاعدة ويحب الإشتراكية السوفياتية. كيف يكون ذلك لا أحد يعلم إلا جورج حداد. يصف ستالين بالمجرم والقاتل الذي اغتال لينين وبأنه عميل للنازية وللإمبريالية وللصهيونية لكن التاريخ يقطع بأن ستالين هو من أقام حصن السلم والإشتراكية في العالم الذي أحبه جورج حداد حباً جماً وما زال. آخر ما خطّه لينين في الحياة السوفياتية هو السياسة الإقتصادية الجديدة (NEP)عام 1922 التي كانت كما وصفها لينين نفسه خطوة إلى الخلف على طريق الإشتراكية. حصن السلم والإشتراكية الذي تعالى وتعالى وتمكن من سحق الهتلرية في وكرها كان من بناء الحزب الشيوعي البولشفي بقيادة البولشفي الأعظم جوزيف ستالين".
و"يشير هذا الكاتب غريب الأطوار والأفكار إلى أن المجموعة البورجوازية التي كان يتزعمها ستالين داخل قيادة الحزب هي من تسبب بانهيار المعسكر الإشتراكي؛ لكن التاريخ لا يسعف هذا المصاب بعداء الستالينية فقرر أن الثورة الإشتراكية العالمية التي قدح شررها لينين عام 1917 كانت في أعلى منسوب وصلت إليه لدى رحيل ستالين في آذار 1953" .
لسنا في هذه المقالة في صدد مناقشة دور ستالين، السلبي او الايجابي، في النظام السوفياتي ومصيره (وهو ما نؤجله الى وقت آخر)، بل نلفت النظر بشدة الى تخفيض دور لينين الى الحضيض في الثورة الاشتراكية ووضع اسس بناء الاشتراكية، ورفع دور ستالين الى الاوج. والحقيقة التاريخية هي ان ستالين لم يكن مؤمنا باللينينية، بل هو العدو الألد لها؛ وصراخ الاستاذ النمري لمصلحة ستالين لا يفعل شيئا سوى ان يكشف تماما حقيقة ستالين والستالينية، فهذه الثمرة ... من تلك الشجرة.