قراءة في كتاب -ما العمل؟- الجزء الثالث ـــ الفصل الخامس والأخير

قراءة في كتاب "ما العمل؟"
علي محمود
الجزء الثالث ــــــ الفصل الخامس والأخير
"لقد كان الناس وسيظلون أبدا، في حقل السياسة، أناسا سذجا يخدعهم الأخرون ويخدعون أنفسهم، ما لم يتعلموا استشفاف مصالح هذه الطبقات أو تلك وراء التعابير والبيانات والوعود الأخلاقية والدينية والسياسية والاجتماعية" لينين، المؤلفات، الطبعة الروسية الخامسة، المجلد 23، ص 40-48
الفصل الخامس
1- "مشروع" جريدة سياسية لعامة روسيا
أثارت مقالة لينين "بما نبدأ" العديد من أنصار "حرية النقد" وأصحاب الاقتصادوية، فاتهموا ال"إسكرا" معتبرين أن الخطأ الأكبر الذي اقترفته هو مشروعها عن المنظمة الحزبية العامة، الذي جاء في مقال "بما نبدأ"، وادعوا أن "الإسكرا" تقلل من أهمية النضال الجاري المعتاد مقارنة بالدعاية إلى الأفكار البراقة المتبلورة، وانضم إلى الجوقة نادجدين، الذي كتب في كراس "عشية الثورة"، والذي أصدرته جماعة "سفوبودا" الاشتراكية الثورية، و جاء في كلامه أن:
"الكلام في هذا الوقت عن منظمة متصلة الأسباب بجريدة لعامة روسيا يعني توليد الأفكار المكتبية والعمل المكتبي"، بل أسمى ذلك، "التنميق الأدبي"، ويقول لينين:
"إن تضامن هذا الإرهابي مع أنصار "السير الصاعد للنضال الجاري المعتاد" لا يمكن أن يدهشنا الآن بعد أن تبينا جذور هذه القرابة في الفصلين عن السياسة وعن التنظيم".
ويعتبر لينين أن نادجدين هو الوحيد الذي عالج الموضوع من حيث الجوهر، بينما لم تقل "رابوتشيه ديلو من حيث الجوهر أي شيء على الإطلاق مستعملة الأساليب الديماغوجية.
ويقول لينين أنه:
"سيترتب علينا، مهما يكن ذلك غير سار، أن نضيع الوقت أولا في تنظيف اصطبلات أو جياس هذه".
وتناول لينين في الجزء اللاحق:
1- من أغاظتهم مقالة "بما نبدأ؟"
*هنا يقوم لينين بسرد للتعابير والصرخات، التي انهالت بها على "الإسكرا" جريدة "رابوتشيه ديلو"
"ليست الجريدة هي التي تستطيع أن تنشئ منظمة الحزب، بل العكس هو الصحيح".
"جريدة فوق الحزب، لا تخضع لرقابته، مستقلة عنه بفضل شبكة عملائها الخاصة".
"بأي معجزة نسيت "الإسكرا" المنظمات الاشتراكية – الديموقراطية القائمة في الواقع والعائدة للحزب، الذي تنتسب إليه "الإسكرا" نفسها".
"حملة المبادئ الثابتة والمشروع المناسب هم أيضا الضابطون الأعلون للنضال الفعلي للحزب، وهم الذين يملون عليه تنفيذ مشروعهم".
"المشروع يسوق منظماتنا الحية والحيوية إلى عالم الأشباح، ويريد أن يبعث الحياة في شبكة عملاء من صنع الخيال".
"إذا وضع مشروع "الإسكرا" موضع التنفيذ، أدى إلى محو كل أثر للحزب "العمالي الاشتراكي – الديموقراطي في روسيا"، الذي يجري تكوينه عندنا".
"جريدة الدعاية تصبح مشرعا للنضال الثوري العملي بأكمله، مستبدا غير خاضع للرقابة".
إن حديث "رابوتشيه ديلو" تقدمه كما لو أنه ليس فقط اغتياظا لنفسه، بل لمنظمات ولجان الحزب، التي زعمت أن "الإسكرا" تريد أن تسيقها إلى عالم الأشباح ...
ويرد لينين قائلا:
"لقدر صدرت مقالة "بما نبدأ؟" في ماي 1901، وصدرت مقالة "رابوتشيه ديلو" في شتنبر 1901، ونحن الآن في منتصف يناير 1902. وخلال هذه الأشهر الخمسة كلها لم ترفع (لا قبل شتنبر ولا بعد شتنبر) لجنة واحدة، أو منظمة واحدة لمنظمات الحزب احتجاجا رسميا عل هذا الهول الذي يريد أن يسوق اللجان والمنظمات إلى عالم الأشباح! وفي غضون هذه الفترة نشرت "الإسكرا" وغيرها من المطبوعات الكثيرة ذات الطابع المحلي وغير المحلي عشرات، بل مئات من الأخبار تلقتها من جميع زوايا روسيا. فكيف نفسر واقع أن الذين يراد سوقهم إلى عالم الأشباح لم يلحظوا ذلك، ولم يغضهم ذلك، بل أغاض طرفا ثالثا؟
تفسير ذلك أن اللجان وغيرها من المنظمات منصرفة إلى العمل الحقيقي، إلى اللعب ب "الديموقراطية". لقد قرأت اللجان مقالة "بما نبدأ؟"، ورأت أنها محاولة لوضع مشروع معين للمنظمة لكي ما يمكن الشروع ببنائها من جميع الجهات، ولما كانت تعلم، وترى بوضوح أن أية جهة من جميع الجهات هذه. لن تفكر بالشروع بالبناء ما لم تقتنع بضرورته وبصحة المخطط الهندسي، لم يخطر لها ببال طبعا أن تغتاظ من جرأة الناس الذين أعلنوا في "الإسكرا" قائلين "إننا نظرا لكون المسألة هامة لا تقبل التأجيل، عزمنا من جهتنا على أن نعرض على أنظار الرفاق الخطوط الكبرى لمشروع نفصله في الكراس الذي نعده للطبع".
*وفي إطار إفحام خصومه، سرد لينين أربعة وقائع:
الواقعة الأولى:
يروي لينين هنا، كيف أن أعضاء أحد "اتحادات النضال" اتفقوا مع أحد أعضاء جماعة "الإسكرا" على تأسيس مكتبة عمالية خاصة لخدمة الحركة بمجموعها، ولم تسمح الظروف بتأسيس تلك المكتبة العمالية، أما الكراسان اللذان كتبا لهذه المكتبة فهما "مهمات الاشتراكيين – الديموقراطيين الروس" و "قانون المعمل الجديد"، وقد جرى طبعهما في الخارج.
الواقعة الثانية:
توجه أعضاء لجنة "البوند" المركزية إلى أحد أعضاء جماعة "الإسكرا" باقتراح تنظيم مختبر أدبي، وقالوا إن الحركة قد تتقهقر كثيرا في حالة عدم النجاح في ذلك، وقد كان من نتيجة هذه المفاوضات إنتاج كراس "قضية العمال في روسيا".
الواقعة الثالثة:
توجهت لجنة "البوند" المركزية إلى أحد أعضاء جماعة "الإسكرا" طالبة منه أن يأخذ على عاتقه تحرير " رابوتشايا غازيطا"، وتم الجواب بالموافقة، وكان من نتائج هذا العمل، إرسال مقالات من قبيل "برنامجنا"، وكذلك "واجبنا المباشر"، و "مسألة ملحة"، ولكن المشروع المتعلق باستئناف إصدار "رابوتشايا غازيطا" لم يتحقق، ولم ينشر المقالات.
الواقعة الرابعة:
وهي أن عضو اللجنة، الذي نظم المؤتمر الثاني الدوري لحزبنا، بلغ أحد أعضاء لجنة "الإسكرا" برنامج المؤتمر، ورشح هذه الجماعة لوظيفة تحرير "رابوتشايا غازيطا"، ولكن ذلك لم يتم نتيجة لعدة أسباب، واكتفت بوضع تقرير خطي للمؤتمر، وقد تضمن هذا التقرير فكرة مفادها أن مجرد انتخابنا للجنة المركزية يحل مسالة التوحيد في ظرف التبعثر الكامل الذي نجتازه.
كان لينين يرى أنه ينبغي البدء بدعوة جميع اللجان وجميع المنظمات الأخرى إلى تأييد الجريدة العامة، التي يعاد إصدارها، والتي من شأنها أن تربط فعلا جميع اللجان برباط عملي، وتحضر فعلا فريقا من القادة للحركة بمجموعها، وأن اللجان والحزب يستطيعان بسهولة أن يحولوا هذا الفريق، الذي أنشأته اللجان إلى لجنة مركزية منذ أن ينشأ هذا الفريق ويتوطد، ولكن المؤتمر لم ينعقد بسبب جملة من الاعتقالات والاعتبارات، أملتها ظروف العمل السري. أتلف التقرير بعد أن قرأه بعض الرفاق فقط، ومنهم مندوب إحدى اللجان.
ويترك لينين للقارئ أن يحكم بنفسه على طابع هذه الأساليب، التي من نوع تلميح "البوند" إلى التدجيل وحجة "رابوتشيه ديلو" الزاعمة أننا نريد سوق اللجان إلى عالم الأشباح والاستعاضة عن منظمة الحزب بمنظمة نشر أفكار جريدة واحدة.
2- هل يمكن للجريدة أن تكون منظما جماعيا
* إن الأمر الرئيسي في مقالة "بما نبدأ؟" هو طرح هذا السؤال بالذات، والإجابة عنه بالإيجاب. ولإثارة النقاش حول الموضوع طرح لينين حجج نادجدين، الذي اعتبره لينين الوحيد الذ قام بتحليل هذه المسألة من حيث الجوهر، وأجاب بالسلب:
"لقد أعجبنا جدا طرح "الإسكرا" عدد 4 لمسألة ضرورة إصدار جريدة لعامة روسيا، ولكن لا نستطيع بوجه أن نسلم بأن طرح المسألة بهذا الشكل يتلاءم وعنوان المقالة "بما نبدأ؟" فهي أمر في منتهى الأهمية دون شك، ولكن ليس في وسعها أو في وسع مجموعة كاملة من النشرات أن تضع أساس المنظمة الكفاحية، التي يقتضيها الظرف الثوري. من الضروري الشروع بتشكيل منظمات سياسية محلية قوية، وهذه المنظمات غير موجودة عندنا. فقد جرى العمل عندنا بصورة رئيسية بين العمال المثقفين، في حين كانت الجماهير تقوم بالنضال الاقتصادي وحده تقريبا، وإذ لم ترب منظمات سياسية محلية قوية، فما جدوى جريدة لعامة روسيا، وإن كانت منظمة خير تنظيم "العليقة تتوقد بالنار، وهي لا تحترق ولا تحرق أحدا" حول هذه الجريدة وفي العمل من أجلها يجتمع الناس وينتظمون. هكذا حسب "الإسكرا"، لكن من الأيسر لهم أن يجتمعوا وينتظموا حول عمل ملموس أكثر! هذا العمل يمكن، ويجب أن يكون تنظيم الجرائد المحلية على نطاق واسع، والشروع منذ الآن بتحضير قوى العمال للمظاهرات، وقيام المنظمات المحلية بعمل دائم بين العاطلين عن العمل ... ينبغي الشروع في عمل سياسي حي على النطاق المحلي، وعندما تظهر ضرورة الاتحاد على هذا الصعيد الواقعي، لن يكون الاتحاد مصطنعا، ولا حبرا على ورق. إن توحيد العمل المحلي وتحويله إلى عمل روسي عام لا يمكن بلوغه عن طريق الجرائد".
("عشية الثورة")
*إجابات لينين عن الاعتراضات.
يقول لينين:
"إذا لم ترب منظمات سياسية محلية قوية، فلا جدوى من جريدة لعامة روسيا، وحتى وإن كانت في ذروة الكمال. هذا صحيح كل الصحة، ولكن المصيبة تكمن في عدم وجود طريق لتربية منظمات سياسية قوية غير طريق جريدة لعامة روسيا. لقد غابت عن الكاتب أهم فقرة فيما كتبته "الإسكرا" وهي الفقرة الواردة قبل الشروع بعرض مشروعها: "تنبغي الدعوة لخلق منظمة ثورية أهل لتوحيد جميع القوى، ولقيادة الحركة لا بالاسم فحسب بل بالفعل، أي أن تكون مستعدة على الدوام لتأييد كل احتجاج ولكل غليان، وللاستفادة من هذه الاحتجاجات والغليانان في زيادة وتعزيز القوات الحربية الصالحة للمعركة الفاصلة".
واستطردت "الإسكرا" قائلة أنه بعد حوادث فبراير ومارس لا يعترض أحد على ذلك من الناحية المبدئية، غير أن ما نحتاج إليه، ليس الحل المبدئي للمسألة، بل الحل العملي، ينبغي أن يوضع على الفور مشروع معين للبناء لكي ما يستطيع الجميع الشروع في البناء فورا، ومن جميع الجهات، و ها هم يجروننا مرة أخرى إلى الوراء، من الحل العملي إلى حقيقة كبرى لا تقبل الجدال، وهي صحيحة من الناحية المبدئية كل الصحة، ولكنها غير كافية بتاتا، وغير مفهومة بتاتا لجمهور العاملين الواسع إلى حقيقة:
"تربية منظمات سياسية قوية!". ليس هذا محور الحديث يا حضرة الكاتب المحترم، إنما يدور الحديث عن كيفية تربيتها وإنجاز تربيتها!
وبالنسبة لقضية العمال المثقفين، يقول لينين:
"فخلال السنوات الأخيرة قام عندنا العمال المثقفون هم أيضا بالنضال الاقتصادي وحده تقريبا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لن تتعلم الجماهير أيضا القيام بالنضال السياسي ما لم يساعد على أن يتربى القادة لهذا النضال من العمال المثقفين، ومن المثقفين سواء بسواء. وهؤلاء القادة لا يمكن أن يتربوا إلا على أساس تقديرهم بصورة يومية منتظمة لجميع وجوه حياتنا السياسية، بجميع محاولات الاحتجاج والنضال، التي تقوم بها مختلف الطبقات في مختلف المناسبات، ولذلك، فإن الكلام عن تربية منظمات سياسية، والقيام في الوقت نفسه بمعارضة عمل الجريدة السياسية الورقي بالعمل السياسي الحي على النطاق المحلي، هما بكل بساطة أمر مضحك؟
ويخلص لينين إلى فكرة أنه:
"لا يمكن البدء ب "العمل السياسي الحي" إلا من التحريض السياسي الحي، الذي لا يمكن القيام به بدون جريدة لعامة روسيا، تصدر بتواتر و توزع توزيعا صحيحا".
وفي مكان آخر، يقول لينين:
"قد جاء في "الإسكرا" أن تأسيس جريدة سياسية لعامة روسيا، ينبغي أن يكون الخيط الأساسي الذي يمكننا متى أمسكنا به بأن نطور ونعمق ونوسع باستمرار هذه المنظمة (أي المنظمة الثورية المستعدة على الدوام لتأييد كل احتجاج وكل غليان).
قولوا لنا من فضلكم: عندما يضع البناؤون في مختلف الأماكن حجارة عمارة كبيرة لا سابق لها أبدا، ألا يقومون ب "عمل ورقي" إذ يمدون خيطا يساعدهم على إيجاد المكان الصحيح للصف، ويبين لهم الهدف النهائي لعملهم المشترك، ويمكنهم من الاستفادة، لا من كل حجر فحسب، بل أيضا من كل قطعة من الحجر الذي بتلاصقه مع سابقه ولاحقه يعطي المدماك النهائي الكامل؟ ألا نجتاز نحن في حياتنا الحزبية هذا الظرف، الذي توجد فيه الحجارة ويوجد البناؤون، ولا نجد بالضبط ذلك الخيط الذي يستطيع الجميع أن يروه ويتمسكوا به؟ فليصرخ من يريد أن يصرخ أننا بمدنا للخيط نريد أن يكون في يدنا الأمر والنهي".
"إن نادجدين يعظنا قائلا: "إن مسألة توحيد النشاط المحلي في هيئات مركزية تدور في حلقة مفرغة، فالتوحيد يقتضي تجانس العناصر، وهذا التجانس نفسه لا يمكن تكوينه إلا عن طريق شيء يوحد، ولكن هذا الشيء الموحد، لا يمكن أن يكون غير نتاج منظمات محلية قوية لا تتصف البتة في الوقت الحاضر بالتجانس".
ويجيب لينين:
"إن "كل مسألة تدور في حلقة مفرغة" لأن الحياة السياسية بأكملها عبارة عن سلسلة لا نهائية لها، تتألف من عدد لا يحصى من الحلقات.
وتتلخص براعة السياسي كلها في إيجاد الحلقة اللازمة، وفي التمسك بها بقوة، الحلقة التي هي أشد الحلقات استعصاء على انتزاعها من بين يديه، والتي هي أهم الحلقات في ظرف معين، الحلقة التي تعطي الحائز عليها أكبر الضمانات بحيازة السلسلة كلها".
ويضيف لينين في مكان آخر:
"الجريدة ليست فقط داعية جماعيا ومحرضا جماعيا، بل هي في الوقت نفسه منظم جماعي، ومن هذه الناحية الأخيرة يمكن أن تقارن بالسقالات، التي تنصب حول بناية يجري بناؤها، فتشير إلى معالم البناية وتسهل الاتصال بين البناة، وتساعدهم على توزيع العمل بينهم، وعلى رؤية مجمل النتائج التي أحرزها العمل المنظم".
يواجه نقاد مشروع "الإسكرا" بما فيهم نادجدين أنصارها بفكرة حول ما يسمى بالعمل الملموس أكثر. ويقوم لينين بتشريح معنى ذلك عند أصحابه، وخاصة نادجدين. وقام بتقسيمه كما يلي:
1-الجرائد المحلية
2-الاستعداد للمظاهرات
3-العمل بين العاطلين عن العمل
يتضح حتى لأول وهلة أن جميع هذه الأشياء قد التقطت صدفة تماما، على بركة الله، من أجل أن يقال شيء ما، إذ، أننا كيفما تمعنا فيها، لا نرى فيها شيئا من خصائصه أن "يجمع وينظم"، إلا إذا خرجنا عن كل منطق، علما أن نادجدين نفسه يقول بعد صفحتين:
"لقد آن لنا أن نسجل هذا الواقع: العمل المحلي تافه جدا، فاللجان لا تعمل حتى عشر ما يمكنها أن تفعل ... والمراكز الموحدة (الحاء بالكسر) الموجودة لدينا الآن سراب، دواوينية ثورية، منح البعض للبعض ألقاب الجنرالات، وسيظل الأمر على هذا النحو حتى تنشأ منظمات محلية قوية".
*وحول دور الجريدة مرة أخرى، يقول لينين:
"وتصبح هذه الجريدة جزءا من منفاخ حدادة هائل ينفخ في كل شرارة من شرارات النضال الطبقي والسخط الشعبي، ويجعل منها حريقا عاما. وحول هذا العمل الذي هو بريء جدا وصغير جدا بحد ذاته، ولكنه منتظم وعام بكل معاني الكلمة، يتعبأ بصورة منتظمة ويتعلم جيش دائم من مناضلين مجربين، ولن يمضي وقت طويل حتى ينهض على سقالات ودعائم هذا التنظيم العام الجاري بناؤه من بين ثوريين اشتراكيين – ديموقراطيين من طراز جليانوف ومن بين عمالنا الروس رجال من طراز بيبل، يقفون على رأس الجيش المعبأ، ويستنهضون الشعب كله للاقتصاص من وصمة العار واللعنة الجاثمتين على صدر روسيا.
هذا ما ينبغي أن نحلم به".
*ويصور لينين رد فعل خصومه بعد طرحه لمسألة الحلم:
"ينبغي أن نحلم! ما إن كتبت هذه الكلمات حتى فزعت، فقد خيل إلي أني جالس في مؤتمر التوحيد و أمامي محررو "رابوتشيه ديلو" و معاونوها، و إذا بالرفيق مارتينوف ينهض و يوجه إلي هذا الخطاب الرهيب:
"أجب من فضلك، هل يحق لهيئة تحرير مستقلة أن تحلم دون أن تستأذن في ذلك لجان الحزب بصورة مسبقة؟ "ثم ينهض الرفيق كريتشيفسكي ويستطرد (معمقا على نمط الفلاسفة الرفيق مارتينوف الذي عمق منذ زمن طويل الرفيق بليخانوف) قائلا، وفي صوته نبرة رهيبة أشد: "لن أقف عند هذا الحد، إني أسأل: هل يحق لماركسي أن يحلم بوجه عام إذا كان لم ينس أن البشرية في رأي ماركس تضع نصب عينيها على الدوام أهدافا قابلة للتحقيق، وأن التكتيك هو سير نمو المهام التي تنمو مع نمو الحزب!"
سرت قشعريرة في بدني بمجرد التفكير في هذه الأسئلة الرهيبة وأخذت أبحث عن ملجأ أختبئ فيه. إذن، فلنلجأ إلى بيساريف ونحاول الاحتماء به".
يقول بيساريف:
"إن الخلاف بين الحلم والحقيقة لا يسبب أي ضرر على أن يكون الشخص الحالم صادق الإيمان بحلمه، وعلى أن يتأمل الحياة بانتباه ويقارن بين ملاحظاته والقصور التي يبنيها في الهواء وعلى أن يعمل بوجه عام، وبصورة وجدانية على تحقيق حلمه، فعند وجود تماس بين الحلم والحياة تسير الأمور على ما يرام"
*ويعلق لينين على هذا القول منهيا في نفس الوقت هذا الجزء من الفصل:
"هذا النوع بالضبط من الأحلام قليل جدا لسوء الحظ في حركتنا، ويقع القسط الأكبر من تبعة ذلك على ممثلي الاقتصادية العلنية و "الذيلية" غير العلنية اللذين يتبجحون باعتدالهم وبحسهم للملموس".
3- ما هو طراز المنظمة التي نحتاجها؟
في مواجهة التكتيك اللينيني الذي كان ينادي به لينين ، و الذي يمكن تلخيصه في إنكار النداء المباشر إلى الهجوم، و في المطالبة بضرب حصار محكم حول حصن العدو، أي المطالبة بتوجيه كل الجهود لحشد جيش دائم، و لتنظيم هذا الجيش و تعبئته، نهض صراخ "رابوتشيه ديلو" من الاقتصادوية إلى الصراخ بالهجوم المباشر، فاتهم لينين بالجمود العقائدي و عدم فهم الواجب الثوري و بالدعوة إلى الاحتراس، و اعتبر لينين أن هذه الاتهامات لم تدهشه لكونها جاءت على ألسنة أناس لا مبادئ لهم، و نفس الشيء ينطبق على نادجدين لكونه يكن أروع الاحتقار للمبادئ البرنامجية و التكتيكية الثابتة.
ويقول لينين أن التاريخ لا يعيد نفسه، وقد نسي هؤلاء أن الحادث التاريخي إذا كان في الأصل مأساة فإن نسخته تكون مجرد مسخرة (18 برومير، ماركس).
اعتبر خصوم لينين بناء منظمة متصلة الأسباب بجريدة لعامة روسيا توليدا لأفكار مكتبية، وعمل مكتبي، مقابل إرهاب تهييجي وتنظيم ما يسمى بالمتوسطين وضرورة التجمع حول عمل ملموس أكثر كالجرائد المحلية، ومعتبرين في آخر المطاف أن الأوان قد فات، وأن الجماهير ستنفجر بين لحظة وأخرى، واعتبر لينين أن الجرائد المحلية هي التي فات أوانها، والإرهاب التهييجي صبيانيات، والحديث عن تنظيم المتوسطين وتنظيم الجرائد المحلية على نطاق واسع هو فتح الأبواب على مصارعها أمام الاقتصادوية.
وفي مواجهة أطروحة نادجدين، يقول لينين:
"إن نادجدين يخطئ لأنه يظن أن هذا الجيش الذي يجري تنظيمه بصفة دائمة مشغول بأمور تفصله عن الجموع، في حين أن شغله الشاغل هو في الواقع التحريض السياسي الشامل والمتعدد الوجوه، أي أنه مشغول بعمل يقرب قوة الجموع التدميرية العفوية ويوحدها في كل واحد مع قوة منظمة الثوريين التدميرية الواعية. إنكم أيها السادة تأخذون البريء بجريرة المذنب، لأن جماعة سفوبودا بالذات، بإدخالها الإرهاب في البرنامج تدعو بذلك إلى منظمة إرهابيين، ومن شأن مثل هذه المنظمة أن تحول أنظار جيشنا حقا عن الاقتراب من الجموع التي ليست بعد لسوء الحظ، إلى جانبنا، من الجموع التي لا تسألنا لسوء الحظ، أو لا تسألنا إلا فيما نذر عن موعد وكيفية البدء بالعمليات الحربية".
"فلما تباغت الثورة أناسا يجعلون من التحريض السياسي بين الشعب كله حجر الزاوية في كامل برنامجهم وتكتيكهم وعملهم التنظيمي، كما تفعل "الإسكرا"، فالناس المنصرفون في جميع أنحاء روسيا إلى فتل خيوط منظمة متصلة الأسباب بجريدة لعامة روسيا، عدا أنهم لم يتركوا حوادث الربيع تباغتهم قد أعطوه بالعكس إمكانية التنبؤ بها".
ويخلص لينين إلى:
"هكذا وصلنا إلى الاعتبار الأخير الذي يجعلنا نلح بقوة على مشروع التنظيم حول جريدة لعامة روسيا عن طريق تعاون الجميع على إصدار هذه الجريدة العامة، فمثل هذا التنظيم هو وحده الذي يضمن للمنظمة الكفاحية الاشتراكية – الديموقراطية المرونة الضرورية، أي قدرة التكيف على الفور تبعا لمختلف ظروف النضال المتغيرة بسرعة، قدرة تجعلها تستطيع، من جهة تجنب المعركة في ميدان مكشوف مع خصم متفوق العدد، جمع في نقطة واحدة جميع قواه، تستطيع معها، من الجهة الأخرى، الاستفادة من عدم مرونة هذا الخصم لمهاجمته حيث، و حين قلما ينتظر الهجوم" .
*ويقدم لينين مزيدا من التدقيق حول مفهومه للثورة، ويقول:
"الثورة نفسها لا ينبغي أن نتصورها بشكل عمل واحد (...) بل بشكل بضعة تبدلات سريعة شديدة لحد ما، إلى سكون عميق لحد ما. ولذلك فإن المضمون الأساسي بنشاط منظمتنا الحزبية، ومحور نشاطها ينبغي أن يكون ذلك العمل الممكن والضروري، سواء في مراحل أقوى الانفجارات أو في مراحل السكون التام ونعني: التحريض السياسي الموحد في جميع أنحاء روسيا، والذي يلقي النور على جميع نواحي الحياة ويتوجه إلى أوسع الجماهير، وهذا العمل لا يمكن تصوره في روسيا الراهنة بدون جريدة لعامة روسيا تصدر في فترات متقاربة جدا. والمنظمة التي تتألف من تلقاء نفسها حول هذه الجريدة، منظمة المتعاونين على إصدارها (بمعنى الكلمة الواسع، أي كل من يعمل من أجلها) ستكون بالضبط على استعداد لكل شيء، ابتداء من إنقاذ شرف الحزب وسمعته واستمرارية عمله في فترات أشد الضغوط على الثوريين وانتهاء بإعداد الانتفاض الشعبي وتحديد زمنه وتحقيقه".
ويضرب لينين مثلا بالاعتقالات، فعندما يتم الاعتقال للجميع في منطقة أو عدة مناطق جرت العادة على أن يرافق هذه الاعتقالات انقطاع في النشاط يستمر أشهرا عديدة من جراء عدم وجود عمل واحد دائم مشترك بين جميع المنظمات المحلية. ويضيف لينين:
"ولكن في حالة وجود عمل مشترك بين الجميع يكفي حتى في حالة أفظع الاعتقالات أن يعمل اثنان أو ثلاثة من الرفاق البعيدي الهمة بضعة أسابيع ليربطوا بالمركز العام حلقات الشباب الجديدة التي تنشأ، كما يعلم الجميع بسرعة حتى في الظرف الحاضر، والتي يمكن أن تنشأ وترتبط بالمركز العام بسرعة أكبر، إذا كان هذا العمل المشترك الذي تضرر من اعتقالات معروفا من الجميع".
وينهي لينين هذا الجزء بتلخيص لمشروع الجريدة السياسية لعامة روسيا، قائلا:
"إن مشروع جريدة سياسية لعامة روسيا ليس ثمرة تفكير أناس قابعين في مكتب ومصابين بالجمود العقائدي والتنميق الأدبي (كما خيل لأناس لم يفكروا في الأمر مليا)، وليس هذا فحسب، بل إنه، بالعكس، مشروع عملي جدا، يعطينا إمكانية الشروع من جميع الجهات، وعلى الفور، بالاستعداد للانتفاض دون أن ننسى في الوقت نفسه وللحظة، عملنا اليومي المعتاد".
خاتمة الكتاب
*يقسم لينين تاريخ الاشتراكية – الديموقراطية الروسية إلى ثلاثة مراحل:
- مرحلة أولى، وامتدت تقريبا عشر سنوات من 1884 إلى 1894، وسماها لينين بمرحلة نشوء وتوطد نظرية الاشتراكية – الديموقراطية وبرنامجها، وكان أنصار اتجاه الجديد في روسيا يعدون بالآحاد، وكانت الاشتراكية- الديموقراطية موجودة بدون حركة عمال، وكانت بوصفها حزبا سياسيا تجتاز مرحلة التطور الجنيني.
- المرحلة الثانية: امتدت ثلاث أو أربع سنوات، من 1894 إلى 1898 وفيها أصبحت الاشتراكية – الديموقراطية حركة اجتماعية بوصفها نهضة للجماهير الشعبية، وبوصفها حزبا سياسيا. إنها مرحلة الطفولة واليفاع، فقد مثل تشكيل الحزب في ربيع 1898 أبرز عمل للاشتراكيين –الديموقراطيين في هذه المرحلة، وكان في نفس الوقت آخر عمل لهم.
- أما المرحلة الثالثة التي ظهرت بوادرها في سنة 1897، وحلت نهائيا محل المرحلة الثانية سنة 1898، وتمتد من 1898 إلى ... لقد كانت مرحلة تبعثر وتفسخ وتأرجح. وقد تميزت هذه الفترة بكون القادة كانوا يتيهون، متفرقين، بينما الحركة نفسها كانت لا تفتأ تتسع وتخطو خطوات كبرى إلى الأمام، وبينما كان النضال الجماهيري يعيش مدا متصاعدا فقد خار وعي القادة تجاه سعة النهوض العفوي وقوته. لقد سادت كما يقول لينين بين الاشتراكيين – الديموقراطيين مرحلة أخرى، مرحلة مناضلين تربوا على الأدب الماركسي العلني وحده تقريبا، وكان هذا الأدب غير كاف، خصوصا وأن عفوية الجماهير كانت تتطلب منهم المزيد من الوعي، ولم يقتصر القادة على التخلف من الناحية النظرية (حرية النقد) ومن الناحية العملية ("العمل الحرفي" على حد سواء) بل حاولوا تبرير تخلفهم بمختلف الحجج المتفاصحة. لقد انحطت الاشتراكية – الديموقراطية إلى مستوى التريديونيونية، سواء لدى أصحاب المطبوعات العلنية أو من قبل دعاة الذيلية في المطبوعات السرية، وبدأ برنامج الكريدو يتحقق بوجه خاص عندما أفضت حرفية الاشتراكيين – الديموقراطيين إلى انتعاش الاتجاهات الثورية غير الاشتراكية – الديموقراطية، ويقول لينين فيما يخص تركيزه على جريدة "رابوتشيه ديلو" يعود لأهميتها التاريخية، لأنها أفصحت بمنتهى الجلاء عن روح هذه المرحلة الثالثة.
ويؤكد لينين في ختام كتابه، مميزا لهذه المرحلة قائلا:
"وما يميز هذه المرحلة، ليس الاستخفاف المتعالي بالنشاط العملي من قبل هائم ب "المطلق"، بل على وجه الدقة، المزج بين النشاط العملي التافه والاستهتار التام بالنظرية، وأبطال هذه المرحلة لم ينصرفوا إلى إنكار الكلمات العظمى إنكارا مباشرا، بمقدار ما انصرفوا إلى ابتذالها: فلم تبق الاشتراكية العلمية نظرية ثوريين متماسكة، بل أصبحت تحول إلى خليط يضيفون إليه "بحرية" سوائل من أي كتاب مدرسي ألماني حديث، ولم يعد شعار النضال الطبقي يدفع إلى الأمام، إلى عمل يتسع نطاقه باستمرار، ويزداد نشاطه باستمرار، بل غدا وسيلة تسكين، ما دام "النضال الاقتصادي" وثيق الصلة بالنضال السياسي". ولم تكن فكرة الحزب نداء إلى إنشاء منظمة ثوريين كفاحية، بل كانت مبررا لنوع من "الدواوينية الثورية" واللعب الصبياني بالأشكال الديموقراطية".
ويقول لينين:
"لا ندري متى تنتهي المرحلة الثالثة، وتبدأ المرحلة الرابعة (التي نرى، على كل حال، الكثير من تباشيرها). إننا هنا، ننتقل من صعيد التاريخ إلى صعيد الحاضر والمستقبل جزئيا. ولكننا على يقين تام من أن المرحلة الرابعة ستفضي إلى توطيد الماركسية الكفاحية، وأن الاشتراكية – الديموقراطية الروسية ستخرج من الأزمة زاخرة بالصحة والرجولة، وأن مؤخرة الانتهازيين سيستعاض عنها بالطليعة الحقيقية من الطبقة التي لا تصارعها في ثوريتها طبقة أخرى.
وفي وسعنا، بصفة نداء إلى هذه "الاستعاضة" وبصفة وتلخيص لكل ما قلناه فيما تقدم، أن نجيب على سؤال "ما العمل؟" جوابا: فلننه المرحلة الثالثة".
ـــ ـــ ــــ
بعض المراجع
1-"من أجل معرفة فكر لينين"، هنري لوفيفر
2-"تاريخ الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي" (حزب البولشفيك) 1930
3-"المدرسة الاشتراكية في الصحافة" الحقبة اللينينية 1896 – 1923، ذ. عواطف عبد الرحمان
4-"حول الصحافة" لينين
5-"مهام الاشتراكيين الديموقراطيين الروس"، لينين 1897
6-"برنامجنا"، لينين 1899
7-"بما نبدأ"، لينين 1901
8-"رسالة إلى رفيق حول مهامنا التنظيمية"، لينين 1902
9-"ما العمل؟"، لينين 1902
ـــــــ ــــــ ـــــــ
قريبا سيصدر هذا النص بأجزائه الثلاثة في العدد 11 من كراسات الشرارة.
موقع الشرارة الماركسي ـــ اللينيني
http://acharara.hautetfort.com