الجفاف: مشكل طبيعة يفاقمه نمط إنتاج رأسمالي مدمِّر للبيئة


المناضل-ة
الحوار المتمدن - العدد: 7672 - 2023 / 7 / 14 - 10:08
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     


الافتتاحية

أصبح الجفاف ومشكل الماء معطى بنيويا في المغرب. لا تخلو التقارير الرسمية والصادرة عن مؤسسات الرأسمالي العالمي (بنك وصندوق نقد دوليين) من مؤشرات تفاقم الجفاف واحتداد مشكل الماء، ما يؤثر حسبها على النمو الاقتصادي، هذا النمو الذي تحول إلى معيار لقياس ما آلت إليه البيئة بسبب نموذج التراكم الرأسمالي الذي تحافظ عليه الدولة وترعاه تلك المؤسسات المالية.

تفاقم أزمة المناخ مشكل الجفاف وندرة المياه، ففي المغرب يصل معدل التساقطات المطرية إلى 140 مليار متر مكعب في السنة، والتبخر 118 مليار متر مكعب في السنة. وحسب تقرير البنك الدولي حول تكلفة التدهور البيئي الصادر سنة 2017، يعد المغرب من بين العشرين بلدا الأكثر شحا من حيث توفر الموارد المائية. في حين أشار تقرير للمجلس الأعلى للحسابات إلى أن معدل نصيب الفرد الواحد من الماء الذي كان يقدر بحوالي 1700 متر مكعب في السبعينيات، أصبح لا يتجاوز حاليا حوالي 700 متر مكعب، مع الإشارة إلى أن هذا الاتجاه التنازلي للموارد المائية أخذ يتفاقم جراء تدهور جودتها بمختلف أنواع الملوثات الصلبة منها والسائلة وبأصنافها المختلفة المنزلية والفلاحية والصناعية.

تسبب ظاهرة الاحتباس الحراري موجات جفاف على المستوى العالمي حتى في المناطق الرطبة (تراجع الأنهار في أوروبا). تتزايد موجات الحر في المغرب مع تزايد ارتفاع درجات الحرارة الشديدة في منطقة غرب البحر الأبيض المتوسط بصورة أسرع مما تنبأت به الدراسات المناخية، مؤدية إلى احتداد مشكلة الجفاف وتفاقم أزمة المياه وتهديد المحاصيل الفلاحية. تتحمل الرأسمالية العالمية، القائمة على استغلال الوقود الأحفوري واستخراجوية ونمط استهلاكوي، مسؤولية الاحترار العالمي وما ينتج عنه من موجات الحر والجفاف وأزمات الماء والغذاء، هذه الأخيرة التي يجري تحميل كلفتها للشعوب (شغيلة وصغار منتجين ونساء)، فيما تعتبرها الشركات ومؤسسات رأس المال العالمي فرصا لمزيد من تراكم الأرباح.

ويفاقم النموذج الاقتصادي القائم هذين المشكلين، حتى باعتراف المؤسسات المالية الدولية التي تشيد به. أشار تقرير البنك الدولي “المغرب، تقرير المناخ والتنمية”، الصادر في أكتوبر 2022، إلى أن تحقيق المغرب لمحاصيل أكثر إنتاجية ومضاعفته القيمة الزراعية الحقيقية خلال العقدين الماضيين، كانت كلفته زيـادة الضغـوط علـى المـوارد المائيـة، وأدت إلـى الاستغلال المفـرط لمـوارد الميـاه الجوفيـة.

يقف في خلفية أزمة الماء- فضلا عن الجفاف- نموذج اقتصادي يجعل من الماء سلعة ومدخلات إنتاج مستنزِف موجَّه أساسا نحو التصدير (الفلاحة التسويقية الكبرى). وأتاحت الدولة لكبار مستثمري الزراعة الرأسمالية إمكان الاستفادة من هذا المورد الحيوي، دون تحمل كلفته الحقيقية. تَميَّز تمويل السياسة المائية لعقود برصد اعتمادات مالية هامة للأراضي المسقية (%15) على حساب الأراضي البورية (%85)، مع تغليب التوجه الفلاحي المكرس للنموذج الفلاحي التصديري، وعدم تحمل المستفيدين للكلفة العامة لمياه السقي، حيث تشير الدراسات إلى تغطية %20 فقط من الكلفة الحقيقية للماء من طرف الساقي/ المستفيد. وزاد برنامج السقي بالتنقيط (المدعوم من المالية العمومية) من هذا الاتجاه، إذ يفضل كبار المزارعين الاستثمار في مزروعات للسوق الخارجية مستهلكة للمياه ما دامت مدعومة، على حساب الزراعات المعاشية. أدى كل هذا إلى استنزاف الفرشة المائية السطحية والباطنية وتلويثها، إضافة إلى تضرر بعض المناطق من هذا التوسع، خاصة زاكورة وسوس والشمال الشرقي.

عملت الدولة أيضا على توسيع مشاريع الاستثمار الرأسمالي الكبير وتدعيمها من خلال ما يسمى بالمخططات الاستراتيجية التي تستنزف الماء وتلوثه كالسياحة والصناعة وغيرها بما في ذلك أيضا مركبات الطاقة الشمسية في الجنوب الشرقي التي ترتكز دورتها على المياه.

بالنسبة للدولة (ووراءها المؤسسات المالية الدولية) فالمشكل بالأساس هو مشكل حكامة وسوء تدبير وضعف المقتضيات التنظيمية والقانونية لمراقبة استغلال المياه، وليس مشكلَ نموذج اقتصادي رأسمالي (الاستخراجية والتصدير). وبالتالي فالحلول بدورها لا تتعدى ترشيد استعمال المياه ضمن نفس النموذج الاقتصادي القائم، مع جعل من الحلول مجالات تراكم رأسمالي أخرى، مثل مبدأ “الملوث يؤدي” كما جاء به قانون الماء 36.15، أو تشجيع الممارسين لمختلف الأنشطة الملوثة، بإمكانية استفادتهم من دعم مالي يمنح من قبل وكالات الأحواض المائية. ومن الحلول الأخرى المقدَّمة تحويل المياه من مناطق الوفرة إلى مناطق الخصاص عبر طرق مائية سيارة ستُمنح مشاريع إنجازها للقطاع الخاص وكذلك تدبيرها عبر شركات قطاع عام قطاع خاص.

تعتمد الدولة حاليا على تطوير محطات تحلية ماء البحر للزراعة والماء الصالح للشرب. تستلزم هذه المحطات تكلفة باهظة والتي تمول عبر الديون من خلال الشراكة قطاع عام وخاص، كما تطرح هذه التقنية عدة مشاكل بيئية أخرى كزيادة ملوحة البحر، وفي الأخير سعر الماء الذي لا يمكن أن يكون في متناول صغار الفلاحين بالنسبة للزراعة، وزيادة في فاتورة الاستهلاك الشهري للأسر.

تتوافق هذه الحلول مع إملاءات المؤسسات المالية الدولية، فحل أزمة المياه (والأزمة المناخية بشكل عام) يتوقف- حسب تقرير البنك الدولي (أكتوبر 2022)- على قيام القطاع الخاص بدور مركزي، مع توقع أن يحمل على عاتقه نسبة كبيرة من الاستثمارات.

لا جديد، إذن، تحت شمس الرأسمالية، جواب الدولة والمؤسسات المالية الدولية على الأزمة البيئية (وضمنها أزمة المناخ ومشكل الماء والجفاف) هو المزيد من رأس المال وتجويد شروط استنزافه لموارد الطبيعة.

إن الحلول التقنية التي تتقدم بها الدولة وتلك المؤسسات هي توفير المزيد من موارد الطبيعة (وعلى رأسها الماء) من أجل استمرار نفس النموذج الاقتصادي الذي أدى إلى استنزافها، مع تحمل المالية العمومية (وبالتالي دافعي- ات الضرائب من شغيلة وصغار المنتجين- ات) كلفة نموذج التنمية ذاك.

لا حل خارج القطع مع نموذج رأسمالي وأنماط استغلال تعتبر الماء مجرد سلعة ومُدخَل إنتاج. علينا الدفاع عن منظور يجعل من الماء (وكل عناصر الطبيعة) ملكا مشاعا، منظور يقطع مع النموذج الفلاحي الذي يقوم على إنتاج زراعات مستنزفة للماء وتفاقم احترار المناخ باستعمالها الكثيف للطاقة الأحفورية. ويكمن البديل في مشروع السيادة الغذائية الذي يرتكز على ممارسة الزراعة البيئية المحترمة للبيئة والماء. كما وجب القطع مع جميع المخططات الرأسمالية في الصناعة والسياحة والعمران وغيرها المستنزفة للماء والملوثة وسن برامج شعبية مبنية على تلبية الحاجيات الاجتماعية الحقيقية في تناغم مع الضرورات البيئية وعلى رأسها المحافظة على الثورات المائية.

وفي وجه ظاهرة الاحتباس الحراري تقوم بدائل قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد. تهدف هذه البدائل إلى صياغة خطة تَكيُّفٍ عامة تكون ملزِمة (لتكون فعالة) ومرنة (لتكون قابلة للتكيف مع ما هو غير متوقع). المشكلة عالمية النطاق ولا يمكن للحل إلا أن يكون كذلك أيضا، وعلى رأسها التخفيض الجذري لانبعاثات الغازات المسببة في الاحتباس الحراري. ولن يتأتى هذا دون إضفاء الطابع الاجتماعي على الطاقة والتمويل والنقل. فمنطق “السوق الحرة” لن يخرجنا من المأزق، إذ هو السبب. تتطلب مواجهة التحدي المناخي بشكل حتمي خطة عامة وأهدافًا اجتماعية وبيئية بخلاف الربح، وبالتالي إعادة توزيع جذرية للثروة.

يحتاج هذا المنظور إلى قوة اجتماعية قادرة على تحقيقه. وهذه القوة هي كل المتضررين من التدبير الرأسمالي المدمر للثروة المائية: الشغيلة وصغار المنتجين وعامة الكادحين. وقد أبدت هذه الكتلة الشعبية استعدادا للنضال، سواء في العديد من تجارب التصدي لجشع الشركات متعددة الجنسية، أو كفاح قرويين- ات بمناطق عديدة ضد استحواذ البرجوازيين على منابع الماء، او احتجاجات متنوعة من أجل ماء الشرب بأشد المناطق تضررا بالجفاف. كل هذه الكفاحات، بمطالبها الأولية، هي منطلق لتوسيع جبهة النضال من أجل الحق في الماء، وتجذير مطالبها لتصير جسرا نحو البديل الإجمالي، باعتماد التنظيم الذاتي المسير ديمقراطيا.