بيان مختصر في زمن الوباء، 9 أبريل 2020، -ائتلاف رغم كل شيء- ترجمة فريق الترجمة في جريدة المناضل-ة الموقوفة


المناضل-ة
2020 / 5 / 5 - 10:11     

يتقاسم "ائتلاف رغم كل شيء" Collectif Malgré Tout في هذا "البيان الصغير" مع كل المهتمين أربع مسارات للتفكير وافتراض فرضيات عملية، على أمل أن تكون هذه مساهمة مفيدة في التفكير والعمل وسط هذا الغموض والتعقيد.
***
1 . عودة الأجسام
على مدى الأربعين سنة الماضية، شهدنا انتصارًا وهيمنة بلا منازع للنظام النيوليبرالي في كل مكان في العالم. من بين الاتجاهات المختلفة التي تعبر عن هذا النوع من النظام، يبدو أن أحدها على وجه الخصوص يمثل الشكل الأساسي لهذا الزمن: إنه ذلك الذي يعتبر الأجسام مجرد ضجيج بسيط مزعج لسردية السلطة. لأن الأجسام الحقيقية، دائمًا ما تكون "ثقيلة" وغير شفافة للغاية، وراغبة وحية، منفلتة من المنطق الخطي الذي يحكم إمكانية التوقع. هدفت السياسات والممارسات النيوليبرالية دائمًا هو إلى نزع شرعية الوجود من هذه الأجسام، وجعلها افتراضية، وتحويلها لمادة خام قابلة للتشكيل وإعادة التشكيل، "رأسمالا بشريا" يستخدمه السوق مثلما يشاء. يجب عليها أن تكون منضبطة، وقابلة أن يتم تحريكها دونما معايير، ومرنة، وجاهزة للتكيف (شعار عصرنا) مع الاحتياجات التي تحددها بنية الاقتصاد الكلي. في هذه اللوحة الشديدة التجريد، يتم اختزال أجسام المهاجرين دون أوراق وأجسام العاطلين وأجسام من هم "ليسوا كما ينبغي" وأجسام الغرقى في البحر الأبيض المتوسط وأجسام الموقوفين في مراكز الاحتجاز، باختصار أجسام اولئك "الزائدين" تصبح مجرد أرقام بدون قيمة أو وجود فزيائي وبالتالي، في العمق، بدون إنسانية.
في الميدان التقني والعلمي، يتم تلخيص هذا التوجه في عبارة "كل شيء ممكن" والتي لا تعترف بأية حدود بيولوجية أو ثقافية للرغبة المرضية في إلغاء القيود العضوية. نحن نتحدث الآن عن زيادة الأوليات الإحيائية، وإمكانية العيش ألف سنة، أو حتى الخلود! بما في ذلك الرغبة في إنتاج حياة ما بعد عضوية حيث يمكن التغلب على قيود الأجسام التي، بطبيعتها، ناقصة وهشة للغاية. يشهد التسارع الكارثي للأنثروبوسين على مدى السنوات الثلاثين الماضية على الآثار الكارثية لشعار "كل شيء ممكن" التقنوي الذي لا يتجاهل فقط الخصوصية العميقة للعمليات العضوية بل يسحقها.
في هذا العالم المقتنع بتجاوز حدود الكائن الحي الناشئ عن الوباء. بشكل كارثي وتحت تأثير التهديد، أدركنا فجأة أن الأجسام قد عادت. لقد أصبحت بين عشية وضحاها الموضوعات الرئيسية للوضع الراهن والسياسات التي يتم تنفيذها. لقد تذكرنا الاجسام، ويبدو أن هذه العودة تفتح بشكل مجازي نافذة جديدة يمكننا من خلالها رؤية عدة احتمالات للفعل. بادئ ذي بدء، علينا أن ندرك أن القوة يمكنها، عندما تريد، نشر السياسات اللازمة لحماية وإنقاذ الأرواح. وهم مندهشون، فهم أباطرة التمويل العالمي أن الاقتصاد، وحشهم المقدس هذا، لا يمكنه الاستغناء عن عبيد أحياء ليستمر في العمل. وبعد محاولات إقناعنا بأن "الحقيقة" الجادة الوحيدة في هذا العالم يتم تحديدها من خلال الحاجات الاقتصادية، فإن حكام الكوكب كله تقريبا يثبتون أنه من الممكن التصرف بطريقة أخرى، حتى لو كان ذلك يعني توجيه الاقتصاد العالمي. إنه نوع من الاعتراف من أولئك الذين جادلوا بشكل قاطع بأن جميع السياسات (الاجتماعية والبيئية والصحية ...) يجب أن تتبع بالضرورة "الواقعية الاقتصادية" التي أضحت إلها مستبدا لا يمكن عصيانه.
ومع ذلك، يجب ألا تنتصر سردية على أخرى. ففي الأسابيع الأخيرة، تم استبدال النيوليبرالية، التي حافظت على وهم بناء مجتمع يتكون من أفراد متسلسلين ومستقلين، بسردية خيالية أخرى تدعي أننا سنكون الآن جميعا "في نفس القارب". وإن كنا بعيدين عن نقد هذه الدعوة للتضامن، فإنه، مع ذلك، سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن الطبيعة الجماعية للتهديد القائم ستزيل بشكل سحري التفاوتات بين الأجسام.
تمثل الطبقة الاجتماعية والجنس والهيمنة الاقتصادية والعنف العسكري والقمع الأبوي كلها حقائق تحدد مواقع أجسادنا بطرق مختلفة. أيضًا، دعونا لا ننتشي برومانسية الحجر هاته التي تهدف إلى جعلنا ننسى هذه الاختلافات.
2 . ظهور صورة مشتركة
نعيش جميعًا في ظل تهديد كبير ومعمم: إنه خطر الاضطراب الإيكولوجي العالمي، الذي تتزايد آثاره يومًا بعد يوم (الاحترار العالمي، وانهيار التنوع البيولوجي، وتلوث الهواء والمحيطات، واستنفاد الموارد الطبيعية ...) الذي أضحى يؤثر على جميع الكائنات الحية والمجتمعات البشرية. من المؤكد اليوم أن غالبية الناس يتأثرون ويدركون (بالمعنى الفسيولوجي العصبي) هذه الحقيقة. لكن يستمر أغلبنا، في اعتبار الكارثة، المعلن عنها اليوم وليس غدا، وكأنها غير مرئية وغير ملموسة وفورية.
إن الكارثة حقيقية للغاية. لكنها لا تزال في وضع محسوس فقط وليس معاشا بشكل مباشر. نحن، إذا جاز التعبير، غارقون في التهديد، إنه يشكل مناخنا. ومع ذلك، فإننا نفشل في إنتاج المعرفة بالأسباب، تلك المعرفة التي تبقى الأمر الوحيد القادر على تكوين صورة ملموسة عن الخطر الذي يستثير فعلا إزاءه. يوميا، نتلقى أنباء الكارثة ولكن المعلومات، بعيدا عن إثارة الفعل، تؤدي إلى العجز والمعاناة. إذن من الذي يتصرف حقًا في هذا السياق؟ في رأينا، هؤلاء هم الذين يشاركون في البحث عن الأسباب: الضحايا والعلماء ومطلقو الإنذارات ... وبعبارة أخرى، أولئك الذين يشاركون في عمل قادر على إخراج تمثل واضح للموضوع.
يشلنا القلق في مواجهة تهديدات واعية لكنها مجردة. وبالمقابل، ففي مواجهة أسباب سبق تحديدها، يكون الخوف هو ما نشعر به. والخوف، على عكس القلق الواهم، يدفعنا إلى العمل.
لفهم هذه النقطة بشكل أفضل، من المفيد العودة إلى التمييز، الذي اقترحه الفيلسوف الألماني ليبنتز واستعمل في حقل الفسيولوجيا العصبية، بين الإدراك والافتراض. يتواجد البشر، مثل جميع الكائنات الحية، في تفاعل مادي دائم مع وسطه. ينشأ الإدراك من هذا المستوى الأول الذي يتكون من جميع أدوات إقامة الإدراك التي ينسجها الكائن الحي مع بيئته الفيزيو - كيميائية والحيوية.
لتوضيح هاته الآلية، يقدم ليبنتز مثالاً على كيفية تصورنا لصوت موج البحر. ويوضح أن لدينا تصورًا لا متناهيًا لملايين قطرات الماء التي تؤثر على العصب السمعي دون أن نكون قادرين على رؤية صوت كل قطرة ماء. فقط في مستوى ثان، أي من خلال كل اجهزة الجسم، يمكننا بناء الصورة الصوتية للموجة. وهذا يعني أن جزءًا صغيرًا فقط مما ندركه من القاعدة المادية يتحول إلى إدراك يساهم في تشكل ظواهر الوعي.
لذا فإن السؤال الأساسي هو فهم متى ولماذا يظهر الإدراك. يتم تحديد ذلك أولاً من قبل الكائن المدرك: من الواضح أن ثديا وحشرة لن ينتجا نفس الصورة الإدراكية للموجة. في حالة الحيوانات الاجتماعية وخاصة البشر، فإن الإدراك مشروط أيضًا بالثقافة والأدوات التقنية التي تتفاعل بها. الموجات فوق الصوتية هي مثال جيد لكيفية عمل هذه الترتيبات. فعلى عكس بعض الثدييات، لا يدرك البشر هذه الترددات الصوتية دون أن يستعينوا بآلات تسمح بظهور مستويات إدراك جديدة.
علاوة على ذلك، إذا كان المستوى الإدراكي يساهم في صناعة التفرد الذي يميز كل وحدة عضوية، فإن ذلك لا يعني أن ذلك خاصية مميزة للفرد أو نتيجة مرتبطة به بالذات. يمكن أن يتشكل التفرد من قبل مجموعة من الأفراد، بالإضافة إلى تنوع طبيعي كبير (حيوانات أو نباتات وكل النظام البيئي) الذي يشارك في إنتاج مساحة إدراك ملموسة مشتركة. بعيدًا عن كونها نوعًا من الكائنات المتفوقة التي تنوجد ذاتيا، فإن هذا البعد يتواجد بشكل موزع في الأجسام التي يتم التقاطها به.
هذه هي الطريقة التي يتأثر بها كل جسم على حدة. تشارك الأجسام في خلق هذا البعد الإدراكي المشترك الذي يؤثر بدوره ويؤسس تلك الاجسام. يتجلى هذا البُعد بشكل يومي في شكل ما اعتدنا على تسميته بالفطرة السليمة التي تعمل اجتماعيًا كمثال حقيقي للمعنى المشترك.
نحن نشهد اليوم حدثًا تاريخيًا وغير مسبوق: لأول مرة، كل البشرية تنتج صورة للتهديد. لا تُختصر هذه الصورة في معرفة علمية بالحقائق التي أدت إلى ظهور وانتشار الفيروس. ما هو على المحك هو انبثاق تجربة مشتركة لهشاشة النظم البيئية التي تم نقضها وسحقها حتى الآن من قبل المصالح الماكرو اقتصادية للنيوليبرالية.
تكمن خصوصية هذا المفهوم المشترك في سياق ظهوره. من عجيب المفارقات أن الخطورة الجسيمة للوباء ليست هي الخطورة الجوهرية، بل المنظومة الانضباطية الذي يصاحبها. هاته المنظومة وليس التهديد في حد ذاته هو الذي يضعنا في وضع جديد. من الواضح أننا لا نستطيع فهمه من خلال تقييمه من زاوية بعده الصحي وحده.
هذا المأزق هو الذي يدفع البعض للشروع في محاسبة عشوائية رهيبة احتجاجا على الطبيعة غير المسبوقة لهذه الأزمة من خلال مقارنتها بآفات أخرى. أمام هذا الوضع الجديد، نشهد ظهور تفسيرين متعارضين. من ناحية، أولئك الذين يقولون إن هذا وضع خطير للغاية يجب إيجاد حل له في شكل لقاح أو دواء. في هذا الفهم للأزمة، من الواضح أنه لا يوجد أي تحدي للمنظومة السائدة. من ناحية أخرى، هناك تفسير آخر، هو الذي نود المساهمة فيه، يرى في هذه القطيعة حدثًا حقيقيًا يدين بشكل لا رجعة فيه الأيديولوجية الإنتاجوية المهيمنة لحد الآن.
إن الفيروس التاجي بالنسبة لنا هو اسم هذه النقطة الحرجة التي تشير أيضًا، على الأقل كما نأمل، إلى نقطة اللا عودة التي يجب من خلالها إحداث تغيير عميق في علاقتنا بالعالم ومكانة البشر في النظم البيئية.

3 . تجربة عامة
إذا بذلنا جهدنا في عدم التخلي عن التفكير، على الرغم من الوضع المرعب، فمن الممكن إدراك الشيء الوحيد الذي تسمح لنا هذه الأزمة بتجربته بشكل إيجابي: حقيقة الروابط التي تشكلنا. هنا أيضا، ومع ذلك، يجب علينا أن نحذر من أية رؤية ساذجة. نحن لسنا متساوين عندما يتعلق الأمر بدواخلنا. وعندما لا يعود جنون الحياة اليومية يسمح بالتجنب الذاتي، يدرك البعض منا أن لدينا روابط سيئة للغاية مع أنفسنا وبالمناسبة مع من حولنا. الجحيم الحقيقي هو نفسك في كثير من الأحيان. كراهية الذات التي تتحول دائمًا إلى جحيم بالنسبة للآخرين.
انطلاقا من حياتنا في الحجر، أصبحنا ندرك حقيقة أننا كائنات تحتاج لفضاءات ملموسة لتعيش، غير قادرة على العيش بشكل حصري بطريقة افتراضية من خلال فصل كل عنصر من الجسدية عن الآخرين. يختبر ملايين الناس في أجسادهم اليوم أن الحياة ليست شخصية بحتة.
كل فضائل عالم الاتصال وأدواته التي تم الثناء عليها لوقت طويل، تبين أنها عاجزة تمامًا عن إخراجنا من العزلة. وفي أحسن الأحوال، تمكنت تلك الأدوات من الحفاظ على وهم توحيد المفصولين على أنهم منفصلون.
في خضم الأزمة، حصلنا على يقين واحد على الأقل: لا يمكن لأحد أن ينقذ نفسه. سواء أحببنا ذلك أم لا، فإن معاصرينا يجربون هشاشة الروابط التي تجبرنا في النهاية على تجاوز وهم الفرد المستقل والمتسلسل. نحن نفهم أن المسألة ليست أن تكون قويًا أو ضعيفًا أو "فائزًا" أو "فاشلًا"، لكننا جميعًا موجودون من خلال هذه الهشاشة التي تسمح لنا بتجربة انتمائنا إلى المشترك. تبدو لنا الحياة الفردية والاجتماعية أخيرًا وجهان لعملة واحدة. ونحن مضطرون للعزل، نكتشف أننا مرتبطون بروابط متعددة لا تتوافق بأي حال من الأحوال مع التصميم التاتشيري الذي بموجبه "لا يوجد مجتمع"، لا يوجد إلا أفراد.
إن الرغبة في المشترك (الرغبة في الحياة)، وليس التهديد، هي التي تسمح لنا بالعمل في هذا الوضع. في هذه الحركة المتأرجحة، يتم عكس معاييرنا المعتادة: لم يعد الأمر يتعلق بي فقط وحياتي الفردية. ما يهم الآن هو ما يتم إدخاله في هذه الحياة، إنه هذا النسيج الذي يكتسب من خلاله معنى.
في هذه اللحظة حيث يتم اختزال الروابط إلى الاتصال الافتراضي البحت، يبدو من الأساسي لنا أن نفكر في حدود هذا التجريد. التفكير فيما لا يمكن تجريبه عبر "سكايب" أو أي شبكة اجتماعية. باختصار، التفكير في كل ما يشكل أساس التفرد الخاص بأجسادنا وتجاربها.

4 . ضد السلطة البيولوجية
لم تفتح النافذة فقط على احتمالات إيجابية جديدة. تقدم التجربة التي نعيشها السلطة البيولوجية كحقل تجارب غير مسبوق: تحديد الحركة والسيطرة على السكان عبر بلدان وقارات بكاملها. من المفاجئ دائمًا (وحتى المزعج) ملاحظة مدى السرعة التي ينضبط بها الأفراد عندما يتم التلويح لهم بما يهدد وجودهم وبقاءهم.
نحن ندرك أيضًا أن هناك شيئًا مأساويًا/هزليا في كون تحديد الموقع الجغرافي للأفراد يفترض أنهم لا يؤوون الفكرة الرهيبة والضارة المتمثلة في مجرد ترك هواتفهم الذكية على المنضدة. تصبح العبودية الطوعية في أقصى حد عندما يأخذ السوار الإلكتروني للسجين شكل هاتف تم شراءه بمبلغ باهظ. يمكن أن تكون هذه التجربة غير المسبوقة للسيطرة الاجتماعية بمثابة بروفة عامة. من السهل تخيل أنه في المستقبل، لن يكون من الصعب التذرع بظهور تهديدات جديدة لتبرير ممارسات المراقبة هذه.
في هذا السياق، فإن مسألة ما إذا كنا في حالة حرب مع الفيروس ليست مجرد نقاش بلاغي. أولا، لأن لها آثار قانونية ملموسة. ثانياً، لأنها تعطينا مؤشراً عن حجم ما يمكن أن تنتجه هذه الأزمة من ممارسات استبدادية دائمة. نحن لسنا في حالة حرب. هذه الرؤية الفاسدة والقاهرة هي في الواقع جزء من المشكلة نفسها. إننا نعاني من عواقب نظام اقتصادي واجتماعي منحرف وقاتل. دعونا نحذر من هذه الخطابات القتالية ودق الطبول التي تسبق دائما التضحية بالشعب. هدفنا ليس الفوز في معركة بل تحمل مسؤولية هشاشة العالم من خلال تغيير الطريقة التي نعيش بها فيه بشكل جذري.
وبخلاف ذلك، بمجرد انتهاء الجائحة، لن تتردد الحكومة، بلمسات كتلك العائدة لماريشال حرب منتصر، في تجنيد السكان وراء قضية الوطن الاقتصادية. سيتم إخبارنا بعد ذلك أن الوقت لم يعد وقت تفكير واحتجاج لأجل التغييرات الاجتماعية الهيكلية (إصلاحات النظم الصحية على سبيل المثال). وبالتالي فإن أي مطالبة بالعدالة الاجتماعية ستنتهي إلى خيانة الوطن لأن الوقت سيكون وقت تكريس الذات للمهمة المقدسة: إحياء الاقتصاد والنمو.
ستخبرنا السردية الرسمية أولاً أننا عشنا وواجهنا وانتصرنا على ظرف مؤسف غير متوقع. ثم ستشرح لنا أنه من الضروري مضاعفة جهودنا للتغلب على مقاومة الطبيعة لقدرة البشر الكلية. ما كان يسمونه بشكل غير مسؤول حادثا كان في الواقع غير متوقع، لدرجة أن علماء الأحياء وعلماء الأوبئة توقعوه قبل خمسة وعشرين عامًا. من بين العوامل المتعددة في أصل الأمراض الناشئة والمتجددة، نعلم أن تدمير آليات التنظيم الأيضي للنظم الإيكولوجية، المرتبطة بشكل خاص بإزالة الغابات، يلعب دورًا راسخًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن التحضر الهمجي والضغط المستمر للأنشطة البشرية على البيئات الطبيعية يشجعان حالات الاختلاط غير المسبوق بين الأنواع.
مهما كان رد فعل الحكومات، هناك شيء واحد مؤكد: بعد إدراكي جديد، أي صورة جديدة، عن الكارثة البيئية قد ظهرت واندمجت في الفطرة السليمة. إن الجهاز الذي بموجبه كان الإنسان يتوج نفسه على أنه سيد ومالك الطبيعة، قد انكشف وجهه الكابوسي الحقيقي.
5 . التفكير والتصرف في الوضع الراهن
كما كتب بروست، "الحقائق لا تدخل أبدًا إلى العالم حيث تعيش معتقداتنا". لا توجد حقائق "محايدة" تعبر عن المعنى في حد ذاتها. كل شيء لا يوجد إلا في إطار "كل تفسيري" يعطيه معناه وصحته.
يتعامل العلم مع حقائق وفي ذات الوقت يبني روايته التفسيرية الخاصة. على عكس ما يدعي العلم، لا يتمثل النشاط العلمي في إنتاج تجمعات بسيطة من الحقائق العارية. الرواية التي ينظم العلم من خلالها الحقائق تنبثق من التفاعل مع الأبعاد الأخرى التي هي، من بين أمور أخرى، الفن، والصراعات الاجتماعية، والخيال العاطفي وتجربة المعيش بشكل عام. إنتاج الحس السليم تتشارك فيه العديد من الأبعاد.
أمام تعقيد العالم، يدعونا الإغراء الرجعي إلى تفويض قدرتنا على الفعل إلى التكنوقراط عندما لا يكون بإمكانه توجيهنا مباشرة نحو آلات خوارزمية. في هذه الرؤية الأوليغارشية، يُنَظر العلماء، يتبعهم السياسيون، ويطيع الطيبون. ومع ذلك، هناك علاقة صراع أعمق بكثير بين التفكير النقدي والحس السليم الذي لا يمكننا معارضته. إن دور التفكير المنظم لا يكمن بالتأكيد في ترتيب وضبط الحس السليم، بل في إضافة أبعاد دالة يمكنها أن تنال بعد ذلك الأغلبية وتصبح مهيمنة. هذا هو السبب في أن أي مشروع تحرري، بعيدًا عن تمثله ككاشف عن حقائق مخفية، هو دائمًا خلق حر لموضوعية جديدة.
إن خيال إلقاء الذات في الاحتفال الكبير الذي سيتبع يوم التحرير يعني ضمنا، بسذاجة مفهومة، نسيان المسلسل الذي قادنا إلى الوضع الحالي. ومع ذلك، لن يتم سحب هذا المسلسل عندما يحين الوقت مثلما ينسحب جيش مهزوم. ستستمر هذه العناصر في الانتشار بأشكال مختلفة. يجب ألا تنتهي هذه الأزمة بالتصفيق المطمئن الراضي على المنتصرين في الحرب. يفتح هذا الحدث التاريخي الباب أمام إدراك مشترك لروابط الهشاشة التي تشكل عالمنا.
نحن لا نعرف ما ينتظرنا وليس لدينا أية نية للتنبؤ به. ومع ذلك، نحن نعلم أن القوى الرجعية من جميع أنحاء الكوكب ستكون جاهزة للاستفادة من التجربة المذهلة التي سنكون لا نزال نغرق فيها. وهكذا، في صميم هذا الوضع الغامض والمهدِّد، يجب أن نفترض هذه الحقيقة، ليس بالانتظار الحكيم لمرورها، ولكن من خلال إعداد العدة الآن وهنا للشروط والروابط التي ستسمح لنا بمقاومة تقدم السلطة البيولوجية وبرامج الرقابة علينا.
وينبغي ألا تؤدي حالة الأزمة هذه إلى زيادة تفويض المسؤوليات الملقاة علينا لغيرنا. لقد رأينا أن "عظماء هذا العالم" (هؤلاء الأقزام الأخلاقيين)، الذين يتحدثون عن الحرب، يريدون مرة أخرى أن يجعلونا مواردهم البشرية "علف المدافع". فقط معارضة واضحة لعالم التمويل النيوليبرالي والربح الخالص، وفقط مطالب الأجسام الحقيقية غير الخاضعة للعالم الافتراضي الخوارزمي يمكن أن تكون أهدافنا اليوم.
كما هو الحال في أي موقف معقد، يجب أن نتعايش مع حالة عدم المعرفة الهيكلية الذي ليس جهلًا بل هو ضرورة لتطوير كل معرفة. لذلك لا يتعلق الأمر بالتفكير في اليوم التالي وكان الحاضر موضوع بين قوسين. إن حياتنا تجري اليوم بالذات. هذا هو السبب في أن هذا البيان الصغير هو دعوة لأولئك الذين يرغبون في التخيل على التفكير والتصرف الآن.
الرابط الأصلي للمقال:
https://www.contretemps.eu/petit-manifeste-pandemie/