جائحة فيروس كورونا تفتح مرحلة جديدة في تاريخ العالم

حميد علي زاده
2020 / 3 / 23 - 10:07     



تتحرك الأحداث بسرعة فائقة على نطاق عالمي. وقد أطلق فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) سلسلة تفاعلات تقضي على كل مظاهر الاستقرار في جميع البلدان. وصارت كل تناقضات النظام الرأسمالي تتدفق بصخب إلى السطح.


فقد آلاف الأشخاص حياتهم ومن المحتمل إصابة مئات الآلاف بالعدوى. لكن ليس هناك ما يشير إلى أن الجائحة قد بلغت ذروتها. عدد المتوفين يرتفع بنسبة 20% إلى 30% كل يوم. لا يوجد لقاح في الأفق، ولا يبدو أن أحدا لديه خطة معقولة للتغلب على الوضع. معظم البلدان تعمل من تلقاء نفسها مع القليل من الاهتمام بنصائح الهيئات مثل منظمة الصحة العالمية. وقد وصلت أنظمة الرعاية الصحية في البلدان الأكثر تضررا إلى نقطة الانهيار، كما يخشى العاملون في قطاع الصحة في البلدان الأخرى مما سيحدث خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.

يقتصر المرض بشكل رئيسي على الصين وإيران والبلدان الغربية. لكن بمجرد ما سيصل إلى مدن الصفيح والأحياء الفقيرة والمخيمات في أفريقيا والشرق الأوسط وشبه القارة الهندية وأمريكا اللاتينية، حيث لا يوجد سوى القليل من مرافق الرعاية الصحية (هذا إن وجدت أصلا)، سوف نشهد مظاهر جديدة للدمار. عدد الوفيات سيكون بالملايين، وسيكون الخراب والتفكك الذي سيعرفه العالم مماثلا لما يحدث في ظروف الحرب.

لقد تفاعلت أسواق الأسهم بالفعل مع هذه الأحداث من خلال انخفاضات حادة. يوم الاثنين تراجعت أسعار النفط إلى حوالي 30 دولار للبرميل، وتبعتها أسواق الأسهم حول العالم. أعلن بنك إنجلترا، يوم الأربعاء، عن تخفيض أسعار الفائدة بشكل غير عادي بنسبة 0,5%. لكن ذلك لم يكن له أي تأثير على الإطلاق، حيث واصلت أسواق الأسهم هبوطها يوم الخميس وسجلت أسوأ يوم لها منذ 1987. يعكس توتر الأسواق مزاج التشاؤم السائد بين الطبقة الحاكمة. إنهم خائفون من آفاق الاقتصاد العالمي الذي كان أصلا من المنتظر أن يتباطأ.

من المقرر أن تشهد الصين، التي هي ثاني أكبر اقتصاد على وجه الأرض، أول ربع من النمو السلبي تواجهه منذ ثورة ماو الثقافية. يُعتقد أنه تم احتواء المرض في الصين، لكن قطاع الخدمات في مقاطعة هوبي ما يزال في حالة جمود تام. بدأت الصناعات الرئيسية تستعيد إنتاجها، لكن ومع دخول بقية العالم في الركود، فليس هناك سوى طلب قليل. والغالبية العظمى من الشركات الصغيرة والمتوسطة في الصين، التي يشتغل فيها ما يقرب من 80% من العمال، لم تستأنف عملياتها حتى الآن.

لا توجد علامة على امكانية انتعاش سريع. يتوقع بعض الخبراء أن النمو الاقتصادي العالمي قد يتباطأ من 2,6% العام الماضي إلى 01%، ما يعني أن عددا من البلدان ستشهد حالة ركود. لكن حتى هذا يعتبر مجرد متمنيات، إذ ستخضع الصناعة والتجارة والنقل لدورة تلو الأخرى من الاضطرابات وسوف ينخفض​​الاستهلاك وستنقطع خطوط الإمداد مرارا وتكرارا. سيعاني الاقتصاد العالمي من أزمة عميقة.

تتعرض أوروبا لضربة قاسية، ولا سيما إيطاليا، التي تعد ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو. وقد عقد مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي اجتماعا لاتخاذ إجراءات موحدة لمعالجة الأزمة. لكن كل ما استطاعوا تحقيقه هو إنشاء صندوق بقيمة 25 مليار يورو، معظمه موجود بالفعل في ميزانية الاتحاد. أما بقية خططهم فقد كانت رفع قيود الميزانية على الدول الأعضاء. في الواقع لقد ترك لجميع الدول أن تدافع عن نفسها بنفسها، دون أي مظهر للتعاون. وحتى الرئيس الإيطالي ماتاريلا، الموالي للاتحاد الأوروبي، اضطر إلى انتقاد رد الاتحاد في بيان رسمي حيث قال: «تمر إيطاليا بوضع صعب. ومن المحتمل أن تكون تجربتنا في مواجهة انتشار فيروس كورونا مفيدة لجميع بلدان الاتحاد الأوروبي الأخرى. لذلك فإن إيطاليا تتوقع، ومن حقها ذلك، على الأقل من أجل المصلحة المشتركة، مبادرات التضامن [من جانب الاتحاد] وليس القرارات التي قد تعوق هذا الجهد». في الواقع أصبحت إيطاليا الآن تتلقى مساعدات من الصين (تجهيزات طبية مثل أجهزة العناية المركزة، الخ) أكثر بكثير مما تتلقاه من الاتحاد الأوروبي، بل لقد قامت النمسا بالفعل بإغلاق حدودها مع إيطاليا، بينما تحظر بلدان أخرى الرحلات الجوية من وإلى إيطاليا. وقد أغلقت جمهورية التشيك حدودها أمام المسافرين من 15 بلدا. وفرضت فرنسا وألمانيا، وبلدان أخرى، حظرا على تصدير بعض المنتجات الطبية. كل هذا سيتصاعد في غضون الأسابيع، إن لم يكن في غضون الأيام المقبلة. السوق المشتركة يتم إغلاقها فعليا بشكل تدريجي. إن الصدمة الحالية تدفع بجميع التناقضات الداخلية للاتحاد الأوروبي إلى السطح، تماما مثلما حدث بعد الانهيار الاقتصادي العالمي لعام 2008 وأزمة اللاجئين، مما يضع علامة استفهام واضحة حول مستقبل الاتحاد ككل.

دونالد ترامب، الذي كان حتى وقت قريب يعلن أن الفيروس لن يؤثر على الولايات المتحدة، انخرط في هستيريا قومجية واصفا فيروس كوفيد 19 بأنه “فيروس أجنبي”. وأعلن عن فرض قيود على السفر على مواطني العديد من البلدان الأوروبية وأعاد الحديث عن الجدار الحدودي مع المكسيك (على الرغم من أنه لا توجد في المكسيك سوى 12 حالة مؤكدة). من المقرر أن يكون للقيود المفروضة على السفر تأثير فوري على قطاعي السياحة والخدمات. وهذا ما سيدفع الولايات المتحدة على الأرجح إلى ركود اقتصادي.

كما أن روسيا والمملكة العربية السعودية منخرطتان في صراع حول مستوى إنتاج النفط، وهو الصراع الذي أدى بالفعل إلى انخفاض أسعاره. قد تكون النتيجة حدوث عجز لروسيا. الدولة اللبنانية قد عجزت بالفعل عن سداد ديونها، ويمكن لاقتصادات أخرى، مثل تركيا والأرجنتين والهند وإندونيسيا وجنوب إفريقيا، أن تتبعها على المدى القصير أو المتوسط.

لقد أدى انتشار الفيروس إلى تسريع النزعات الحمائية بشكل كبير على نطاق عالمي. تسارع كل طبقة حاكمة للدفاع عن مصالحها وتصدير النتائج الاجتماعية السلبية. ويمكن للحواجز على السفر أن تؤدي بسهولة إلى حواجز تجارية. كما يمكن للحروب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وبين الولايات المتحدة وأوروبا، والتي يعتقد الكثيرون أنها هدأت، أن تشتعل مرة أخرى، بطريقة لا يمكن السيطرة عليها. سيمهد ذلك الطريق لحدوث كساد مشابه لما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي، كساد سيدوم أكثر من الآثار المباشرة للفيروس.


إن البرجوازيين يوجهون اللوم عن الأزمة الاقتصادية إلى الفيروس. لكن الفيروس ليس سوى حادث عرضي أظهر جميع التناقضات المتراكمة في أعماق النظام. إنها أزمة النظام الرأسمالي ككل، والتي تراكمت طيلة عقود. لقد تمكنت الطبقة الرأسمالية من تأجيل انفجارها لبعض الوقت من خلال التوسع الهائل في القروض، أي عن طريق زيادة حجم الديون، التي أصبحت الآن عقبة هائلة أمام النمو. كان من الحتمي أن تنفجر تلك الفقاعة عاجلا أم آجلا. وقد توقعنا ذلك في وثيقة منظورات عالمية، التي تمت صياغتها في نوفمبر الماضي، وتمت المصادقة عليها خلال الاجتماع الأخير للجنة التنفيذية الأممية للتيار الماركسي الأممي. تقول الوثيقة:

«كان الانتعاش ضعيفا جدا وهشا جدا على أي حال، ويمكن لأي صدمة أن تدفع الاقتصاد إلى حافة الهاوية. عمليا يمكن لأي شيء أن يثير الذعر: ارتفاع في أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، خروج بريطانيا من الاتحاد، حدوث اشتباك مع روسيا، تفاقم الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، حرب في الشرق الأوسط تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط، بل وحتى تغريدة غبية من البيت الأبيض (وهناك الكثير منها)».

لقد كان الفيروس، من وجهة نظر الاقتصاد، مجرد حادث عرضي ، لكنه يعبر عن ضرورة بنيوية أعمق. كما أنه يؤثر على كيفية تحرك السيرورة في المستقبل. وبالنظر لطبيعة الفيروس، فإن قدرة الطبقة السائدة على التخفيف من حدة الأزمة أو توجيهها محدودة.

إن الآثار الوبائية للجائحة ستدمر الاقتصاد العالمي الضعيف بالفعل. بدأت البلدان، الواحد منها تلو الآخر، تعلن عن حُزَم من الحوافز الاقتصادية للحفاظ على الاقتصاد في حالة طفو. لكن آثار هذه الإجراءات ستكون محدودة بسبب آثار الجائحة التي لن تزول في وقت قريب. وستتضرر بشدة أجزاء كبيرة من قطاع الخدمات، مثل دور السينما والمقاهي والمطاعم، وما إلى ذلك، حيث سيبتعد الناس عن أماكن اللقاءات العامة. هذه هي القطاعات التي يسود فيها العمل الهش، وسيكون لها تأثير مدمر على هؤلاء العمال. سيستمر الوضع على الأقل حتى يتم العثور على علاجات محددة للمرض. كما ستشهد الصناعات الرئيسية اضطراب عملية الإنتاج. وعلى الرغم من كل محاولات الحكومات فإن معدلات البطالة لا بد أن ترتفع. في المقابل سينخفض ​​الاستهلاك وسيصبح عائقا إضافيا للاقتصاد.

إن الطبقة السائدة مرعوبة من احتمالات البطالة الجماعية واحتداد الصراع الطبقي، وهو ما قد يكون في القريب العاجل. تتخذ الحكومات في العديد من البلدان تدابير خاصة مثل منح تعويضات إجازة مرضية خاصة للعاملين في القطاع العام وغيرهم. لكن هذه الإجراءات لن تحل مشاكل العمال المتضررين. تسمح بعض البنوك للناس بتأجيل أداء ديون الرهون العقارية لبضعة أشهر، كما أن الشركات الصغيرة والمتوسطة تحصل على قروض مواتية وتخفيضات ضريبية. ويناقش البرلمان الأوروبي تعليق معاهدة ماستريخت، التي تلزم الدول الأعضاء بحد أقصى للعجز في الميزانية، يبلغ ثلاثة بالمائة. إنهم يوسعون بشكل كبير إنفاق الدول في محاولة لتجنب كارثة.

لكن من غير المرجح أن يحل هذا أي شيء. من غير المرجح في هذه المرحلة أن تؤدي التدابير الكينزية إلى زيادة الاستهلاك، والذي قد ينخفض بسبب الفيروس لأشهر وربما لسنوات. وبدلا من ذلك يمكن أن تتسبب في حدوث تضخم جامح في قطاعات الاقتصاد. يمكن أن تفلس الشركات الصغيرة والمتوسطة بشكل جماعي. ولا يمكن للتخفيضات الضريبية والقروض الرخيصة أن تعمل سوى على تأجيل المشكلة إلى مستقبل غير بعيد. وستظل ملايين الوظائف في خطر.

في الغرب عمت الهشاشة أعدادا كبيرة من الوظائف في قطاع الخدمات والبناء والنقل، وستكون أول الضحايا. يتكون جزء كبير من القوى العاملة في إيطاليا، وخاصة في القطاعات الأكثر تضررا مثل صناعة السياحة والفنادق والمطاعم، الخ، من مناصب شغل مؤقتة. الوضع أسوأ في البلدان الفقيرة، ففي إيران، على سبيل المثال، يعمل 96% من القوى العاملة بما يسمى بالعقود “الفارغة”، التي تترك العمال بدون حقوق. وستصبح البطالة سببا للتجذر الجماهيري في جميع البلدان.

“الوحدة الوطنية”

الطبقات الحاكمة ودولها تناشد مواطنيها التآزر في وقت الأزمات. لكنهم وراء هذا الوهم يعملون على إلقاء العبء الرئيسي للكارثة على كاهل الطبقة العاملة. تقوم الحكومات، الواحدة منها تلو الأخرى، بتنفيذ إجراءات قاسية. ففي إيطاليا والدانمارك والصين، تعيش بعض المناطق كما لو أنها تحت الأحكام العرفية.

في الصين أجبر عمال مصانع الصلب الرئيسية على البقاء في العمل لمدة شهر تقريبا دون الحق في العودة إلى منازلهم. أما في إيطاليا فإن الأطباء والممرضين يعملون حتى الانهيار. وفي غضون ذلك يُطلب من عمال القطاع الخاص، وخاصة في الصناعة، أن يستمروا في العمل. يطرح الكثيرون الآن السؤال حول ما الذي يعنيه هذا. إذا كانت النصيحة، من وجهة نظر محاربة انتشار الوباء، هي البقاء في المنزل، فلماذا يجب على العمال أن يذهبوا إلى العمل في قطاعات الاقتصاد غير الأساسية؟ الجواب واضح وهو: من أجل ضمان أكبر قدر من الأرباح للرأسماليين. وعلى الرغم من أن حق العمال في الإضراب قد تم تقييده بشدة بسبب تدابير الطوارئ، فإنهم بدأوا في إيطاليا ينظمون بعض التحركات. تنتشر موجة من الإضرابات العفوية عبر إيطاليا، مع خروج العمال للاحتجاج على عدم وجود تدابير السلامة المناسبة. ويطالب المضربون بإغلاق المصانع المنتجة للسلع غير الضرورية، دون فقدان الأجور، وذلك حتى يتم توفير الشروط الصحية المناسبة. لقد وضع هذا ضغطا هائلا على قيادات نقابات CGIL وCISL وUIL، الذين استمروا حتى اللحظة يتعاونون مع أرباب العمل لإبقاء المصانع مفتوحة. كل هذا مؤشر على الأحداث المستقبلية.

في الوقت الحالي بدأ تخفيف القيود في الصين، لكن من المرجح أن يتم إعادة فرضها بمجرد تفشي الوباء من جديد. الدنمارك وإيطاليا تحت الإغلاق. وسيتعين على العديد من البلدان الأخرى أن تفعل الشيء نفسه. تحاول الحكومات أن تبدو وكأنها “تفعل شيئا”. وفي حين أن بعض التدابير المتخذة منطقية من وجهة نظر علم الأوبئة، فإنها تتعرض للتخريب بسبب الملكية الخاصة وفوضى الرأسمالية وحدود الدول القومية. وهكذا نرى مستشفيات القطاع الخاص تحول مرضى كورونا إلى القطاع العام، ويرفض التأمين الصحي الخاص تغطية تكاليف الإصابة بالفيروس. هناك نقص في وحدات الاختبار، والتي يتم إنتاجها في القطاع الخاص. يُطلب من الناس البقاء في المنزل، بينما يُطلب من العمال مواصلة الذهاب إلى العمل. تستفيد الشركات الخاصة من زيادة أسعار المطهرات والأقنعة وحتى وحدات اختبار الفيروسات! وأخيرا حقيقة أن الحكومات المختلفة لا يمكنها حتى تنسيق سياساتها، بل وتتخذ إجراءات غالبا ما تكون مختلفة ومتناقضة، مما يقوض جهود الكفاح من أجل احتواء الجائحة.

في الولايات المتحدة استمر دونالد ترامب، حتى 11 مارس، ينفي أن المرض يشكل أي تهديد. أما في الصين فقد استمرت الحكومة طيلة أسابيع ترفض التحرك ضد الوباء، خوفا من الإضرار بالاقتصاد الهش أصلا. وبدلا من ذلك قامت بسجن واضطهاد الباحثين والمبلغين عن وجوده. في إيران رفض النظام لأسابيع ولو الاعتراف بوجود المرض وذلك من أجل إبقاء المشاركة في الانتخابات البرلمانية على أعلى مستوى ممكن. وحتى يومنا هذا ما زال النظام يخفي شدة المرض. تقول الأرقام الرسمية إن عدد القتلى بسبب الفيروس بضع مئات فقط، لكن التقارير غير الرسمية للوفيات تتحدث عن رقم أكبر من ذلك بكثير. من المحتمل أن يكون عدد المصابين قد بلغ بالفعل عشرات – أو مئات – الآلاف.

وعندما سُئل المرشد الأعلى، خامنئي، عن الإجراءات الخاصة التي يمكن للناس أن يتخذوها ضد الفيروس، اقترح عليهم الصلاة والدعاء. لكن هذا بالطبع مخصص للفقراء فقط، أما إذا أصيب خامنئي نفسه، فكونوا مطمئنين إذ سيحصل على أفضل رعاية صحية قائمة على أساس علمي. يبدو أن المصدر الرئيسي لانتشار المرض في إيران هو مرقد قم الذي يتوافد الحجاج عليه للشفاء. كل هذا يقوض أسس النظام الثيوقراطي. لكن المؤسسة الدينية برفضها قبول الواقع، تقوم بتحدي إجراءات السلامة وتصور الوباء على أنه مجرد مؤامرة غربية. يؤدي كل هذا إلى تحضير الظروف لرد فعل مضاد غاضب من قبل الجماهير الإيرانية، التي تدفع حياتها ثمن تعفن الطبقة الحاكمة.

وفي الوقت نفسه فقد أعاقت عقود من الاقتطاعات في ميزانية أنظمة الرعاية الصحية التدخلات الحالية ضد المرض. في إيطاليا تم إلغاء 46.000 وظيفة في مجال الرعاية الصحية ما بين 2009 و2017، وفقدت المستشفيات 70.000 سرير. كان في مستشفيات إيطاليا عام 1975، 10,6 سرير لكل 1000 شخص، أما الآن فلا يوجد سوى 2,6 سرير! كما أن بريطانيا انتقلت من 10,7 سرير لكل 1000 شخص عام 1960، إلى 2,8 عام 2013. وبين عامي 2000 و2017، تم تخفيض عدد الأسرة المتاحة بالمستشفيات في بريطانيا بنسبة 30%!

توجد نفس الظروف في جميع بلدان العالم الغربي. في إيطاليا غالبا ما يضطر العاملون في مجال الصحة إلى تحديد من يمكنهم علاجه نظرا لمحدودية المرافق التي يتوفرون عليها، مما يعني أن العديد من المرضى سيموتون، ومعظمهم من كبار السن، بسبب نقص الموارد. ومع تزايد عدد الحالات تتعرض أنظمة الرعاية الصحية لضغوط شديدة، وقد تنهار تاركة وراءها مئات الآلاف ليواجهوا مصيرهم. الأغنياء، الذين في مقدورهم الحصول على رعاية صحية خاصة، سينجون من هذه الهمجية. في إيران تلقى العديد من الوزراء والنواب وكبار المسؤولين العلاج الفوري وهم في طريقهم إلى الشفاء بعدما كانوا قد أصيبوا بالفيروس، في حين يكافح عشرات الآلاف من أبناء الشعب للحصول ولو على اختبار. وفي إحدى الحالات المأساوية لممرضة، لم تصل نتيجة اختبارها إلا بعد أسبوع من وفاتها.

في سنغافورة تم تزويد جميع السكان بالمعدات الطبية وأجهزة الوقاية، مثل الأقنعة. وفي الصين تم بناء سلسلة من المستشفيات بشكل سريع للتعامل مع الوضع، وأجريت اختبارات لعشرات الآلاف من الناس، حتى أولئك الذين ليست لديهم أعراض. لكن في بريطانيا يبدو أن الحكومة غير معنية ببذل أي محاولة للاستعداد للكارثة التي من المؤكد أنها ستحدث. انخفضت عمليات الاختبار. وحتى الأشخاص الذين عادوا إلى الوطن من شمال إيطاليا والذين ظهرت عليهم أعراض الإصابة بالفيروس لم يتمكنوا من إجراء الاختبار. بالأمس اضطر جونسون إلى أن يعترف بأن عدد المصابين بالفعل في المملكة المتحدة قد يكون 10.000 شخص. ومع ذلك فإنه يرفض إغلاق أمكان التجمعات الكبيرة، كما حدث في إيطاليا وحتى في اسكتلندا. واكتفى بأن قال ببرودة إنه يتوجب على الشعب الاستعداد “لفقدان أحبائهم قبل الأوان”. وكما ورد في عنوان دقيق لإحدى مقالات نيويورك تايمز: «المملكة المتحدة تحمي اقتصادها من الفيروس، لكنها لم تقم بعد بحماية شعبها».

ظهر الموقف الكلبي لرئيس الوزراء، بوريس جونسون، في مقابلة أجريت معه مؤخرا عندما سُئل عن كيفية التعامل مع المرض، فذكر بشكل عرضي أنه: «… ربما يمكنكم تحمله، ونأخذه جميعا دفعة واحدة ونسمح للمرض، كما هو، بالانتقال عبر السكان، دون اتخاذ العديد من الإجراءات القاسية». أو بعبارة أخرى: ربما يمكننا ترك آلاف الأشخاص يموتون دون اتخاذ أي إجراءات جدية، وذلك لضمان سير الأعمال كالمعتاد. وقد وجهت منظمة الصحة العالمية انتقادات ضمنية لهذا الأسلوب الإجرامي، الذي تتشاركه عدة دول أخرى، مثل السويد والولايات المتحدة، وطلبت من الدول الأعضاء فيها مواصلة محاولة احتواء الفيروس.

لا شك أن هناك شيء من المالثوسية في هذه التصريحات، مما يعكس العقلية المتعفنة للطبقة السائدة. أي أن الفقر والحروب والأوبئة نتاج للزيادة السكانية في العالم وأنه من الضروري تخفيض عدد السكان. وقد كتب جيريمي وارنر، الصحفي في جريدة تلغراف، قائلا: «إذا نظرنا إلى المسألة من منظور اقتصادي محايد تماما، فقد يبدو كوفيد 19 ذا فائدة معينة على المدى الطويل من خلال غربلة المستفيدين من أنظمة الإعالة المسنين». لذا فإن فكرة البرجوازية هو السماح للمرض بأن يجتاح السكان و”غربلة” أكبر عدد ممكن في مرة واحدة، وبعد ذلك ستتمكن بريطانيا من أن تخرج من الركود بشكل أسرع من البلدان الأخرى، التي تنفذ إجراءات أكثر.

نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة غير مجهز لما هو قادم. ملايين الأشخاص الذين ليس لديهم تأمين صحي مهددون بظروف رهيبة. من الممكن في هذه الحالة أن تقوم الحكومة مؤقتا بتأمين الناس. لكن هذا لن يحل مشكلة نظام الرعاية الصحية المتدهور، الذي سيعاني لمواجهة المرض. النظام الأمريكي موجه لشيء واحد فقط وهو: تحويل الأموال إلى جيوب الشركات الطبية والصيدلانية الكبيرة، وهو غير قادر على التعامل مع كارثة وطنية من المستويات التي نتوقع رؤيتها.

لم تتخذ أي تدابير في الأسابيع القليلة الماضية. ليست للمستشفيات أي خطة، ولم يتم توفير التدريب الضروري كما أن المعدات قليلة. وقد رفض “المركز الأمريكي للسيطرة على الأمراض” استخدام وحدات اختبار فيروس كورونا المعتمدة عالميا، التي تم تطويرها في ألمانيا، وقرر بدلا من ذلك تطوير وحدات اختباره الخاصة من الصفر. لكن هذا الإجراء واجهته العديد من المشاكل، مما يعني تأخرا كبيرا للاختبارات وعدم وجود ما يكفي من الوحدات. علاوة على ذلك فإن مراكز الاختبار قليلة، ونتيجة لذلك تستغرق الإجراءات وقتا طويلا للغاية. وبالتالي ففي السادس من مارس، عندما كانت كوريا الجنوبية قد أجرت بالفعل 140.000 اختبار، لم تتمكن الولايات المتحدة من إجراء سوى 2000 فقط! والنتيجة أنه لا توجد نظرة عامة واضحة عن عدد الأشخاص الذين يعانون بالفعل من المرض في الولايات المتحدة. ولا يتم اتخاذ أي تدابير جادة لحماية المواطنين العاديين من الأزمة الصحية والاقتصادية، لكن بمجرد تصاعد الأزمة قام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بضخ 1,5 تريليون دولار في الأسواق لحماية الشركات الكبيرة.

لقد صارت عدم كفاءة الطبقة الرأسمالية بأكملها ومؤسساتها مفضوحة بشكل كامل. يبدو دونالد ترامب بعيدا تماما عن الواقع ويبدو أن جميع أفعاله تحضر لكارثة أسوأ. وفي النهاية قد يؤدي هذا إلى سقوطه. وفي هذه الأثناء صار من الممكن للدعوة إلى قطاع صحي مجاني مؤمم أن تجد صدى واسعا.

وعند كل منعطف سينفضح جشع وفساد الطبقة السائدة أكثر فأكثر. وسيتكرر هذا في جميع أنحاء العالم بينما يواصل المرض طريقه من بلد إلى آخر.

إن مهمة الماركسيين هي فضح الطبقة الحاكمة وجريمة الوحدة الوطنية. يجب علينا أن نوضح التناقض المطلق بين مصالح الطبقة الحاكمة الطفيلية وبين مصالح بقية المجتمع:

يجب علينا أن نرفع في كل مكان مطلب مصادرة جميع مؤسسات الرعاية الصحية الخاصة. يجب تأميم كل قطاع الرعاية الصحية والأدوية على الفور ووضعه تحت سيطرة العمال من أجل التخطيط لبرنامج إغاثة فورية وفعالة لجميع الذين يحتاجون إليها.
يجب الزيادة بشكل كبير في عدد الأَسِرة، وإذا لزم الأمر يجب إنشاء مستشفيات جديدة على الفور، إما عن طريق مصادرة وإعادة استخدام المباني الفارغة مثل الفنادق وما شابه ذلك، أو عن طريق بناء مرافق جديدة من الصفر.
يجب ضمان أجرة التعويض عن المرض للجميع، ويجب ترسيم العمال المؤقتين على الفور، وضمان تعويضات كافية للعمال الذين فقدوا وظائفهم. يجب تمكين الأمهات والآباء ومقدمي الرعاية من إجازة مدفوعة الأجر لرعاية الأطفال والمتضررين من إغلاق المدارس ودور الحضانة وما إلى ذلك.
يجب فرض ضوابط صارمة على أسعار جميع السلع الضرورية. ومصادرة المصانع القادرة على إنتاج منتجات النظافة والمعدات الطبية النادرة.
ينبغي حظر جميع عمليات الإخلاء. ويجب إخضاع المنازل الفارغة التي تستخدم من طرف الأغنياء للمضاربة ووضعها تحت الرقابة الشعبية لتوفير السكن للمشردين.
يجب مؤقتا إيقاف جميع قطاعات الإنتاج غير الضرورية في المناطق المتضررة من أجل منع انتشار المرض، مع ضمان حصول العمال على الأجر كاملا طيلة فترة الإغلاق. يجب على الفور إنهاء جميع الاعانات العمومية للقطاع الخاص، مع ضمان توظيف عمالهم من قبل الدولة، لضمان استمرارهم في تلقي أجورهم.
ينبغي توفير تدابير الصحة والسلامة في أماكن العمل للعمال الذين يستمرون في العمل، مع تحميل تكاليفها للشركات. إذا ادعى الرؤساء أنهم لا يمتلكون المال لذلك، علينا آنذاك أن نطالبهم بفتح دفاتر الحسابات.
يجب مناقشة هذه الخطوات واتخاذ قرار بشأنها من قبل العمال أنفسهم، مع قيام المندوبين النقابيين واللجان المنتخبة في أماكن العمل بالإشراف على تنفيذها. أما إذا كان الحضور النقابي ضعيفا أو غير موجود، فستكون هذه هي الفرصة لبدء التنظيم والمطالبة بالاعتراف بالنقابات.
لا يمكن إيجاد الموارد اللازمة لمكافحة الوباء عن طريق زيادة عجز الموازنة أو رفع الدين العمومي، الذي سيدفع فاتورته العمال من خلال التقشف فيما بعد. يجب فرض ضريبة فورية على الشركات الكبيرة. يجب علينا أيضا أن نرفع مطلب تأميم البنوك من أجل توجيه الموارد إلى حيث توجد حاجة إليها، وتوفير التمويل للأسر والشركات الصغيرة والقطاعات المتضررة من الإغلاق.
يجب تأميم الصناعات التي تواجه الإفلاس ووضعها تحت رقابة الطبقة العاملة، من أجل حماية وظائف العمال وشروط عيشهم. ويجب مصادرة الثروات الخاملة للاحتكارات من أجل تمويل إجراءات الطوارئ المطلوبة.
إن مهمتنا نحن الماركسيين هي لفت الانتباه إلى عدم قدرة الطبقة الرأسمالية على قيادة المجتمع إلى الأمام. يجب علينا أن نشرح بصبر أن الطبقة العاملة وحدها من يمكنها إيجاد مخرج من هذا المأزق من خلال استيلاءها على السلطة بأيديها.

مرحلة جديدة

ما نشهده الآن هو انفتاح مرحلة جديدة في تاريخ العالم. مرحلة الأزمات والحروب والثورات والثورات المضادة. ومثل صخرة ألقيت في بركة من المياه، ستخلق آثار هذه الأزمة موجات ستنتشر في كل ركن من أركان العالم. سيكون هذا أكبر اضطراب تشهده المجتمعات منذ الحرب العالمية الثانية. سوف تسقط كل الأنظمة في حالة من الاضطراب، وسيتحطم التوازن الاجتماعي والاقتصادي والدبلوماسي والعسكري.

وكما أوضحنا مرات عديدة من قبل، فإن الطبقة الحاكمة لم تتمكن أبدا من حل التناقضات التي أدت إلى الأزمة الاقتصادية العالمية لعام 2008. وبدلا من ذلك أعادت فقط نفخ الفقاعة، التي تنفجر الآن مرة أخرى. وفي الوقت نفسه فإن الوباء سيجعل الانهيار حادا للغاية وسيطيل تأثير الركود على الاقتصاد لمدة تصل إلى عامين.

لكن عندما ستنتهي الجائحة، لن تكون هناك عودة إلى “الوضع الطبيعي”. سيكون العقد القادم أكثر اضطرابا من العقد الماضي.

والشيء الأهم بالنسبة للماركسيين هو أن وعي الجماهير سوف يمر بتحولات هائلة. ستكون السيرورة مشابهة جدا لما يحدث زمن الحرب. سوف تكون الأزمة والبطالة الجماعية على رأس جدول الأعمال. وستُفرض إجراءات قاسية على الطبقة العاملة.

ستحاول الطبقة السائدة، في المرحلة الأولى، تحقيق الاستقرار من خلال الدعوة إلى الوحدة الوطنية. كانت المرحلة السابقة قد أدت إلى تآكل مصداقية الأنظمة وسياسييها. ومع ذلك فإن الكثير من الناس سيقبلون بالشروط الجديدة لأنهم سيعتقدون أنها مؤقتة وضرورية. سيعتقد الكثيرون أن الدولة تعمل لصالح الأمة. لكن تدريجيا سيتضح من الذي يُطلب منه أن يدفع ومن الذي تتم حماية مصالحه. سيُطلب من الجماهير أن تقدم المزيد والمزيد من التضحيات لصالح الطبقة السائدة، لكن هناك حدود لذلك. وبمجرد الوصول إلى تلك الحدود، سيتحول الانصياع الظاهري إلى غضب عارم.

يوجد أساس التحول الذي سيعرفه الوعي في الأحداث العظيمة التي يحبل بها المستقبل، والتي سوف تهز الوعي بعمق وتجبره على إعادة تقييم كل شيء. كل شيء تعتبره الجماهير الآن بديهيا سيتغير، من أصغر العادات اليومية إلى الأعراف والتقاليد الوطنية. سيجبر ذلك الجماهير على الخروج من حالة جمودها واقتحام مسرح السياسة العالمية. في هذه الأثناء سيتفكك كل جزء من أجزاء الوضع الراهن وستقف الجماهير في مواجهة بربرية الرأسمالية.

عندما كتب تروتسكي عن بريطانيا عام 1921، شرح هذه السيرورة كما حدثت خلال الحرب العالمية الأولى:

«لا يجب أن ننسى أن الوعي الإنساني، إذا أخذناه على نطاق المجتمع ككل، محافظ بشكل مرعب وبطيء الحركة. وحدهم المثاليون من يتصورون أن العالم يتحرك إلى الأمام من خلال المبادرة الحرة للفكر الإنساني. في الواقع لا يأخذ فكر المجتمع، أو الطبقة، أي خطوة إلى الأمام إلا عندما تكون هناك حاجة ماسة للقيام بذلك. وكلما كان ذلك ممكنا فإنه يتم تكييف الأفكار القديمة المألوفة مع الحقائق الجديدة. نتحدث بصراحة إذا قلنا إن الطبقات والشعوب لم يقوموا، حتى الآن، بأي مبادرة حاسمة إلا عندما جلدهم التاريخ بسوطه الثقيل. لو أن الأمور كانت غير ذلك، هل كانت الشعوب لتسمح بحدوث الحرب الإمبريالية؟ لقد كانت الحرب تقترب أمام أنظار الجميع، مثل اقتراب قطارين يندفعان نحو بعضهما على خط سكة واحدة. لكن الشعوب بقيت صامتة، وشاهدت، وانتظرت واستمرت في عيش حياتها اليومية المحافظة المعتادة. كانت الاضطرابات المخيفة التي تسببت فيها الحرب الإمبريالية ضرورية لإدخال تغييرات معينة في الوعي وفي الحياة الاجتماعية. فقام الشعب العامل في روسيا بالإطاحة برومانوف وطرد البرجوازية واستولى على السلطة. في ألمانيا تخلص العمال من آل هوهنزلرن لكنهم توقفوا في منتصف الطريق… كانت الحرب ضرورية لكي تحدث هذه التحولات، الحرب مع عشرات الملايين من القتلى والجرحى والمعاقين… يا له من دليل واضح على الطبيعة المحافظة والبطيئة للفكر الإنساني، وكمِّ العناد الذي يتشبث به بالماضي وبكل ما هو معروف ومألوف وموروث، إلى أن تأتي ضربة الكرباج التالية».

لقد بدأنا منذ الآن نرى المراحل الأولى لهذه السيرورة. ففي إيران هناك غضب ثوري في كل مكان. تقول إحدى التغريدات التي تشرح يأس الشعب: «لقد توفي عمي قبل يومين بسبب فيروس كورونا. منذ سن السابعة، بعد وفاة والده، وحتى سن 77 وهو يكدح. وخلال الأزمة التي انتشرت في قم، لم يستطع البقاء في المنزل لأنه اضطر للاختيار بين الخبز وبين حياته. هذه أعنف فكرة تجول في ذهني».

نعم هذه فكرة مريرة للغاية، تشبه الأفكار التي تدور في عقول ملايين الناس الآخرين. يموت الآلاف من الناس لا لسبب سوى جشع وعدم كفاءة الطبقة السائدة. خطر الفيروس هو الشيء الوحيد الذي يعوق الحركة الجماهيرية، لكن هذا ليس سوى عامل مؤقت، وبمجرد أن ينقشع الغبار ستبدأ الجماهير في التحرك مرة أخرى.

في الإكوادور، طرح لينين مورينو حزمة إجراءات تقشفية للتعامل مع آثار الأزمة. ومن المؤكد أن يؤدي ذلك إلى اندلاع انتفاضات جديدة، بعد مرور أشهر فقط على تلك الحركة الجماهيرية التي كادت تسقط الحكومة. أما في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، فلم تتوقف الثورة العربية إلا بفعل الرفع من الإنفاق الحكومي. لكن مع انخفاض أسعار النفط لم يعد من الممكن استمرار ذلك الإنفاق، وسوف يكون التقشف على رأس جدول الأعمال. وفي الصين، استمر الخبراء لسنوات يقولون إن نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 06% ضروري لمنع حدوث الاضطرابات الاجتماعية. لكن هذا الرقم صار شيئا من الماضي.

وفي إيطاليا يتطور مزاج مماثل، وعلى وجه الخصوص بين أولئك الموجودين على الخطوط الأمامية أي: الأطباء والممرضين وغيرهم من العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين يعانون من عبء ثقيل ويتعين عليهم التعامل مع نقص الموارد المقدمة لهم من طرف السلطات. لا يمكنهم التحرك في الوقت الحالي بسبب العبء الثقيل على أكتافهم. لكنهم لن ينسوا ما يرونه أيضا. وعندما ستحصل هذه الفئات على فرصة للتنفس، ستبدأ في الانتقال إلى الهجوم.

لن تنجو البلدان الرأسمالية المتقدمة من هذه السيرورة. فهناك تدخل الجماهير مرحلة أزمة، ليس بعد فترة من النمو والازدهار، بل بعد أكثر من 10 سنوات من التقشف والهجمات التي أعقبت أزمة 2008. إن معدل الثقة في السلطات والمؤسسة قد وصل بالفعل إلى أدنى مستوى له على الإطلاق. ويعتبر الإقبال على الادخار وعدم الانتباه لتوجيهات السلامة في بعض المناطق مؤشرا على ذلك. وعلاوة على ذلك فبدلا من العودة إلى مستويات المعيشة التي كانت لهم قبل عام 2008، سيتم رميهم إلى ظروف بطالة جماعية وفقر لم يسبق رؤيتها خلال فترة ما بعد الحرب. وهذا ما سيجبرهم على السير في طريق النضال.

في سياق ذلك النضال سيتغير وعي الطبقة العاملة وستتغير معه قيادتها ومنظماتها. وخلال تلك السيرورة ستفتح أمامنا نحن الماركسيين العديد من الفرص لكسب الجماهير لأفكارنا – بدءا من الفئات المتقدمة، وبعد ذلك جماهير الطبقة العاملة. إن أفكارنا هي الوحيدة التي يمكنها أن تشرح الأحداث الجارية اليوم.

إن الكارثة التي نواجهها على كل المستويات هي نتاج للنظام الرأسمالي. فمن تدمير البيئة الذي أدى إلى زيادة الأوبئة، وانحطاط قطاع صناعة الأدوية الذي لا يهتم بالاستثمار في تطوير عقاقير جديدة إلا إذا كانت مربحة؛ إلى أنظمة الرعاية الصحية التي تعرضت لسنوات من الاقتطاعات، والتي تمت خصخصتها وتدميرها لدرجة أنها صارت غير قادرة على التعامل مع أي تغييرات مفاجئة. وعلاوة على ذلك فقد أثبتت الطبقة السائدة، وخدمها في الحكومات في جميع أنحاء العالم، أنهم غير أكفاء مطلقا فيما يتعلق بالكفاح ضد المرض. فعند كل محطة حاسمة تسبب رفضهم التضحية بأي قسط من أرباحهم في السماح للوباء بالانتشار أكثر. وفي سياق الاستجابة للجائحة سيحاولون رمي تكاليف الحرب ضدها وتكاليف الأزمة الاقتصادية على عاتق الطبقة العاملة.

البيئة في حالة خطر شديد، حيث تضرب أعداد غير مسبوقة من الفيضانات وموجات الجفاف مناطق مختلفة من العالم، وتهدد أسراب الجراد ظروف عيش عشرات الملايين من الناس. الحروب والحروب الأهلية مستعرة في أفريقيا والشرق الأوسط. والكوارث تتوالى على ضرب كوكبنا. لكن هذا ليس مؤشرا على نهاية العالم كما قد يظن البعض. إنه مؤشر على سكرات احتضار نظام صار عائقا أمام تقدم المجتمع البشري. لم يكن شعار الاختيار بين الاشتراكية وبين البربرية أكثر وضوحا مما هو عليه الآن. إن الرأسمالية هي الرعب بدون نهاية. لكنها وفي خضم نشرها لرعبها، تخلق حفاري قبرها، أي: الطبقة العاملة التي تقود وراءها الفقراء والمضطهَدين. وبمجرد أن يبدأ العمال في التحرك، لن تكون هناك قوة في العالم بأسره قادرة على إيقافهم.